بقلم: شوقي عبد الحميد يحيي
من الأمور الهامة التي أثمرتها ثورة
الخامس والعشرين من يناير، أنها كشفت الغطاء عن كثير مما كان مخبأ من سلبيات
المجتمع، والسلطة، وكثير من البشر الذين لم يكن الكثير من الشعب يعرف عنهم شيئا،
أو أن الصورة لهم في أذهان العامة، صورة غير صحيحة. فانكشفت تصرفات وتحركات، كانت
تجري تحت السطح. فكان دور الرواية، الباحثة عن التأصيل، والوصول إلي الجوهر، هو
البحث عن الأسباب، المؤدية إلي النتائج.
ولا شك أن ظهور الإخوان المسلمين علي
سطح الحياة في المجتمع، وووصولهم للحكم، كان من أقوي المظاهر التي كشفت عنها
الثورة. غير أن ذلك لم يكن ظهورا فجائيا نبت من لاشئ، وإنما كان سابق التحضير
والإعداد، ولكن في في غفلة أو غيبة أو تعمية متعمدة من السلطة القائمة، ولحسابات
سياسية، أو مصلحية سعي إليها من كانوا في الحكم. بل انكشف الغطاء عن تحالفات كانت
تجري من تحت السطح بين الطرفين.
ولذا سعي "أحمد طوسون" بحس
مرهف، وبمراوغة إبداعية، مغلفة بحس رومانسي، للكشف عن بعض تلك المخبوءات في روايته
المبدعة "رقة القتل"[1] التي
يحمل عنوانها ذلك التقابل الكاشف عن تلك التجربة التي تحمل القتل والتدمير، إن
ظاهرا، كما رأينا وعايشنا بعد خلعهم من السلطة، أو باطنا ومستترا، ناعما، متسللا،
كما سعوا قبل الوصول إلي السلطة،ولم يكن الأمر قتل أفراد بقدر ما كان قتل للوطن،
وهدم لأركانه، علي نحو ما كشفت الرواية، لتؤكد بالفعل أن الحزب الوطني، لا يختلف
في كثيرعن الإخوان(المسلمين)، إذ كلاهما اشترك في القتل، الأول بالقتل المعنوي، خاصة
للرموز المفترض أنها الفاعلة في المجتمع، والثاني بالقتل المعنوي والفعلي
معا. وذلك من خلال أربعة من شباب
المثقفين، كانوا يعيشون الأمل، والحلم مثل كل الشباب، فتفنن الوطن في قتلهم، بطرقه
المختلفة. "شوقي"، "سيف"، "حاتم" و
"أنور". أراد كل منهم الاختيار،
غير أن الجبر كانت له الكلمة العليا. فكان الإحباط وكان الأسي، فضاع الانتماء،
وتبخرت العلاقة بين الشباب والوطن، خلت الساحة، فبدأت الفئران (في الخرابة) تحفر
أسقف جحورها لتصعد علي السطح، وتتسيد الخرابة، وترتع في أرضها، بعد أن كانت قد
تغذت وكبرت في شقوقها لفترات طويلة، تتحين الفرصة للخروج من الشقوق، وجاءتها
الفرصة، مصنوعة بأيدي الدولة ذاتها، التي دفعت الشباب، بصلفها وسوء أفعالها،
للخروج والثورة، في الخامس والعشرين من يناير. غير أن ذلك الشباب كان قد فقد
القدوة من قبل. وعاش الفراغ السياسي، فلم تكن لديه الخبرة المؤهلة لقيادة الطريق،
فتقدم من لديهم تلك الخبرة التنظيمية، وتدربوا عليها لفترات طويلة. فبدأ صعود من
أسموا أنفسهم ب(الإخوان المسلمين)، ليصلوا بتنظيمهم إلي قمة الهرم، فيحتلوا حكم
البلاد، وتصنيف العباد، فمن ليس معهم، يُنحَي ويجنب، ومن هو معهم، فهو من يتولي
ويُحَكَم. فكان القتل (المعنوي) مستمرا للأمل، فلم يكن الإخوان بأفضل من الحزب
الوطني، في الإفساد لطموحات الشباب. فها هو "حلمي" أحد شباب مصر يصيح في
وجه مؤتمر يدعوا للإخوان {لكن الإخوان وجه
آخر للحزب الوطني، وأعتقد أن النتيجة ستكون واحدة، سواء نجح مرشح الحزب، أو نجح مرشح
الإخوان}. فهكذا وصلت العلاقة بين الشاب والوطن، هكذا استشرف شباب المثقفين لما
ستؤل إليه الأمور.
نشأ الشباب الأربعة بعيدا عن أضواء
القاهرة. في أحضان قصر ثقافة الفيوم، مشحونين بأمل التطلع نحو غد يتحققون فيه. إلا
أن السبل تفرقت بهم، وتشعبت، فسار كل في طريق، إجبارا لا اختيارا.
"حاتم فهمي"، الفنان الذي
عشق الرسم، والذي اختار له أبوه "الحاج فهمي" أن يلتحق بكلية الشرطة،
طمعا في السلطة، ف{بينما كان حاتم يحلم أن يصبح فنانا أو شاعرا مثله مثل أصحابه
سيف ناصر وشوقي وأنور شفيع وجد نفسه مطالبا أن يصبح جلادا يمسك بيديه عددا من
الكلابشات التي يقيد بها كل من حوله} حتي "شاهندة" التي تزوجها، فقد
أحاطها بكلبشاته، لتظل الهوة تتسع بينهما، ويفقد التواصل معها ليعيش حياة الوحدة
ويشعر بأنه{ ليس في المكان الذي يجب أن يكون فيه. مكان لم يختره لنفسه، اختاره
أبوه ليكمل سطوته الاجتماعية بين أهله وبلدته، ويعلن بها الكاتب أول سلطة من سلطات
الجذب إلي الأسفل، السلطة الأبوية، وسلطة المجتمع، التي تفقد المرء حريته، وتجعله
أسير قوي أكبر منه، تفقده شخصيته، وتفقده إرادته، والتي تتصاعد لتصل إلي سلطة
الدولة. فلا يستطيع التعايش مع مكانه الذي لم يختره، ولا يستطيع أن يساير رئيسه
"عمر زاهر" الذي يصفونه بالجزار بسبب ما أشيع عنه من أنه أمهر من يستخلص
الاعترافات من افواه المتهمين واجسادهم. غير أن حاتم أقام لنفسه مرسما بعيدا، في
بني سويف، لا يعلم عنه أحد شيئا، ليهرب إليه كل إسبوع، يمارس فيه حريته، يمارس رسم
العاريات، اللائي يري أن عريهن تطهر من دنس الظاهر.
ويستغل من لا يريدونه تلك (الطيبة) والتي هي في
نظرهم سذاجة، ويُعَذب أحد المحتجزين، ويشعل النيران فيه. فينهار "حاتم"
علي غير ما كان عمر زاهر الذي لم يكن يصيبه ذلك حتي بالاندهاش، ويُتهم
"حاتم" بقتله للمحتَجَز. ليصبح ذلك الفنان، رقيق المشاعر... قاتلا. وليصبح وضع الإنسان في غير مكانه وما اعتاد
عليه المجتمع، أول أسباب قتل الأمل، وقتل مستقبل الوطن.
وعلي
الجانب الآخر يصبح ما يدور في قسم الشرطة –أيضا- هو أحد أسباب القتل. غير أن
المقتول هنا هو "أنور شفيع"، الذي أراد، بدافع الشباب، أن يعبر عن رأيه
بالخروج في مظاهرة، فيتم القبض عليه، ولا يشفع له كونه طالبا، وأن امتحاناته علي
الأبواب في الخروج من المعتقل، فيضيع عليه الامتحان، وتضيع عليه سنة من عمره،
لتصبح الحسرة والخيبة هي ما يعيشه. ويكشف لنا أحمد طوسون مدي الحسرة التي ترسبت في
نفسه في كلمات: {ليته كان ينتمي إلي تنظيم ما، ساعتها كان سيغفر له قسوته معه،
سيجد له المبرر ويتعايش معه بسلام، لكنه لم يكن إلا فرخا صغيرا خرج إلي الحياة
ببراءة وأراد أن يعيشها بعفوية.
{لم يكن في
ذلك جرم ما. فلما أخذوا منه سلمي؟. يشعر أن الوطن أخذ منه كل شئ}
وتصبح صورة
الوطن عنده، كسالب للحياة: {الإنسان آخر ما يتذكره الوطن في اهتماماته
الكثيرة.الوطن حرمه من دخول الامتحان واللحاق بأصحابه وزملائه. جعلهم يسبقونه
دائما بخطوة}.
ويهرب "أنور شفيع" إلي خارج البلاد.
هربا من سجن الوطن غير أنه { وجدهم هناك يحملون زنزاناتهم معهم. أنت أيضا كنت
تحتفظ بزنزانتك معك، تأسر روحك التي ما عادت قادرة علي التحليق.}.
وإذا كان
أنور شفيع قد هرب إلي الداخل. فقد هرب "سيف ناصر"إلي الداخل، بعد أن كان
قد فشل حتي في نشر قصيدة واحدة، أو حتي النشر في بريد القراء، فما أن وجد الفرصة
في عرض صديقه شوقي بالسفر إلي القاهرة، لحضور أحد مؤتمرات المؤسسة. وإزاء مهاجمتهم
للمؤسسة، وفي محاولة منها لإدخالهم (الحظيرة) يقال لهم أن من يكتب استمارة عمل
بالمؤسسة، سيعين فورا. فينتهز الفرصة التي يرفضها "شوقي"- لعدم رغبته في
مغادرة الفيوم، وكأنه أيضا هروب بالتقوقع داخل نفسه وداخل المكان- ويتم بالفعل
تعيينه –سيف - بالمؤسسة. ويسعي – بطرقها -
للوصول إلي قمة المؤسسة الثقافية. فاستطاع أن يضمن "صلاح خطاب"
إلي جانبه، الرجل القوي بالمؤسسة. ويدخل من الباب الملكي للوصول، الإلتحاق بالحزب،
والمعارضة غير الضارة، التي توحي للسلطة باستمالته واستخدامه. حتي إذا ما أعلن عن
مسابقة لتعيين رئيس للمؤسسة، واعتقد الجميع أن تقديم سيف ناصر للمسابقة ضرب من
ضروب الجنون،{ما هو تاريخه الذي يستند إليه؟! .......لاشئ} فكل يعلم أن الوظيفة
محجوزة ل"إيهاب فخري" الذي قضي عمره كله في المؤسسة، ويعلم كل شئ فيها.و
صارح سيف ناصر صلاح خطاب بمخاوفه من اتجاه القرار السياسي لإيهاب فخري. فيطمئنه
صلاح خطاب بأن الفتنة الطائفية جاهزة للإطاحة به. ويصل سيف ناصر إلي قمة المؤسسة.
وما أن يعلم سيف ناصر بالنية لإقامة مؤتمر للشيخ إخلاص، ممثل الإخوان، حتي يسارع
إلي الفيوم للقائه.
واحد فقط من الأربعة هو الذي أصر علي
البقاء في الفيوم. هو "شوقي" متمسكا بالمكان، إلا أن المكان لم يمنحه
التحقق المنشود. وليكشف أن وراء ذلك خوف داخلي، وعدم قدرة علي المخاطرة. حتي أنه
يقول عن نفسه { لا يعرف من اين أتي بكل ذلك الضعف الذي يختزنه بداخله} بل إنه
تراجع حتي عندما فكر في كتابة رواية عن فكرة القتل المختزنة في داخل كل منهم، خشية
أن يقع في اسر الفكرة البوليسية. ولما كان قد عين في أحد المحليات بمرتب ضعيف، فقد
تولت عنه زوجته الإنفاق علي البيت –الأمر الذي قد يكون أحد أسباب ضعفه- غير أنها
عندما واجهت محبوبته قالت عنه {رجل بعض حطام وأوجاع وألم، رجل لا يستطيع أن يقدم
لها شيئا، لأنه عاجز عن تقديم المساعدة لنفسه}.
انعكاسات العام علي الخاص
الإنسان عموما، والمثقف تحديدا، والمبدع
خاصة، حيث يعيش مجتمع يتأثر به ويؤثر فيه، ولا بد أن يكون لكل منهما تأثير في
الآخر.
وقد كانت
لكل من فرساننا الأربعة حياة يحياها، وأخري يتمناها، حتي ولو عاشها في خياله
وأحلامه. مؤكدة أنه عندما يزداد الضغط علي جانب، فإنه يؤدي إلي (التنفيس) في جانب
آخر. كما أن وجود الحياة الأخري، يزيد من إحساسنا بمرارة ومعاناة ما يعانيه كل
منهما، فمثل ضغطا يحتم الثورة، إن لم يدفع للانتحار، أو الموت، حتي وإن كان الموت
معنويا.
أنور شفيع.
.. استطاعت "سلوي" أن تُوقف أمها معها، للضغط علي أبيها للموافقة علي
الزواج منه. وعندما راحت بكل فرحها لتخبره، كان قد قرر الهروب الاحتجاجي إلي خارج
البلاد، رغم حبه الشديد لها. وفي الغربة يتزوج، وتسعي زوجته لإرضائه بكافة السبل،
وينجب منها. غير أنه وبعد لحظة حب، وبينما زوجته في قمة نشوتها وارتياحه له،
يخبرها بهدوء اعتزامه العودة إلي "سلوي" التي كانت قد قررت الطلاق هي
الأخري. غير أنها –عندما تقابلا - تدعوه للعودة إلي زوجته، فقد عادت لزوجها،
ولتزداد مرارة الحياة في فم كل منهما. حيث يعيشان الجبر، ويشتهيان الاختيار. ولقد
عمد –أحمد طوسون- إلي استخدام الصدمة التي تواجه الفرحة، في لقاء سلوي بأنور فرحة،
فيواججها بالسلب، ثم في لقائهما بفرحة أنور ليواجه بصدمة سلوي، ثم بقمة النشوة
وفرحة الزوجة لتواجه بصدمة أنور بقرار الزواج من أخري، الأمر الذي يصل بالقارئ
لتصور مدي الألم والحسرة التي تترسب في ذهن كل منهم.
وهو نفس ما يحدث مع شوقي. فبينما بذلت وتبذل زوجته معه من مساعدة وتضحية،
إلا أنه أيضا يقرر العودة إلي محبوبته "هبة" التي تمنحه الفرحة والشباب
والسعادة، فما أن {تلاقت عيناه بعينيها (المحبوبة) فشعر بيد ثقيلة تسحب روحه،
وتسقط عن وجهه الابتسامة العابرة.. لابد أنها يد القدر الذي رفض أن يمنحه السعادات
الصغيرة التي يمنحها للشبان والفتيات تحت رفيف الأشجار}. غير ان زوجته تتصل بسيف
تسأله المساعدة في إثناء زوجها عما انتواه. فيحاول ذلك عن طريق سلوي. وليظل -
أيضا- الحلم معلق ومفتوح علي الرجاء والذكريات.
و"سيف
ناصر" الذي كرس حياته لمحبوبته اللعوب "المؤسسة" والسير في ركاب
الحزب، حتي تصورنا أنه لايفكر في الجانب الآخر. وما أن تزوره "هبة
الشناوي" وكأنها فجرت بركانا كان نائما من الماضي. ويطبع لها ديوانها الأول
الذي فجر عليه غضب الصحافة، والرئاسة وتاجري الدين، ويذهب إلي الشيخ مخلص، ليستعين
به في إيقاف حملة الشيوخ علي الديوان.
هبة التي
انبعثت من (شقاوة) الصبا الباكر، والتي كانت كقنبلة انفجرت في "سيف
ناصر" لتطيح به من كرسي الرئاسة، ليجلس عليه ناشر مجهول، كل مؤهلاته أنه من
طرف "الهانم".
و حاتم فهمي الذي راح يحاسب نفسه في مراجعة،وكشف عن دواخله، يعترف بحق
زوجته "شاهندة" (الجبر) في طلبها للطلاق، واصطحاب ابنتيها، حيث رأت أن
علاقته ب"هبة" خيانة لها. رغم شعوره بقيوده لها وقيوده معها، بينما هو
علي الوجه الآخر (الاختيار)، فقد كان مع هبة اشبه بالقفز {عاريا في النيل غير عابئ
بعيون النسوة المتلصصات علي الشطوط وهن يغسلن الصحون، مثل ساحرة شريرة تنجح في
استنهاض شياطينه الشرسة وإخراجها من مكامنها لتمارس ألعابها المحرمة، ثم تعيد
ترويضها من جديد، استطاعت أن تمنحه الإحساس بأنه حر طليق، ليس بحاجة للوقوع في أسر
قوانينهم، وأفكارهم وقواعدهم، تجرد معها من كل الأقنعة التي حاصروه بها طيلة
الوقت، أصبحت عالمه الذي يتطهر به من زيف ما حوله وخداعه}.
تتويج الإخوان
ويكشف أحمد طوسون عن ذلك التحالف بين
السلطة والإخوان، حيث يعقد الحاج فهمي إجتماعا في بيته، تأييدا للشيخ مخلص مرشح
الإخوان. انتقاما من الحزب الذي تجاهل القرية، واحتفظ بعضوية المجلس للعمدة الذي
أراد أن يورثها لإبنه، مشيرا إلي عملية التوريث التي استفحلت في البلاد كلها(ابن
القاضي يصبح قاضيا وابن الرئيس يصبح رئيسا). ويُكلف حاتم فهمي بحفظ الأمن في دائرة
بلدة أبيه، ظنا من المسؤلين أنه سيعمل علي إنجاح رجال الحزب، كما هي العادة. غير أنه
يجلس بعيدا، ويترك الانتخابات تسير طبيعية وبيسر رغم عدم تصديق الناس لما يرونه.
وتأتي النتيجة بأن الشيخ مخلص سيدخل الإعادة، بما يعني سقوط ابن العمدة، رجل
الحزب، حيث أراد الحزب إسقاطه. ويرفض الشيخ مخلص النتيجة ويتوعد بحرق البلد، ويشيع
بأنها خطة دبرتها الدولة بتنفيذ حاتم فهمي. ويعلن – رغم عدم إعلان النتيجة رسميا –
فوزه. الأمر الذي يرفضه القاضي المشرف علي عملية التصويت والفرز – في إشارة أخري
للثورة علي القديم -.
ولم يكن الإخوان مكتوفي الأيدي مكتفين
بتحالفاتهم مع السلطة، فقط، وإنما كانت لهم أساليبهم التحيتية التي استطاعوا
استمالة الكثير من أبناء الشعب إليهم. وقد حاولت الرواية الكشف عن تلك الأساليب
وصولا إلي العامة، مثل الرؤية التي وضعت {علامات استفهام كبيرة علي المشروعات
التجارية التي تظهر كل يوم، ويعرف أن وراءها الشيخ إخلاص وجماعته، لم يفهم تلك
الرابطة التي تجمع التجارة بالدين}. وسعوا بين الناس بما ترسخ في أذهانهم،بحجة
أنهم (يعرفوا ربنا).
حتي استغلال الخرافات التي يقتنع بها
البسطاء، حينما كشفت عن ألاعيب الشيخ إخلاص في استخراج الجان من جسد أحد البسطاء،
واعترض سيف ناصر متسائلا، فأجابه الشيخ إخلاص "أُمرنا أن نخاطب الناس علي قدر
عقولهم". بالطبع وصولا لقلوبهم وقناعاتهم.مستغلين ذلك الفراغ السياسي الذي
سعت إليه الأنظمة السياسية لفترات طويلة {الإخوان لا يختلفون كثيرا عن الحزب
الوطني، لكن لا يوجد بديل. منذ وفاة الدكتور ولم يتقدم أحد للعمل العام، وهذه هي
النتيجة}.
التقنية الروائية
لم
يقدم أحمد طوسون شخصياته ورؤاه بطريقة الحكي التقليدي المتصاعد، الذي يساعد القارئ
في الوصول لمرماه بسهولة، وإنما اعتمد علي إسلوب التقطيع، حيث تقطعت مادته علي
فترات متقطعة ومتباعدة بطول الرواية. فقد يسير السرد في حوار بين اثنين، ويرد اسم
في الحوار، مثلما ورد اسم حاتم في الحديث بين والده –والد حاتم- وبين كل من شوقي و
سيف، فيشرد شوقي في ذكريات عن حاتم، يقدم لنا فيها نتفا من حياة حاتم، وبعد فترة
نغيب فيها عن الواقع المعاش، ثم نفاجأ بأننا لا زلنا نعيش الحوار، في اقتراب من
إسلوب التداعي، غيره أنه ليس تداعيا كاملا، ولكنه طريقة الكاتب في تقديم شخصياته
ورؤاه متقطعة.
وكذلك يتبدي التقطيع في ابتعاد المسافات بين ما
يشبه الجملة بتقديم المبتدأ وتأخير الخبر. فمثلا يتم تكليف حاتم فهمي بشئ في ص21
بينما حاول هو تقديم الاعتذار عنه دون أن يفصح الكاتب عن ذلك الشئ{ يا أفندم أنا
لا أطلب إلا أن أذهب إلي أي مكان آخر، لماذا بلدي بالذات وفي هذا الوضع} حتي ليخيل
للقارئ أنه قد تم نقله إلي بلده، خاصة أن هذا كثيرا ما يحدث في ترقيات رجال
الشرطة. ولا نتبين طبيعة العملية، التي هي الإشراف علي تنظيم الانتخابات النيابية
إلا في الفصل العاشر ص123. فيظل القارئ في حيرة وتشوق للوصول إلي الحقيقة طوال
القراءة. كذلك وورود اسم شخصية في معرض حديث، ولم يكن قد سبق التعرف عليها، إلا
بعد قفزات وصفحات. مثل أن يأتي اسم "أحمد" عابرا {ربما كان سفر احمد
السبب في شعوره المتزايد بالوحدة} لنقرأ بعدها بمسافة طالت {وأخيرا لحق بهم أحمد،
اختطفه السفر إلي أحضانه ليترك حضن أبيه فارغا وباردا}. فنتعرف أنه ابن شوقي.
الأمر الذي ساعد علي زيادة الحركية والدهشة التي تدعو القارئ لمزيد من اليقظة طوال
عملية القراءة. فضلا عن لغة الرواية الرومانسية الشاعرة، الحافلة بالصور الممتعة،
مثل:{لازالت صورة هبة تتأرجح أمام عينيه قبل أن يسقط بروازها من فوق جدار القلب
ويتهشم إلي قطع صغيرة جعلت قلبه ينزف بضراوة} ، وفي حديث بين سلوي وأنور:{ ما الذي
نحاول أن نفعله؟ نمارس ركضا مستحيلا إلي الماضي للحاق بسلمي وأنور اللذين تركناهما
هناك، حيث نرسم خطا للأحلام ونتبع ظله وانعكاساته التي تداخلت مع خطوط أخري
رسمناها أو رُسمت لنا، فلم نعد نعرف أي الخطوط تقودنا في زحام الظلال والانعكاسات}
فللقارئ أن يتأمل ويتصور كيفية الركض للماضي. وله أن يتخيل ويتأمل مدي الحيرة بين
الاختيار والجير {رسمناها أو ُرسمت لنا، وعلي أي الطرق نحن نسير، وهل ما نراه ظلال
أم أنه انعكاسات. ليبحر- القارئ - في بحر فلسفي متماوج من الأفكار والمشاعر
والأحاسيس. ثم تلك الفقرة الرومانسية الحالمة في رواية – المفروض – أنها تتحدث عن
القتل، لتزيد العنوان إيضا وتنويرا، والتي تُضئ شخصية حاتم فهمي، والمفترض أن ضابط
شرطة، بما ينعكس في الذهن عنه من عنجهية وربما غطرسة، لترسم كيفية التحول في
الرؤي، وتوضح النبت الذي ترعرع في الصغر علي الحلم والرومانسية، وكيف أنه هو
الأصل، وما تلاه ليس بدخيل عليه، وإنما هي الأسباب التي أدت للنتائج، وجعلت
"رقة القتل" رواية شديدة الإحكام، منضبطة الحبكة، تشير إلي صانع ماهر،
دون أن نري أصابعه التي تدير أو تحرك:
{عندما بدت
ظلال طفولته أمامه علي بلاط الحديقة ببراءتها القديمة، أوراقه الصغيرة التي خبأها
بين لحاء الأشجار ما زالت تحتفظ بألوان رسوماته المرتجفة من عصا الأب، تلك الألفة
التي أطلت من ضلفتي نافذة الماضي، مشرعتين علي شمس حياته البعيدة التي مازالت
بقدرتها أن تُدخل الحرارة والدفء إلي قلبه، وتستجلبان أصوات طيوره الرابضة فوق
أشجر حديقته.}.
علي أن –الكاتب- لم يستخدم تلك الفقرات المكثفة
الموحية فقط في الكشف عن جذور شخصياته، وتأصيلها، وإنما استخدمها كذلك في الكشف عن
جذور الشخصية المصرية التي هي الأصل في الرواية – في رؤية أخري- . تلك الشخصية
الماضاوية، التي تعيش علي الماضي، والتي تشده للأسفل، ولا تدفعه للمستقبل. فنقرأ
جملة تأتي وكأنها وردت عفوية في السياق، لكنها العفوية المقصودة والمدبرة
والمخططة، لتصنع البراءة التي تتحلي بها الرواية. في رحلة العودة لأنور شفيع من
الغربة، متلهفا بفعل الحنين لأرض الوطن، حائرا بين الحب للوطن، وكأنه العودة
لأحضان الأم، وبين تذكر ذلك الوطن الذي سلبه أباه كأحد من ضحوا من أجله – ربما في
أحد الحروب التي خاضتها- وسلبه عاما من حياته، ليتأخر عن ركب زملائه، يأتي التأمل
في أمور ذلك الوطن{ سبعة آلاف عام من التاريخ لم تكن جدارا كافيا لصد العدو،
التاريخ وحده غير قادر علي حمل البندقية والوقوف علي الجبهة لحماية الحدود. غير
قادر علي حرث الأرض وزراعة البهجة، غير قادر علي تشغيل تروس المصانع، غير قادر علي
الدخول إلي المعامل واختراع التقدم.}.
ومن الأمور التي تُحسب لأي عمل، انفتاحه
علي أكثر من تأويل. وفي "رقة القتل" نستطيع، إلي جانب تلك الرؤية
السابقة، أن ننظر إليها إذا ما تأملنا البداية والنهاية. حيث تبدأ الرواية من
صفحتها الأولي، نتعرف بأن "سيف ناصر" قد درج علي العودة إلي الفيوم كل
حين، والتقي –كعادته- ب"شوقي" حيث هو الوحيد من المجموعة المقيم فيها
بصورة دائمة، وقد لاحت في الطبيعة من حولهما، وعلي وجهيهما، امارت الكبر وخريف
الطبيعة. ثم تطوف بنا الرواية عبر صفحاتها وفق ما رأينا، حياة كل من الأربعة وكيف
تفرقت بهم السبل. لنصل إلي نهاية الرواية لنكتشف أننا مازلنا مع الإثنين في نفس
تلك الزيارة- لنصبح أمام الشكل الدائري للرواية- التي راحا فيها يسترجعان خطوط
الزمن المنسحب، وكيف أصبحا وحيدين، وتغير المكان في نظريهما، مثلما تغير الزمان.
وفيما يشبه الموسيقي التصويرية، يبدأ العزف في الخفوت، وتنسحب آلات من العزف، لنصل
في النهاية إلي صوت الفلوت الخافت منفردا ومتباطأ، حيث نري أن الصوت النهائي
ل"شوقي" الذي انسحب الجميع من حوله وأصبح وحيدا فنقرأ:
{يحث شوقي
خطاه تارة ويتباطأ تارة. يحدق بعينيه في قصر الثقافة الذي مر أمامهما.. ويحاول
الإمساك بفكرة من الأفكار الباهتة الخالية من الملامح التي تدور برأسه. لا يعرف سر
الأسي الذي داهمه وتراكم فجأة فوق صدره ثقيلا كصخرة من حديد سقطت من كوكب الصقيع
......... كان أحمد آخر ما تبقي له. هبة
ضاعت . زوجته ماتت وتركت الأيام الثقيلة بعدها تمر متباطئة بلا معني. أصحابه
انشغلوا في حيواتهم .. أنور شفيع سافر منذ سنوات إلي الخليج بحثا عن سراب......
حاتم فهمي فقده منذ زمن بعيد. ربما منذ اللحظة التي خطا فيها خطوته الأولي بكلية
الشرطة..... سيف ناصر احتله المنصب كما احتلته العاصمة بمغرياتها من قبل، وحين عاد
لم يكن إلا بقايا شائهة من إنسان قديم حمل الاسم ذاته. وأخيرا لحق بهم أحمد،
اختطفه السفر إلي أحضانه ليترك حضن أبيه فارغا وباردا........ هكذا حدث نفسه حتي لا يحس بألمه يكبر، استوقف
صاحبه ثم لم يجد ما يقوله فواصل السير. هل كبرنا يا سيف وسرقنا الزمن؟}ص154.
لنتصور أننا بإزاء "رواية الزمن". أننا أمام رحلة حياة امتلأت بالأمال
الكبيرة، والخيبات الكبيرة. ارتبطت فيها حياة الأفراد بحياة المجتمع. حيث مجموع
الأفراد هو ما يشكل المجتمع، وحيث الإنسان
هو جوهر الإبداع.
ولا نتصور
أن اختيار الكاتب جاء عفويا لشخوصه وطبيعتهم ومكانهم، أو لمجرد أن هذه المجموعة هي
ما ظهر في محيطه الاجتماعي، باعتباره كاتبا ومثقفا، وإنما باعتبارهم مثقفين.
وهؤلاء بالطبع لهم صفاتهم التي تسعي إلي البحث عن المدينة الفاضلة، غير الموجودة
علي أرض الوطن، والتي تتميز بوقوفها الدائم في جانب المعارضة من السلطة –إلا البعض
الذي يرتمي في أحضانها – وهو ما تبين من عديد الانتقادات، خاصة في المؤسسة
الثقافية، ومحاولاتها كسر شوكتهم، أو استقطابهم. وكيف يتم اختيار قياداتها، ومن
قِبل من. ونستطيع هنا أن نستدعي رؤية الفيلسوف الفرنسي "جوليان باندا"
عن المثقفين أنهم من يقولون "مملكتي ليست من هذا العالم" ، وإن كان لا
يراهم ليسوا بذلك منفصلين عن العالم ، وإنما المثقف الحق لايكون إلا عندما تحركه
عاطفة ميتافيزيقية ،ومبادئ الحق والعدل النزيهة، فيشجبون الفساد، ويدافعون عن
الضعيف، ويتحدون السلطة المعيوبة أو القمعية[2]. وهو ما
يؤكده حلمي لشوقي وهو يدعوه لحضور الاجتماع الانتخابي في بيت الحاج فهمي: { لا
أعرف كيف تكون مثقفا وتعيش في عزلة عن العالم، المثقف لابد أن يكون له موقف في كل
ما يحدث حوله. البلد مقدمة علي انتخابات. وأنت ولاهنا؟} فيرد عليه شوقي بلا
مبالاة: انتخابات . هل تسمي ما يحدث عندنا بانتخابات؟} ليختصر فيها سوءات ترسخت في
أذهان الجميع طوال سنوات من عمر الوطن.
غير أن
اختيار أحمد طوسن لمجموعة من المثقفين، باعتبارهم ضحايا علي طول الخط، وإنما هم
أيضا لم يسلمون من انتقاداته لهم، وكأنه يدينهم هم أيضا، ويحملهم نصيبهم في عملية
قتل المستقبل، أو قتل الوطن، حين انتقد جمودهم، والسير وراء أشخاص أو رؤي محددة،
وتضخم ذواتهم، مستخدما أسماء حية علي أرض الواقع المعاش، ليغرسنا فيه، ولا نستسلم
للخيال، مؤكدا مقدرة علي تفهم طبيعة الإبداع القائم علي الجناحين معا. فنقرأ علي
سبيل المثال:
{في
الثقافة لا توجد محاذير، يمكنهم أن يسيروا فردا فردا خلف أمجد ريان وهو يحدثهم عن
سوزان برنار والقصيدة الجديدة وأوراق الكلينكس ويلقوا بزجاجات البيرة وطفايات
السجائر وبقايا التبغ في المحترق في وجه أحمد عبد المعطي حجازي الذي نصب نفسه هرما
أكبر لكلاسيكية الشعر}.
رحلة ممتعة يقضيها القارئ مع رواية سعت
نحو الثورة علي كل السلطات التي عاقت حركة المجتمع، وأماتت مثقفيه، حتي أنه لو كان
لنا أن نكتب عنوانا آخر للرواية لأسميناها (المثقفون في الأرض)، الثورة علي كل ما
يعيق حرية الإنسان، ثورة حمل المثقفون فيها عبأ الأحلام الثقيلة المستعصية علي
التحقق. إلا انه يدعوه لعدم الاكتفاء بقراءة واحدة، فقد كتب وراء السطور أكثر مما
عليها.
وإن كان من شئ ناخذه علي ذلك العمل البديع، فهو
العتبات الداخلية، والتي لم تكن عتبات بالمرة. ونعني بها تلك الجمل المختارة من كل
فصل لوضعها علي رأس الفصل، دون أن يكون لها دلالة علي مضمون الفصل، أو أن تضيف
إليه. ولو تم حذفها، لم يكن ذلك لينقص من العمل شيئا.
شوقي
عبد الحميد يحيي
Em:shyehia48@gmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق