وهيبة سقــــــــــــــــاي /
قسنطينة-الجزائر
لمحها في منتصف الطريق ،
مرّ بجانبها ،أسرع الخطى، مصمّما على أن ينتظرها عند واجهة محّل قريب ، و من ثّم
استدراجها في الكلام.
ربّما ستلحق به و تسير إلى جانبه ،ويمضيان معا في طريقهما.
ولكنها لم تفعل ، إذ أنها سارت غير مكترثة به ،ومرّت أمامه دون أن تلتفت إليه، أو
حتّى تنتبه لوجوده.
بالرّغم من ذلك
عزم على أن يكلّمها. لا زالت ماكرة
متكّبرة ،كما كانت في الماضي. وتذّكر كيف سبّب له هذا المكر والكبرياء كثيرًا من
المتاعب.
بادرها بالتحيّة ، تظاهرت بالدهشة و قالت:
ـ يا للسمّاء !! هذا أنت... لقد أخبروني أنك متّ !
ثارت ثائرته ،وامتلأ
حنقا عند سماعه لذلك ... لو كان مات حقا لما أثّر ذلك في نفسها، ولاستمّرت في حياتها
كأن شيئا لم يحدث ..
رّد عليها هازلا:
ــ يبدو لي أن الحياة قد ابتسمت لك، وأنّك تعيشين الآن
عيشة سعيدة.... !
-طبعا ،ولم لا أكون سعيدة، لقد اختلفت حياتي بعد طلاقي منك ، و كُتب لي النجاح بعدها.
سار إلى جانبها وشعر كأنّه طفل صغير ساذج يسير بجانب
عملاق قوّي، وبدا له أنّه يتبعها في ضعف واستخذاء ....و لكن من الضروري أن
يوهم نفسه بأنّه الأقوى ، يجب أن يبدو بمظهر رجل قوّي ، قابلته إمرأة ما ،في
شارع ما ،فأخذ يعاكسها، لا أكثر و لا أقّل ...
ـــ والآن، أين
تنوين العزم ؟ هل أنت متّجهة إلى
ناحية معيّنة ؟
لم تلتفت إليه ، وردّت
بكّل برود :
ــــ أنا سائرة كما ترى ...
مرّا أمام ميدان واسع ، وكان عليه أن يعرّج إلى اليمين
ليسلك طريق المحطة ،ويستقّل القطار . أشار
إليها بذلك ،لكنّها أخبرته أنّ وجهتها
تختلف عن وجهته ،و أنّ طريقها غير طريقه .
توّقفت عن السّير ،و استعّدت لتوديعه ، أما هو فقد وقف
حائرًا ولم يدر كيف يجعلها تعدل عن
فكرتها...لمح مقهى قريبا ، وبدت له فرصة يمكن
أن تنقذه من موقفه الحرج ،فلا يدعها بذلك تفتخر بأنّها نبذته ،وتركته على قارعة الطريق ...
ـــ إذا كان أمامك متسّع من الوقت ،فلا بأس من أن نجلس
بهذا المقهى؟ .
ضحكت ضحكة مقتضبة، وفكرت قليلا ثم قالت:
- بكل سرور !
ودخلا المقهى وجلسا
قبالة بعضهما البعض ، وطلبا شرابا
منعشا.... وما إن جلسا حتّى أحسّ بكلمة تجري على شفتيه،كلمة اعتاد أن
يفاجئها بها عند رجوعه كلّ مساء من عمله ، عبارة : "حسنًا....ماذا وراءك يا
حبيبتي؟؟"
أي ما الذي حدث لك أثناء غيبتي ...والآن و قد مضت ثمان سنوات منذ أن تفارقا، وجد فمه ينفرج
فجأة عن ثلث هذه العبارة ،قائلا:
ــــ حسناً...
إنّه لم يتعوّد أن يتفّوه بهذه هذه الكلمة أمام أيّة
امرأة أخرى. لم تستطع أن تكبح جماح نفسها من ابتسامة خبيثة ، وبدلا من أن تجبه قالت:
ــــ يبدو لي أنك لم تتعلم حتّى الآن كيف تجيد ربط
"الكرافات"..انحن قليلا ،سأربطها لك.
وابتسم بدوره...
إنّها لم تخطئ ، إنّه لا يجيد ربط "الكرافات"، و سيظّل أخرقا للأبد .قام
لتوّه ونظر إلى مرآة المقهى وابتسم قائلا:
ـــ إن هذا لعجيب منك... مازلت دقيقة الملاحظة كما
عهدتك !.
وصمتا بعد ذلك.... وأخذ إرتباكهما يزول شيئا فشيئا، لتحّل
محله ألفة بعثها الحاضر من قبر الماضي. أخذ يقّص عليها كل ما وقع له أثناء هذه
الأعوام الثمانية التي قضاها بعيدا عنها ،بنفس الطريقة التي إعتاد أن يحدّثها بها،
عندما كان يعود إلى البيت بعد انصرافه من عمله...
لقد تزوج ثانية بعد طلاقهما ،ورُزق بطفلين، عمر أكبرهما
سبع سنوات ،والأصغر خمس.
لم يزل يمارس مهنته القديمة، ولكنه غيّر مسكنه ، صار يقطن بحّي آخر ، وعند ما
قابلها كان في طريقه إلى بيته الجديد .
لقد أخبرها بكل هذا ،و كان هذا كل شيء ...ولمّا إنتهى من سرد قصّة حياته الجديدة ، مكث صامتًا
وأخذ ينظر إليها ويستعرض الماضي كلّه ، صورة
بصورة ....
إنهّا الآن تبدو أمامه كأنها إمرأة جديدة، لقد خيّل إليه
أنه لم يكن قد صادفها من قبل . وتذّكر أنه لما تزوج منها كان يعتقد أنّ عينيها زرقاوان
... ولكنه لم يستطع أن يتصّور كيف حمله
التفكير بعد الطلاق، إلى أنهما كانتا
عسليتان... يا لهما من عينين جميلتين، إنهما كانتا جميلتين حقّا !!.
تذكر أنها لم تكن البتّة مجنونة ، أو متعجرفة كما كان يظن ويعتقد، وصرّح لها بكل
هذه الملاحظات والأفكار التي خطرت بباله ، فضحكت وقالت:
ــــ إنك لم تفهمني أبدًا !!.
كانت متشوّقة لأن تعرف كل ما حدث له ، متشّوقة إلى معرفة
الكثير من أخباره، ولهذا سألته:
ــــ والآن هل لك
أن تحدثّني قليلا عن زوجتك؟
لزم الصمت لبرهة
من الزمن ، ثمّ قال:
ـــ أتريدين أن أحدثك عنها يا "نورة" ؟ إذن
اسمعي...
إن هناك زوجة واحدة في الحياة... الرجل لايتزوج سوى مرة
واحدة .أمّا إذا حدث وتزوّج ثانية ،فإنما
يكون ذلك لإدارة شؤون المنزل ،والإنجاب ...
وما كاد ينطق
بهذه الكلمات حتى انتفض من أعماق نفسه، وبدا على وجهه الحزن...وتذكركم كان
يتمّنى أن يكونا سعيدين، لو شاءت هي
ذلك...
و عقد العزم على أن يطرح عليه سؤالا طالما حلم بمعرفة
ردّها عنه :
ــــ ما الذي كان يدفعك دوما إلى تنغيص حياتنا؟
فأجابته بنبرة رقيقة :
ـــ ما الذّي كنت تتوقعّه منّي؟؟ لقد كنت أصغرك بعشرة أعوام
،والأصغر دائما يكون متعجلا و طائشًا !.
يا إلهي كم تبدو الآن في نظره جميلة وساحرة ...أكثر مما
كانت تبدو أثناء زواجهما ...
ــــ إنّك لم تخبريني ماذا حدث لك طيلة هذه الأعوام
الثمانية ؟
ـــــ يا لك من طفل صغير ...لا تضطرني أن أخبرك بكل ما
وقع لي..إنّك تعرف حالة المرأة المطلّقة، فغالبا...
وقاطعها قائلا :
ــــ إنّي أحّس بشيء
يدفعني إلى معرفة ذلك ... وعلى أيّة حال أتمنى أن لا يكون قد أصابك أي
مكروه.
ولبثا ينظران إلى بعضها في صمت، و كانت نظراتهما مفعمة
بشجن وحنين إلى العهد الذّي مضى ..
ـــــ أرجو ألا تكون قد صُدمت من مقابلتي الجافّة لك؟...
لقد كنت أخشى أن نجتمع ،ونتحادث فنتذّكر الماضي ونتألم على خطأ ارتكبناه سوّيا....
وهنا دقت الساعة مشيرة إلى تمام السابعة والنصف . ولكي لا تطيل اضطرابه وقلقه، أضافت:
ــــ اسمع يا "هشام" أنا لا أريد أن أحتفظ بك
الآن... لو تأخرتَ ،فإنّ ذلك سيزعج زوجتك حتما ...
ـــــ نعم.هذا صحيح ، وسيكون انزعاجها أشّد لو تمَّكنت
من قراءة أفكاري هذا المساء ....
و كان الوداع ... تصافحا بحرارة ، كصديقين قديمين متحّابين ، لم
توّفر لهما الحياة أسباب الراحة والانسجام العاطفي... و افترقا في منتصف الطريق .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق