-قراءة في العدد الثاني من مجلة بونة للبحوث والدراسات-
د.محمد
سيف الإسلام بـوفـلاقـة
-جامعة
عنابة-الجزائر
توطــئة:
تعد مجلة بونة للبحوث والدراسات،التي تصدر عن مؤسسة بونة للبحوث والدراسات
بمدينة عنابة، واحدة من المجلات الجزائرية، و العربية البارزة ، وقد امتازت
بحضورها على الساحة الثقافية بمواضيعها، وأبحاثها العميقة، والجادة، التي تمازج
بينالأصالة،والمعاصرة،لتضمن التواؤم بين القديم ،والجديد.
وقد خصص العدد الثاني من المجلة لجمعية
العلماء المسلمين الجزائريين،وقد كتب فيه عدد كبير من الباحثين،والعلماء
المتميزين.
اشتمل العدد
على مجموعة من الدراسات القيمة عن جمعية العلماء المسلمين، وأفكارها،ونهجها
الإصلاحي، ،تناول فيها الكتّاب قضايا
كثيرة تتعلق بمبادئها،وأسسها، ومشـروعها
الإصلاحي.
وقد قسم العدد إلى قسمين رئيسين:
القسم الأول:يتصل بالأبحاث والدراسات،ونلفي
فيه دراسة للدكتور رابح تركي عمامرة،موسومة ب:« التعريف بجمعية
العلماء المسلمين الجزائريين :نشأتها،و
أهدافها، وأعمالها التربوية،
والوطنية، ودورها في ثورة الفاتح نوفمبر»،وقد قسمها إلى عدة عناصر،حيث عرّف
الجمعية،مقتبساً ما جاء في منشور لجمعية العلماء المسلمين
الجزائريين،نُشر في جريدة البصائر عدد 160 الصادرة في 07 أبريل 1939 م، ما يلي:
» إن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين جمعية إسلامية في سيرها
وأعمالها، جزائرية في مدارها، وأوضاعها، علمية في مبدئها، وغايتها، أسست لغرض
شريف، تستدعيه ضرورة هذا الوطن ،وطبيعة أهله، ويستلزمه تاريخهم الممتد في القدم
إلى قرون، وأجيال، وهذا الغرض هو تعليم الدين ولغة العرب، التي هي لسانه المعبر عن
حقائقه للكبار في المساجد التي هي بيوت الله، وللصغار في المدارس على وفق أنظمة لا
تصادم قانونا جاريا، ولا تزاحم نظاما ما رسميا ،ولا تضر مصلحة أحد، ولا تسيء إلى
سمعته فجميع أعمالها دائرة على الدين، والدين عقيدة، اتفقت جميع أمم الحضارة على
حمايته، وعلى التعليم، والتعليم مهنة، اتفقت جميع قوانين الحضارة على احترامها،
وإكبار أهلها «.
أما المبادئ التي ناضلت من أجلها جمعية
العلماء المسلمين الجزائريين ،فقد أوضح الدكتور رابح تركي عمامرة أنه»
يمكن اختصارها في الشعار المعروف الذي
كانت تكتبه على غلاف البعض من كتبها المدرسية التي يدرس فيها تلامذة مدارسها، وهي
: الإسلام ديننا، العربية لغتنا، الجزائر وطننا.
... وكانت جريدة البصائر، وهي اللسان
المركزي لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين تحمل في صدر صفحتها الأولى تحت
العنوان مباشرة، الشعار التالي : وهو (أي شعار الجريدة) العروبة ،والإسلام، وذلك
بتقديم لفظ العروبة على لفظ الإسلام، باعتبار اللغة العربية هي لغة القرآن الكريم،
وبالتالي هي لغة الإسلام.
وطبقا لشعارها، الإسلام ديننا، والعربية لغتنا ،والجزائر وطننا، وهي
المقومات الأساسية للشخصية الجزائرية ماضيا، وحاضرا ،ومستقبلا، فقد ناضلت جمعية
العلماء نضالا صامدا لا هوادة فيه، ضد كل ما يمس أحد مقومات الشخصية الجزائرية من
قريب، أو بعيد، ولذلك حاربت حربا شعواء الأمور التالية :
1-
التنصير
2-
الفرنسية
3-
التجنيس
4-
الاندماج في
فرنسا
كما كانت تحارب حربا شعواء كذلك، ظاهرة زواج
الجزائريين بالأوروبيات، وكانت تنادي بأن كل جزائري يتزوج بامرأة أوروبية، فهو
قد أدخل الاستعمار إلى بيته.
إن أركان جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ،قد تجلت فيما كتبه الشيخ عبد الحميد بن باديس في البصائر عدد 83
الصادرة في 30 سبتمبر 1937 م ، يقول : العروبة، والإسلام,و الفضيلة، هذه أركان
نهضتنا، وأركان جمعية العلماء المسلمين الجـزائريين، التي هي مبعث حياتنا، ورمز
نهضتنا، فمازالت هذه الجمعية منذ كانت
تفقهنا في الدين، وتعلمنا اللغة، وتنيرنا بالعلم، وتحلينا بالأخلاق الإسلامية
العالية، وتحفظ علينا جنسيتنا، وقوميتنا، وتربطنا بوطنيتنا الإسلامية
الصادقة.
وبعد أن تحدث الدكتور رابح تركي
عمامرة،عنأهدافها،ومبادئها تساءل عن كيفية مقاومة جمعية العلماء المسلمين لسياسة
التجنيس،فهو يرى أن من أهم المسائل
التي كانت موضع احتكاك بين جمعية العلماء، وحكومة فرنسا في الجزائر، هو موقف
الجمعية من سياسة التجنيس التي فرضتها فرنسا على الجزائريين بمقتضى القانون
الإمبراطوري الصادر في 14 جويلية1865
م.
وقد نص القانون المذكور في أحد
فصوله على أن » الأهلي الجزائري "فرنسي" « ونص في فصل آخر على أن
الجزائري لا ينال الحقوق السياسية التي يتمتع بها المواطن الفرنسي الأصل، إلا إذا
تجنس بالجنسية الفرنسية.
وقد ذكر واضع هذا
القانون الغريب أن المسلم الجزائر "الفرنسوي" بمقتضى الفصل الأول تجري
عليه أحكام الشريعة الإسلامية.
وأما المسلم الجزائري "
الفرنسوي" حسب الفصل الثاني "أعني" (المتجنس) فتطبق عليه نصوص
الشريعة الفرنسوية (القانون المدني الفرنسي في مسألة الأحوال الشخصية من زواج،
وطلاق، وميراث).
وفي عام 1919 م صدر قانون آخر لم يدخل
على قانون 1875 أدنى تحسين بل أبقى المسلم الجزائري مخيرا بين أمرين :
إما أن يكون فرنسويا بلا حقوق، وإما
أن يتجنس بالجنسية الفرنسوية، التي هي جنسيته الرسمية (رغم أنفه) و ينسلخ عن
الذاتية الإسلامية لينال الحقوق الفرنسية وقد اشتدت دعوة الجزائريين إلى التجنس
بالجنسية الفرنسية والتخلي عن أحكام الشريعة الإسلامية بعد مرور قرن على احتلال
فرنسا للجزائر وذلك في عام 1932
م. حيث أصبح للتجنيس دعاة متحمسون من بعض الجزائريين الذين
سبق أن تجنسوا بالجنسية الفرنسية وأرادوا أن يكثر عددهم فأسسوا لذلك بعض الجرائد
التي صارت تحث الجزائريين على التجنيس، من أجل الحصول على الحقوق الفرنسية في
مقابل التخلي عن أحد مقومات الشخصية الجزائرية ،وهو الإسلام. وقد هال الأمر جمعية
العلماء بعد تكوينها في عام 1931
م فشنت على التجنيس ودعاته حملة شعواء بواسطة الخطابة،
والندوات العامة، والدروس الدينية، ثم بواسطة جريدتها البصائر التي أصدرتها في عام:1935 م.
فقد كتب رئيس تحريرها الشيخ الطيب
العقبي افتتاحية عنيفة تحت عنوان :» مكمن الصرعية في التجنس والمتجنسين « مما جاء فيها قوله :
»" التجنيس – بمعناه المعروف في شمال إفريقيا – حرام، والإقدام
عليه غير جائز بأي وجه من الوجوه ".
ومن استحل
استبدال حكم واحد من أوضاع البشر وقوانينهم بحكم من أحكام الشرع الإسلامي فهو كافر
مرتد عن دينه بإجماع المسلمين. لا يرجع إلى دائرة الإسلام وحظيرة الشرع الشريف حتى
يرفض باتا كل حكم وكل شريعة تخالف حكم الله وشرعه المستبين «.
وكتب الشيخ
العربي بن بلقاسم التبسي رئيس لجنة الإفتاء بجمعية العلماء افتتاحية في البصائر
تحت عنوان:» التجنيس كفر وارتداد « مما جاء فيها ما يلي :
» ... فهؤلاء المبتدعون للتجنيس على علم بتلك الحقيقة الاجتماعية
الدينية " من كثر سواد قوم فهو منهم" فيكون التجنيس غزوا للعقائد
الإسلامية. ومحاولة لتكفير المتجنس بطريقة يستهوي الذين يؤثرون الحياة الدنيا على
الآخرة، وأنا أتحقق كما يتحقق كل عائق أن هذه المكفرات لا يفعلها من ربي من أحضان
الإسلام. وأشرب قلبه حسب ما جاء في كتاب الله ، وإنما يرتكبها من أنشئ نشأة بعيدة
عن الإسلام، وتعاليمه «.
كما نقرأ في هذا العدد
مقالاً للباحث المعروف الدكتور عبد الملك مرتاض تحت عنوان: »جمعية
العلماء : الأسس، والمبادئ، وجبهات النّضال...
«،ذكر فيه في البدء: » إنّ جمعيّة العلماء المسلمين الجزائريّين مؤسّسة فكريّة، وتربويّة،
ودينيّة كبيرة، وهيئة سياسيّة متألّقة تعتمد الثقافة والعلم، والفكر سبيلاً لها في
تحقيق أهدافها، وإجراءً في نشر أفكارها ،وآرائها. وهي هيئة لم يعرف التّاريخ
الثقافيّ، ولا السّياسيّ مثيلاً لها في الجزائر. فقد تأسّس، في العِقد الأخير،
أحزاب كثيرة، وكبيرة حاولت أن تصاول الحزب الكبير الأوّل في الجزائر؛ لكن من
العسير، بل ربما يكون من المستحيل، نِشْدانُ هيئةٍ فكريّة، وثقافيّة، وتربويّة في
مستوى جمعيّة العلماء التّاريخيّة: شجاعةَ نضالٍ، وتألّقَ فكر، وبيانَ تبليغ،
وسَعةَ نشاطٍ، وقوّةَ إعلام، وامتدادَ نفوذ، وعظمةَ مكانةٍ في السّاحة الوطنيّة
كلّها. وقد يقول قائل: اختلف الزّمان، وتغيّرت الأحوال، وعادت الدّولة هي التي
تتولّى أمر التّربية، والتّعليم، ووزارة الثقافة هي التي تتولّى أمر التنشيط
الثقافيّ، والفكريّ… وقد نقول نحن أيضاً ذلك، ولكنّ النتيجة تظلّ واحدةً، والحكم
قائماً لا يَريم؛ أي أنّ جمعيّة العلماء كانت فلتة في التّاريخ الوطنيّ فلا
تتكرّر.
وقد أشار الدكتور عبد الملك مرتاض إلى
العوامل التي حددها الشيخ محمّد البشير الإبراهيميّ،والتي كانت سبباً في نشأة
الجمعية :
1-
آثار الشّيخ
محمّد عبده؛ وذلك بطريقة المعارضة الشّديدة من الفقهاء الجزائريّين المتزمّتين
لأفكاره التي كانت تتسرّب إلى الجزائر بواسطة مجلّة » المنار«
2-
» الثورة التّعليميّة التي أحدثها الأستاذ الشّيخ عبد الحميد بن
باديس بدروسه الحيّة «؛
3-
» التّطوّر الفكريّ الذي طرأ على عقول النّاس في عقابيل الحرب
العـالميّة الأولى «؛
4-
» إيَاب طائفة من المثقّفين الجزائريّين الذين كانوا يعيشون في
المشرق العربيّ، ولا سيّما في الحجاز والشّام، وأبرزهم الإبراهيميّ، والعقبيّ«.
ويضيف الدكتور مرتاض إلى العوامل التي حددها
الشيخ الإبراهيمي عوامل أخرى،فيقول: »وأمّا نحن فنودّ أن نضيف إلى هذه العوامل الأربعة التي ذكرها
الإبراهيميّ، والتي نسلّم بها، ثلاثة عواملَ أخرى؛ قد لا تقلّ أهمّيّة عن الأربعة؛
وهي:
1-
اشتداد تأثير
الحركات الصّوفيّة بالجزائر، وازدياد نشاطها، وتكاثر طرائقها حتّى جاوزت العَشرَ،
وحتّى اكتسحت جميع المدن، والقرى، بل البوادي أيضا، في الجزائر، فأمست تصول،
وتجول، فلم يكن شيءٌ يُتداول بين مستنيري النّاس غير الفكر الصّوفيّ، الذي لا
يجاوز سِيَر الشّيوخ، وكراماتهم؛ وميل أهل التّصوّف، من عوامّهم خصوصاً، إلى
الإغراق في الرّوحيّات، والكلَف الشّديد بالخوض في أمور الغيب على سبيل اليقين،
والتّعلّق المثير بمَشاهد البَرَكة، والمناقب، والكرامات.
2-
اشتداد شراسة
الاستعمار الفرنسيّ، ومبالغته في محاربة اللّغة العربيّة والدّين الإسلاميّ ،والتّمكين
للتّخلّف الذهني،ّ والشّعْبَذة لدى النّاس، وتشجيع ممارسات، وطقوس فلكلوريّة ،ليست
من الدّين الصّحيح في شيء: إلى حدّ الهوَس.
3-
شيوع الجهل بين
عامّة الجزائريّين، حيث كانت الأمّيّة تجاوز ثمانين في المائة في أوساط
الجزائريّين من الذكور، وربما كانت تجاوز تسعين في المائة في أوساط الجزائريّات.
ولذلك نجد الأستاذ المرحوم محمّد إبراهيم الكتّانيّ الذي كان شديد الإعجاب بالحركة
الإصلاحيّة في الجزائر، فكان لا يزال يتحدّث عنها بتقدير، وإعجاب، لطلاّبه بجامعة
الرّباط : يُرَاعُ للحالة التي كان الجزائريّون عليها في العِقد الرّابع من القرن
العشرين (وقد ازدار الجزائرَ عام خمسة وثلاثين وتسعمائة وألف)، حين يقول: »
شاهدت من تعاسة المسلمين ودينهم ،ولغتهم، ما لم أكن أتصوّر أنّ الحالة وصلت إلى
معشاره: جهل باللّغة العربيّة فظيع، وطمْس لمعالم الدّين شنيع….«
ومجتمعٌ مثلُ هذا شأنُه من التّخلّف، والانحطاط التّعليميّ الفكريّ، ومن
شُهود المتناقضات الطّبَقيّة، وتفاوُت مستويات الحياة فيه، بحيث كانت تتراوح بين
وجود معمّرين أغنياء يتجشّؤون كِظَّةً، متطوّرين يعيشون في المستويات العليا من
الرّغَد، والبحبوحة، ويقطُنون أنظف المدن شوارعَ، وأنضَرِها حدائقَ؛ وجزائريّين
فقراء يتضوّرون مسغبة، جُهلاءَ يعيشون في الدّرَك الأسفل من الْمُعاناة والشّظَف
والحرمان؛ فكانوا يَشْقَوْن في أعماق الأودية السّحيقة وقمم الجبال الجرداء،
والأحراش الجدباء: كان ذلك كلّه لا ريبَ ممّا يدعو أيَّ مفكّر مستنير وجريء إلى
البحث عن تجاوُز المحنة، والْتماس سبل الإصلاح. وهي خصوصيّة لم توجد في أيّ مجتمع
عربيّ إسلاميّ آخر غير المجتمع الجزائريّ. وإلى اليوم لا تزال ترسّبات باقية من
تلك التّناقضات وألوان الشّقاء التي كان يكابدها الشّعب الجزائريّ في بعض حياته الاجتماعيّة.
فليس الإفلاتُ من الشّقـاء الطّويل بالأمر
الهَيْنِ. وليس عذاب الاستعمار مجرّدَ طعامٍ غير سائغٍ يمكن لأيّ شعبٍ التّهَوُّعُ
منه متى شاء. وعلى أن علاّل الفاسيّ كان يرى أنّ الحركتين الإصلاحيّتين،
الجزائريّة والمغربيّة، تقومان على أسُس
واحدة، كما كانتا تسْعَيَان إلى تحقيق إلى أهداف واحدة؛ وتمثُل هذه الأهداف خصوصاً
في محاربة الشّعوذة، والدّعوة إلى الاستدلال، والانتقاد، والتّفكير، والرّجوع
بالشّريعة الإسلاميّة إلى أصولها الأولى«.
و اختتم
الدكتور عبد الملك مرتاض مقاله بتقديم مجموعة من الملاحظات الهامة،إذ جاء في ختام
مقاله: »ويمكن أن نستخلص
ممّا سبق أنّنا حين كنّا زعمنا أنّ حركة جمعيّة العلماء ربما كانت أنجح الحركات
الإسلاميّة في بلوغ بعض غاياتها فبما كان لنا من بُرْهانَاتٍ على ذلك، وقد أنَى
لنا ذِكْرُ بعضها هنا في ختام هذه الدّراسة :
1-
أنّ جمعيّة
العلماء أسّست مدارس كثيرة بلغ تَعدادُها عام خمسة وخمسين وتسعمـائة وألف
أربعمـائة مدرسةٍ عصـريّة لتدريس العربيّة، ومبـادئ الفقه الإسلاميّ على الطّريقة التّجديديّة
للحركات السّلفيّة الإسلاميّة، والرّياضيّات، والجغرافيا والتّاريخ. وبلغ عدد
معلّميها في السّنة نفسِها قريباً من سبعمائة معلّمٍ، على حين بلغ عدد تلامذتها
زهاء خمسة وسبعين ألف تلميذ ، ولم ينهض بهذا الإنجاز الكبير أيٌّ من
الحركاتِ التّجديديّة في العالم الإسلاميّ: مشرقاً ومغرباً؛
2-
أنّ جمعيّة
العلماء أصدرت صحفاً عربيّة، وفرنسيّة، كانت تنافح من خلالها عن مبادئ الإصلاح
فكان لها الصّراط، والشّريعة، والسّنّة، والبصائر (الأولى 1935-1939)، ثم الثانية
(1947-1956)، بالإضافة إلى بعض النّشريّات باللّغة الفرنسيّة. فكان الفرنسيّون
كلّما عطّلوا صحيفة من صُحفها جاءت هي إلى عنوان جديد فأصدرته لينضح عن المبدأ
نفسه، ولينشر الأفكارَ الإصلاحيّة نفسَها.
3-
أن جمعيّة
العلماء أسّست، بالإضافة إلى عدد كبير من المدارس الابتدائيّة التي كانت الدّراسة
تنتهي فيها بالحصول على الشّهادة الابتدائيّة باللّغة العربيّة، معهداً للدّراسـات
الثـانويّة بقسنطينة، بلغ عدد طـلاّبه عام 1954 تسعمائة وثلاثة عشر طالباً: بكلّ
ما كان يتطلّب ذلك من إيجـاد أسـاتذة أكفاء، وبرامج تعليميّة تنويـريّة، ودار
للطّلبة (داخليّة ضخمة). فكـان الطّلبة الحاصلون على الشّهـادة الأهليّة منه
ينخرطون في الجامعات المشرقيّة. والحقّ أنّ المدارس العربيّة الحرّة كثيراً ما
كانت تتعرّض للتّغليق بحكم مرسوم ثامن مارس 1938 الذي يعني مضمونه، سياسيّاً،
القضاء على اللّغة العربيّة في الجزائر بالتّضييق الشّديد على معلّمي العربيّة
ومُحَفِّظي القـرآن، كما يذهب إلى ذلك
المؤرّخـون الفرنسيّون أنفسُهم. وعلى الرّغم من كلّ ذلك فقد بلغ عددها عام 1954
مائةً وإحدى وثمانين مدرسةً، ولم يقلّ عدد تلاميذها عن أربعين ألفاً. غير أنّنا
كنّا رأينا أنّ الأرقام التي يذكرها الشّيخ محمّد البشير الإبراهيمي، على أساس عام
1955 هي أكثر بكثير ممّا ذكر روبير أجيرون. ولا يسعنا هنا إلاّ أن نميل إلى العمل
بإحصائيّة الشّيخ، لأنّه في ذلك هو صاحب الشّأن الأوّل، ومصدر المعلومة
التّاريخيّة…
4-
أنّ جمعيّة
العلماء لم تجتزئ بذلك حتّى أرسلت عدداً كثيراً من الطّلاّب الجزائريّين في بعثات
علميّة إلى المشرق العربيّ، وخصوصاً إلى مصر وسورية والكويت والعراق، لتلقّي
التّعليم الجامعيّ العالي من أجل إعداد نَشْءٍ لتحمّل أعباء المستقبل (عهد
الاستقلال)؛
5-
أنّ ذلك كلّه كان
يتطلّب توفير ميزانيّة ضخمة: رواتب المعلّمين والأساتذة، وإصدار الصّحف، والإنفاق
على المباني الضّخمة (مثل معهد ابن باديس، ودار الطّلبة بقسنطينة وقد كانا مِلْكاً
لها)، وتنقّل الأساتذة والشّخصيّات المنتمين إلى الجمعيّة في الدّاخل والخارج…
ويعني ذلك أنّ جمعيّة العلماء هي المؤسّسة الأولى والوحيدة، على مستوى العالم
الإسلاميّ، التي استطاعت أن تمتلك وسائلَ مادّيّة (بنايات ومنشَآت كثيرة)، ووسائل
ماليّة (صندوقاً مسيَّراً تسييراً عصريّا..)، وجهازاً إداريّاً : كتّاباً
إداريّين، ومكاتب، وتجهيزات مكتبيّة (فكان أحمد رضا حوحو مثلاً هو الأمين العامّ
لمعهد ابن باديس)؛ فذلك، إذن، ذلك«.
وأما الدكتور محمد بن سمينة-رحمه الله-،فقد أفرد
مقاله للحديث عن: » مسار الجهـاد السياسي لجمعية
العلمـاء المسلمـين الجزائريين« من خلال تجربة رئيسها الإمام ابن
باديس في المؤتمر الإسلامي 1936م«،وقد وصف بحثه هذا بأنه ينظر
في بعض الصفحات من سجل مسار الجهاد السياسي لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين،
رائدة الحركة الوطنية الحضارية، وذلك من خلال تجربة الإمام عبد الحميد ابن باديس (
1889/1940 م) مؤسس هذه الحركة ، في المؤتمر الإسلامي المنعقد 1936م، في الجزائر
العاصمة ، و لاحظ أن إسهامات الإمام في العمل السياسي قد شملت هذا الميدان بجانبيه
النظري، والعملي ، وقد تمركزت مناقشته لإجلاء هذا الموضوع في المحاور الآتية:في
الحقل النظري أولا : المدخل ثانيا : البعد
السياسي في المشروع الباديسي ،ثالثا: مفهوم ومنهج ،رابعا : اختيار وتعليل،في الحقل
العملي :خامسا: معالم من مسار الجهاد السياسي للإمام ابن باديس،سادسا: تجربة
الإمام ابن باديس في المؤتمر الإسلامي،سابعا: نضج وتطور،ثامنا : الخاتمة .
في الشق النظري من
المقال قدم الدكتور محمد بن سمينة لمحة تاريخية عن الأوضاع العامة التي عرفتها
الجزائر،وذلك في مدخل المقال،إذ أشار إلى أن:
الجزائر كانت في العصر الحديث من أسبق شقيقاتها في العالم العربي الإسلامي
ابتلاء بالاحتلال الأوروبي ، 1830 وذلك على أيدي الغزاة الفرنسيين دعاة (الحرية،
والمساواة، والأخوة) هؤلاء الذين خرجوا من ديارهم متطوعين من أجل نصرة الحقوق
الإنسانية، ونشر الحضارة، والمدنية بين المستضعفين - كما يزعمون - وذلك عن طريق احتلال بلاد هؤلاء
المستضعفين ونهب خيرات أراضيهم والقضاء على مقومات شخصيتهم !
وقد كانت الجزائر من بين هذه البلدان التي
أخذت بحظ وافر من هذه (الجهود الإنسانية
المشهودة والمحمودة !) على أيدي
الغزاة الفرنسيين الذين استهدفوا من خلال هذه الهجمة الصليبية التغريبية، القضاء
على كيان الشعب الجزائري : أرضا وعمرانا،
مقومات وقيما ، ثقافة وحضارة .
إلا أن الشعب
الجزائري لم يرضخ لهذه الهجمة ،وهذا العدوان ، وإنما قام يتحداهما بإيمان، وشجاعة ، وكان ذلك على
امتداد جبهات عديدة :
1-
المقاومة المسلحة من ثورة الأمير عبد القادر 1830 إلى كبرى الثورات
الجزائرية ، ثورة نوفمبر1954.
2-
الصراع الفكري من مبادرات الإصلاح الديني على يدي الشيخ صالح بن مهنا (1854/1910) في أواخر القرن التاسع عشر . ومن
عاصره وجاء من بعده من شيوخ مطلع القرن العشرين ، إلى الحركة الإصلاحية الحضارية
للإمام ابن باديس في العشرينيات من القرن
الماضي .
3-
الجهاد السياسي من جهود الأمير خالد (1875 / 1936م) في أعقاب الحرب
العالمية الأولى ، إلى جهاد جبهة التحرير الوطني إبتداءً من نوفمبر 1954 م.
ويُمكن أن
يميز الباحث في هذه المقاومة السياسية تيارات ثلاثة :
1-
التيار الوطني الحضاري (الانطلاق من الاستقلال الشخصي كمقدمة للنضال من أجل
الاستقلال السياسي) الحركة الإصلاحية
الحضارية في العشرينيات من القرن الماضي، واستمرارية نشاطها في مشروع جمعية
العلماء المسلمين الجزائريين ابتداء من عام : 1931م.
2-
التيار الوطني السياسي (الاعتماد على النضال السياسي من أجل الاستقلال
الوطني) حزب النجم 1926 ،ثم حزب الشعب الجزائري 1937 ثم حركة انتصار الحريات
الديموقراطية في الأربعينيات .
3-
التيار الوطني الاندماجي ( المطالبة بالمساواة ) جماعة النخبة ما بين الحربين.
وكان ابن باديس، وهو يقود الحركة الوطنية
الحضارية يزاوج في مشروعه النهضوي بين الدين،والعلم،و بين التربية، والأخلاق ،و
بين الاجتماع والسياسة، وكان البعد السياسي بذلك معلما بارزا في هذا المشروع، وذلك
على أكثر من صعيد، وفي غير ما جبهة من جبهات الصراع الدائر بين أهل الحق الذائدين
عن حقهم، وبين أهل الباطل المعتدين على غيرهم، فماذا عن ذلك ؟
وفي العنصر الثاني تطرق إلى البعد السياسي في
المشروع الباديسي،إذ ذكر في البداية أنه يحسن قبل الاسترسال في معالجة هذا الجانب
من نشاطات الإمام ابن باديس، أن نتساءل عن الصلة بين ما نهض به من جهاد على امتداد
وجوه الحياة العامة ، وبين العمل السياسي ؟ فهل يمكن اعتبار
الإمام بذلك أحد رجال السياسة ؟ وكيف كانت استراتيجيته في معالجة قضاياها ؟
يمكن القول إن السياسة كانت حاضرة في مشروع ابن
باديس منذ دخوله معترك الحياة الاجتماعية في مطلع شبابه في بداية العشرينيات ، بيد
أنه لم يكن متفرغا لها بكليته، ولم يركز عليها كامـل جهده، ولم تكن هاجسه الأول ،
لا لأنه لم يكن بجبلته رجل سياسة خبيرا بدروبها ،ودهاليزها ،وإنما كان أحد
العلماء، وهؤلاء كما يرى أحد الدارسين أبعد الناس عن السياسة، ولا لأنه كان لا
يقدر خطرها في حياة الناس ، لم يكن هذا ولا ذاك أحد الدوافع التي دفعته إلى اتخاذ
هذا الموقف، وإنما سلك ذلك المسلك عن تبصرة، وحكمة، حفاظا على حركته ،وإدراكا منه
- فيما أحسب- لأنجع السبل التي تمكنه من الوصول إلى ما يرمي إليه من مقاصد .
فقد كان سليل بيت ملك، و سلطان ، ففي
القديم كان أجداده ملوكا ،وساسة، لعل من أشهرهم
(المعز بن باديس) مؤسس الدولة الصنهاجية (ت : 373/ 984) ، وفي العصر الحديث
كان أبوه عضوا في المجالس النيابية
المختلفة، كما كـان عمه (أحميدة بن باديس) كذلك، ويستبعد أن يتربى رجل في هذا
المحيط، و يكون حظ أصوله من السياسة ما رأينا ،ولا يسري في عروقه شيء من الميراث
السياسي قل أو كثر، كما كان من نحو آخر يملك بعض خصال الإنسان الزعيم في قومه بما
توفرت لشخصيته من قيم الإخلاص، والحكمة ،والشجاعة، و الحزم ، فإن التاريخ يؤكد أن
الاستدمار الفرنسي، بالرغم من مختلف ما سلط على حركته من أساليب الإرهاب، وصنوف
الاضطهاد، فإنه لم يستطع أن يلين قناته،
أو يثنيه عن مواصلة سيره فيما عزم على النهوض
به، و قد زادت الفكرة الإسلامية هذا الميراث السياسي حكمة، و رجاحة، كما
زادته نضجا، وترشيدا ليعرف أحداث الصراع الدائر بين أمته ،و بين المحتلين، و وجوده
في موقع الصدارة منه يذود عن الأمة قيما، و مقومات، وحقوقا، ولكنه لم يكن يولي
العمل السياسي بمفهومه الحزبي الضيق عناية كبيرة، لاعتقاده أن ما تعانيه الأمة من
علل ،وأدواء، لا تقوى السياسة وحدها على معالجته، ولم تكن بعبارة أدق من الوصفات
الدقيقة له، وأن المنهج الذي ينهض بالأمة روحيا، وعقليا وسلوكيا أجدى عليها من
غيره، وأن حاجتها إلى ذلك لمـداواة جراحاتها أكثر من حاجـاتها إلى سواه، وإن أية
خطوة يخطوها الكاتب في عملية إعادة بنائها يحسن أن يسبقها التركيز على تصحيح
الاعتقاد ،وتحرير العقل، وتنوير الفكر، وتقويم السلوك، كما كان الإمام قد وعى
تجربة الأمير خالد وتأثر بما انتهت إليه
فرغب لذلك بعدم التظاهر بالاشتغال بالسياسة وذهب
ـ تقية ـ إلى حد إعلانه عن اجتناب
حركته الدينية التهذيبية عن العمل بالسياسة، وهو بإلحاحه على هذا الجانب لا
يعني أن الإسلام ليس من اهتماماته ذلك، أو أن السياسة ليست من الشريعة الإسلامية في شيء ،كما ذهب إلى ذلك
أو إلى شيء منه الشيخ(علي عبد الرزاق) في
كتابه: (الإسلام وأصول الحكم) ،وإنما كان قد فعل ذلك، حتى يعمل على إبعاد السلطة
عن شؤون الإسلام فيضمن بذلك المحافظة على أبرز عنصر من عناصر
الشخصية الجزائرية من نحو ، كما يعكس
من نحو آخر حرصه على حماية حركته، و هي في بداية عهدها، مما قد تتعرض إليه من جراء
ذلك من مخاطر.
وما كان ذلك في النهاية إلا أسلوبا بارعا في
التعامل مع المحتلين من زعيم مجرب حكيم، ولذلك كان يشير إلى أنه لا يريد أن يدخل
المجال السياسي، باسم الجمعية، كما كان يعمد إلى توقيع بعض الأعمال التي يظهر فيها شيء من المواجهة، والشدة ،باسمه الخاص
حفاظا على الحركة .
وقد أدت به هذه
العوامل إلى الاعتقاد بأن المبادرة بالعمل السياسي قبل أن ينضج عود الحركة، ونجح
في تبليغ دعوتها إلى ضمير الشعب فيستيقظ من سباته ويشرع في تحسين واقعه، ويلمس طريقه
نحو العلم، والعمل، والتحرر من الجمود والتقليد ، إن المبادرة بالسياسة دون تحقيق
هذه الخطوات قد يؤدي بالحركة إلى الإجهاض
، ذلك لأن العمل السياسي، والأمة تغط في سبات
عميق ، و تسبح في بحر لجي من الأوهام، والبدع، لا يؤتي ثماره، ولا تؤمن عواقبه،
إذا لم يسبقه،ويواكبه جهد بارز في حقل العمل الدعوي الفكري، وإن هذه القراءة الداعية للواقع الوطني، والملابسات التي
تكتنف جوانب الصراع فيه، وتتحكم في سير الأحداث به يومئذ، إن هذه القراءة جعلت ابن باديس لا يتفرغ للسياسة بكليته، ولم
يعتزلها نهائيا في نشاطاته، ومواقفه المختلفة، وإنما كان يزاوج بينها، وبين منهجه
الإصلاحي، مراعيا في ذلك الظروف، والملابسات، والأحوال .
وكتب العلاّمة الشيخ عبد الرحمن شيبان-عليه
رحمة الله-عن: »جمعية العلماء وثورة التحرير المباركة«،وقبل أن يتحدث عن دور الجمعية في ثورة التحرير المظفرة، قدم نبذة مختصرة عن تاريخ الجمعية،وأكد على
أنها قد أدت مهمتها التي فرضها الله، والوطن عليها، في الإطار العام للحركة
الوطنية الجزائرية قبل الثورة المسلحة،
وبعد اندلاعها، وهي الآن ما زالت قائمة تواصل رسالتها نحو الإسلام الهادي
إلى سواء السبيل في كل عصر وفي كل مصر،وقد جاء في كلمته عن جمعية العلماء،وثورة
التحرير المباركة:
» من المعلوم أن
جمعية العلماء، كانت إلى جانب مهمتها في التربية الدينية والثقافية، وتغلغلها في
أوساط الشعب، تطالب دائما وبإلحاح من الإدارة الاستعمارية الجاثمة على الدين
الإسلامي بتحرير المسـاجد، والأوقـاف، والقضاء الإسـلامي، وترسيم اللغة
العربية،وبما أن هذه المطالب قد واجهت آذانا صماء، لا تريد الاعتراف بالحق
لأصحابه، وهو أمر ليس غريبا من عدو جاء ليجرد الشعب الجزائري من جميع مقوماته : من
دين ،ولغة، ليتمكن في النهاية من تدميره، ومحقه ككيان مستقل له هويته، لقد أدى هذا
الموقف المعتمد من الحكومة الفرنسية إلى أن أصدر مكتبها بلاغا في 18 جوان 1945م،
أعلن فيه : » أن الأمة قد يئست من الحكومة، ومن المجلس الجزائري المدلس، ومن
عدالة الدولة في هذه القضية، وأن المحاولات العديدة التي حاولتها جمعية العلماء
المسلمين الجزائريين قصد الوصول إلى حل موفق معقول لهذا المشكل، لم تأت بنتيجة...
والمكتب يعتقد على ضوء الحوادث، وقياسا على كل ما وقع أن هذه القضية الدينية لا
تجد لها حلا عادلا، إلا ضمن حل كامل للقضية الجزائرية التي هي وحدة لا تتجزأ، وأن
الأمة الجزائرية يجب عليها في الساعة الحاضرة، وفي مستقبل الأيام، أن تتوجه
بكليتها لمحاولة حل قضيتها العامة، حلا عادلا يتناسب مع التطور العالمي الحديث «.
وقد سبق الإمام عبد الحميد بن باديس
سنة 1936م مخاطباًالشباب الجزائري في نشيده المشهور :
شَعْبُ الجَزَائِر مُسْلِمٌ وَإلَى
الْعُروبَةِ يَنْتَسِبْ
إلى أن دعا إلى إعلان الحرب على
الظالمين، ومحاربتهم، في قوله :
وَأذقْ نُفوسَ الظَّالمِيـــنَ السُّمَّ يُمْزَجُ
بِالرَّهَبْ
وندد بالخائنين :
وَأقْلَعْ جُذورَ الخائِنيـــنَ فَمنهُمْ كُلَّ العَطَبْ
واستنهض الهمم :
واهزُزْ نُفوسَ الجامدِيــنَ فَربَّمَا حَيّ الخَشَبْ
وقد سلكت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين،
هذا السبيل في مقال نشر بالبصائر في العدد 36 السلسلة الثانية سنة:1948 م، تحت
عنوان :» الإسلام شريعة الجهاد والاجتهاد « أكدت فيه (.. أن الجهاد لا يقوم إلا على حرية، وتلك الحرية لا
يجلبها، إلا الجهاد... إذ أنه في ترك الجهاد تمكين للاضطهاد، والاستعباد، كما أن
في إبطـال الاجتهـاد تقتيلا للمواهب يعقبه تعطيل للشريعة نفسها).
ولما اندلعت ثورة التحرير المظفرة،
نشر الشيخ الفضيل الورتلاني رئيس مكتب الجمعية بالقاهرة بلاغا في 02 نوفمبر 1954م،بعد
يوم واحد من اندلاع ثورة التحرير الجزائرية، أعلن فيه تأييد الجمعية للثورة، ودعا
فيه الشعب الجزائري إلى خوض معركة الجهاد التي يفرضها عليه دينه، وماضيه، وكرامته.
ومن جهة أخرى وجه المرحوم الشيخ
الفضيل الورتيلاني :
أولا : نداء إلى الحكومة الفرنسية،
والشعب الفرنسي، منددا فيه بسياسة فرنسا التي تعمى عن الحقائق، وتتنكر لمطالب
الشعب الجزائري.
ثانيا : نداء إلى أبناء المغرب العربي
يدعوهم إلى الاتحاد، وتدعيم الصفوف ،وتأييد الثورة الجزائرية.
ثالثا : نداء إلى الشعوب العربية،
والإسلامية، يدعوهم إلى نجدة إخوانهم الجزائريين، وتدعيمهم ماديا، ومعنويا ،ودبلوماسياً.
وفي 15 نوفمبر 1954م وجه كل من الإمام
الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، والشيخ الفضيل الورتلاني، نداء إلى الشعب الجزائري
يذكِّرَانِهِ فيه بمساوئ الاستعمار الفرنسي في الجزائر، ويحثانه على خوض معركة
الكفاح المسلح دون تردد، ودائما في إطار تعبئة الشعب الجزائري لنصرة ثورته، والعمل
على دحر عدوه،و تم في القاهرة في: 17 فبراير 1955م، التوقيع على ميثاق جبهة
التحرير الوطني من قبل: الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، والفضيل الورتيلاني, وأحمد
مزغنة، ومحمد خيضر، وحسين آيت أحمد، ومحمد يزيد، والشاذلي المكي، وحسين لحول،
وأحمد بن بلة، وأحمد بيوض، أعلنوا فيه: » أن المنظمات، والأحزاب في الجزائر تشكل كتلة واحدة، وجبهة في
معركة التحرير، والكفاح المسلح للشعب الجزائري ضد العدو المحتل، وذلك بجميع
الوسائل «.
وقد انخرط أعضاء الجمعية في الخارج
جنبا إلى جنب مع إخوانهم، أما في الداخل فما إن اندلعت الثورة حتى راح طلبة معهد
ابن باديس يلتحقون بصفوف الجهاد باذلين الأرواح الزكية من أجل الوطن، بينما أساتذة
المعهد،وأساتذة المدارس الحرة قد انخرطوا في الخلايا السرية لجبهة التحرير الوطني،
وفي صفوف جيش التحرير.
ومن بين الشهداء العلماء نذكر: الإمام
الشيخ العربي التبسي رئيس الجمعية بالنيابة، والأمين العمودي الأمين العام السابق للجمعية، ورضا حوحو
الكاتب العام لمعهد ابن باديس، ومحمد العدوي، والشاعر عبد الكريم العقون،والشاعرالربيع
بوشامة، والشيخ العربي الشريف، وغيرهم
بذلوا دماء سخية في سبيل حرية الجزائر، وكرامتها، واستعادة هويتها العربية
الإسلامية كاملة غير منقوصة.
وهكذا، فإن الجمعية قد أدت مهمتها
التي فرضها الله والوطن عليها في الإطار العام للحركة الوطنية الجزائرية قبل الثورة
المسلحة ،وبعد اندلاعها،إلى أن تحقق النصر، وهي الآن ما زالت قائمة تواصل رسالتها
نحو الإسلام الهادي إلى سواء السبيل في كل عصر، وفي كل مصر،والله ولي التوفيق«.
كما نلفي في هذا القسم مقالاً للشيخ أحمد حماني-رحمه الله- عن:»
ابن باديس والثورة«،تطرق فيه إلى جملة من القضايا الهامة،ومن أبرز ما جاء فيه ما رُوي
عن تلاميذه في خمس نقاط رئيسة:
1-
مما رواه الأحياء من تلاميذه في هذا
الموضوع ما أكده الشيخ محمد الصالح رمضان، أن الشيخ ابن باديس كان منذ 1356 هـــــــ
(1937 م)
يصرح بعزمه على الثورة المسلحة، وفي بعض هذه التصريحات أنه يخشى أن يدفع الأمة
إليها قبل كمال استعداد، لهذا يتجنب أن يتحمل مسؤولية الرئاسة السياسية المباشرة
لبعض الأحزاب.
2-
أكد الشيخ محمد الحاج بجة أحد تلاميذه
الأقدمين – من دائرة آقبو – أنه كان تلميذا في أوائل الثلاثينيات، وأن الشيخ رحمه
الله كان يسأل تلاميذه الكبار : هل أديتم الخدمة العسكرية ؟ ومن أجاب بنعم، ميزهم
عن الآخرين وصرح لهم أننا سنحتاجكم يوما ما، وحثهم على عدم نسيان ما دربوا عليه من
أعمال الحرب، ولعل هذه الشهادة تفسر شدة اتصاله رحمه الله بتلميذه الشيخ الفضيل
الورتلاني رحمه الله، فقد كان من الذين أدوا الخدمة العسكرية قبل أن يتصل به فكان
يقربه جدا، ويستصحبه معه في بعض رحلاته، ويركن إليه في تربية صغار تلاميذه على
الثورة، وقد عاش هذا الرجل ثائرا وصار يخشى جانبه الملوك والأمراء في الشرق
العربي، وله أثر كبير في الثورة اليمنية ضد نظام الملك يحيى، وهذا معلوم، حتى جاءت
الثورة الجزائرية فعمل في صفوفها، ومات – وهو يمثلها – بتركيا، وله تلاميذ هناك
يذكرونه بخير، وهو دفين أنقرة.
3-
ومن ذلك ما سمعته بأذني وحضرته بنفسي
في إحدى أمسيات خريف 1939 م
في مجلس بمدرسة التربية، والتعليم الإسلامية بقسنطينة، وتطرق الحديث إلى موضوع
الحالة السياسية بالجزائر بعد إعلان الحرب، وموقف بعض كبار رجال الأحزاب السياسية
الذين جندوا –إجباريا أو تطوعا– في صفوف الجيش الفرنسي، وكان الشيخ رحمه الله
متألما جدا من هذا الضعف فيهم، وقد صرح بما فحواه : » لو أنهم استشاروني، واستمعوا إلي، وعملوا بقولي لأشرت عليهم
بصعودنا جميعا إلى جبال أوراس، وإعلان الثورة المسلحة «.
4-
سافرت إلى تونس لإتمام الدراسة، ولم
أحضر تطور هذه الفكرة الباديسية في نفسه، ولكني علمت أنها وصلت إلى حد الإنجاز، لو
لا معاجلة الموت، فقد حدّث الأستاذ حمزة بوكوشة – وهو من أقرب المقربين إلى الشيخ
عبد الحميد والعاملين معه في ميادين العلم، والإصلاح، والسياسة – إنه دعاه ذات يوم
للمبايعة على إعلان الثورة المسلحة، وحدد له تاريخ إعلانه بدخول إيطاليا الحرب
بجانب ألمانيا ضد فرنسا، مما يحقق هزيمتها السريعة، فبايعتُه على ذلك، وكان
بالمجلس غير الأستاذ حمزة، منهم من تردد، ومنهم من أقدم على المبايعة. وقد أكد
الشيخ محمد بن الصادق جلولي هذه الرواية ودعمها. ولكن المنية أدركت ابن باديس قبل
موعد إعلان الثورة ببضعة وخمسين يوما، فقد مات في 16 أفريل 1940 م، ودخلت إيطاليا
الحرب في 10 يونيو 1940 م.
ولعل الحكمة قي تحديد هذا التاريخ لابتداء الثورة أن إيطاليا صرحت بأطماعها
اللاشرعية في تونس، ولعلها تمددها إلى الجزائر، فإذا دخلت بجانب ألمانيا ،وانتصرتا
صرنا (ميراثا) من تركة الهالك! فأراد الشيخ أن نكون في الوجود، وأن نطرد فرنسا
بأنفسنا، ودخول إيطاليا في الحرب يسهل مهمتنا، وأتذكر جيدا أنني صارحته ذات يوم
بالخوف – إن انتصر المحور – من استيلاء
إيطاليا على بلادنا باعتبار أننا تراث من فرنسا، فأجابني فورا رافعا رأسه : » ليست إيطـاليا
التي تستطيع استعمـارنـا يا بني « قالها في اعتزاز وثقة، وقوة نبرة توحي بالتحدي.
5-
منذ خريف 1940 م منع الشيخ عبد الحميد
من حرية التجول، وأصبح في إقامة جبرية بمدينة قسنطينة، ولكنه لم يلتزم بذلك، وصار
يتفلت من القيد سـرا لمتابعة أعماله التحضيرية للثورة، وقد حدثني الأستاذ
محمد الصالح بن عتيق مدير مدرسة الميلية أنه طرق عليه الباب ذات ليلة ففتحه وإذا
به يجد الشيخ متنكرا، فدعاه إلى النزول فاعتذر، وأنه حدثه عن الثورة المسلحة، وعن
مدى استعداد الشعب في جبال الميلية لها، قال فأجبته بأن رجال الميلية فيها، وفي
جبالها رجال » بارود«، وله أن يعول عليهم إذا جـد الجـد، وأن الاستعـداد النفسي للثورة
كامل فيهم.
وقد اختتم هذا القسم
بمقال الدكتور سعد بوفلاقة الموسوم ب:
» ابن باديس:لمحات في سيرته،وجوانب من
جهوده الإصلاحية، والتربوية«،وقد ناقش فيه جملة من القضايا من أهمها حديثه عن منهجه في الإصلاح،
والتربية ،فقد رأى أن منهجه في الإصلاح ،والتّربية، يختلف عَمّن سبقه من المصلحين،
لأنه استطـاع أنْ يربط بين الحياة الاجتماعية، والحيـاة الـثقـافية، أي : ربط بين الإصـلاح الديني، والاجتمـاعي، كما كـان
إصلاحه تطبيقيا أكثر منه نظرياً، وهذا الذي لم يوفق فيه غيره من المصلحين
السـابقين له، ويعد ابن باديس باعث النهضة الحديثة في الجزائر، لأن الحيـاة
الثقافية قبله كـانت مهملة، فلما جـاء أنشـأ المدارس الحرة، وبـدأ بتعليم النشء
بنفسه، وحـارب الآفـات الاجتماعية المتفشية في المجتمع، ولا سيمـا الطرق الصوفية
كما سبق ذكره، ونقد المفـاهيم الدينية الخاطئة التي كان ينشرها هؤلاء، فاتخذ
الصحـافة كوسيلة هـامة لتوصيل أفكـاره إلى الشعب ،وتوعيته من خـلال:» المنتقد «، و» الشهاب «، وهكذا كان
الإصلاح الديني عند ابن باديس هو الربـط
بين العبـادات، والمعامـلات، وعدم التفريق بين العقيدة ،والعمل، فالدين
الإسـلامي دين عبـادة، وعمل، ونشـاط، وأخـلاق، وتسـامح ،وهذا ما كان يطبقه ابن باديس في حياته اليومية حتى
يكـون قـدوة لغيره،وسبب تخلف الأمة الإسلامية في نظره، هو الابتعـاد عن الكتـاب ،والسنة،والإصلاح
الديني والخلقي، لا يكـون في نظره إلا بالرجـوع إلى الكتـاب،والسنة أيضا.
وفي القسم الثاني من المجلة نجد مقطفات هامة من آثار جمعية العلماء
المسلمين الجزائريين،هي: شعب الجزائر مسلم ،و بيان جمعية العلماء المسلمين
الجزائريين لتأييد الثورة المباركة للشيخ الفضيل الورتلاني،و نداء جمعية العلماء
المسلمين الجزائريين إلى الشعب الجزائري، للشيخ محمد البشير الإبراهيمي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق