الرواية العراقية الجديدة ترفع تفاصيل الحياة المهمشة إلى أعلى
الكتابة ليست شيئا آخر سوى صمت من نوع خاص
الناقد : عباس داخل حسن
• يشير الفيلسوف الألماني تيودور أدورنو، في مقاله “موضع السارد في الرواية الحديثة”، إلى أنه مثلما خسر لرّسم الكثير من مهامه التاريخيّة إزاء التّصوير الفوتوغرافيّ، فإنّ الرّواية قد خسرت أيضا الكثير أمام الرّوبرتاج وصناعة الإعلام الثّقافيّ، ممّا يفرض على الرّواية تركيزا على ما لا يحتمله الرّوبرتاج، وهذا نفسه ما لا ينتبه إليه عدد كبير من الرّوائيّين المعاصرين في العالم العربيّ.
العرب في 2017/01/23، العدد: 10521،
• بنظرة تأملية خالصة للمنجز ا لروائي العراقي نلاحظ أن الكثير من التجارب الروائية العراقية المتميزة أصبحت مرآة حقيقية للحياة وتفصيلاتها اليومية المضطربة نتيجة الفوضى والمتغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي حدثت بعد الاحتلال، إضافة إلى تطور المنجز الروائي العراقي الذي تخلص من انحصاره في لغة الشعر، وطور من أساليبه ومواضيعه، ما بات يخول لنا اليوم الحديث عن رواية عراقية لها حضورها على الساحة الأدبية العربية والعالمية.
أثنى الكثير من النقّاد على عدد من الروايات العراقية التي صدرت في السنتين الأخيرتين، حيث حققت بعضها حضوراً ملحوظاً في معارض الكتاب العربية وانتشارا في أوساط القرّاء، وحصل عدد منها على جوائز عربية وعالمية مهمة، كما حظي عدد آخر لا بـأس به بترجمات إلى لغات مختلفة، ناهيك عن الزخم الروائي داخل العراق حيث صدرت في العام الماضي وحده ما لا يقل عن 100 رواية، بعد أن حققت جائزة بغداد للرواية العراقية نجاحاً ملحوظاً في تقديم عدد من الروايات المهمة، وهي جائزة روائية جديدة تنظمها دار سطور للنشر والتوزيع ببغداد وبإشراف روائيين ونقاد بارزين.
صورة عن الواقع العراقي بجميع تحولاته وإفرازاته اليومية
نسأل هنا مجموعة من النقّاد والمثقفين العراقيين المتابعين للمشهد الروائي العراقي عن كثب، ما الذي حققته الرواية العراقية في المدة الأخيرة؟ وما هي أبرز التجارب الروائية التي حققت حضوراً وانتشاراً؟
وعلى الرغم من أهمية الدراسات النقّدية التي حاولت رصد حركة الإبداع الروائي العراقي في السنتين الأخيرتين، فإنَّ أهمية الاستطلاع الصحافي تكمن في محاولة رسم صورة تقريبية للواقع الروائي واستخلاص منجزه وتقديم ذلك للقارئ والمتابع بعيداً عن الأطر النقّدية الأكاديمية المعروفة التي قد تستغرق وقتاً حتّى تتبلور، فكان هذا الاستطلاع الذي حاول رصد أبرز النجاحات التي تحققها الرواية العراقية بشكل عام من خلال تجارب يستلزم الإنصاف الوقوف عندها مطولا لأهميتها البالغة ونجاحها على الرغم من فوضى النشر واستسهال كتابة الرواية عند البعض.
التجديد الروائي
يرى الروائي والناقد إياد خضير الشمري أنه قبل الولوج إلى نتائج الرواية، هذا الجنس الأدبي المهم، يجب ترسيخ إطار إجرائي مهم وهو إبراز الهوية الجينية لهذا البناء الحكائي المتعدد الأحداث والشخصيات كما يعبر بيرسيلوبوك، بأن الرواية هي شريحة مقتطعة من الحياة. إذ يؤكد الشمري أن الرواية العراقية بدأت تتشكل لها هوية أسلوبية وبصمة لغوية وشكل معماري، وهذه العناصر بدأت تترسخ من خلال النماذج الروائية التي بدأت تبلور مفهوماً جديداً هو الرواية العراقية الجديدة بعد عام 2003، فتموضع المفهوم في نماذج روائية طليعية أخذت مكانتها كرواية سعد محمد رحيم الفائزة في مسابقة كتارا أو رواية “فرانكشتاين في بغداد” لأحمد سعداوي الفائزة بمسابقة البوكر، وروايات مهمة منها “شرق الأحزان” لعباس لطيف و”خان الشابندر” لمحمد حياوي و”جئتُ متأخراً” لعلي الحديثي، وغيرها.
أما القاص والناقد عقيل هاشم، فيعتبر أن أفضل رواية عراقية كانت “ذكريات معتقة باليوريا” لعلي الحديث. ويعتقد هاشم أن الإرهاصات التي حدثت في عصر التحولات السردية في فضاء عالم الرواية العراقية ما بعد 2003 قد توجهت صوب الكشف عن المسكوت عنه. هذا الولع ظهر في الرواية عام 2016، وكان همها الخروج من دائرة المحلية حيث المشاركة الواسعة في المعارض أو في كسب الجوائز في المسابقات العربية والاحتفاء بالمنجز الروائي العراقي عربياً.
ويضيف القاص “إن الحديث عن التحوّلات التاريخية التي ترصدها الرواية كان البارومتر المستكشف لتفاصيل الرواية الجديدة بلغة تنحاز إلى المحكي، وقد شيدها الكتاب بروح شفيفة، عن المغدورين والبسطاء لتضاف إلى المتن السردي في وضع أسئلة عن هذا العنف عبر تحرير النص من أطره التقليدية”.
تصور جديد في طرائق النص وأسلوبيته
وبدوره يلفت الشاعر والناقد خضير الزيدي إلى أن تاريخ الإبداع العراقي لم يكتسب أهمية تتعلق بخطاب النص الروائي وآليات السرد كالتي نعرفها في هذه المرحلة.
والسبب، في رأيه، يعود إلى خلق اتجاه بنائي يذهب إلى كسر القيود السالفة، منفصلا بفكرته التي تتصف بالحساسة وهو يذكر بموجة الحساسية الجديدة في مصر إبان الثمانينات من القرن الماضي التي نبهنا إليها إدوارد الخراط، وأيضا الرواية الجزائرية وجرأتها في اللغة والمضمون.
ويتابع الزيدي “أما الرواية العراقية بعد الاحتلال فقد تبنت تصورا جديدا في طرائق النص وأسلوبيته وحققت منجزا مختلفا ومشاكسا. ولعل الملفت في السنتين الأخيرتين يكمن في رواية لطفية الدليمي ‘عشاق وفونوغراف وأزمنة‘ ورواية محمد حياوي ‘خان الشابندر‘ ورواية وارد بدرالسالم ‘عذراء سنجار‘ وهي روايات شكلت منظورا رافضا للأنماط القديمة، هذه الأعمال بحق أقرب لي من غيرها مع وجود نصوص روائية أخرى لا تقل أهمية في كسر التابو المقدس مثلما عمل عليها شهيد الحلفي في روايته ‘كش وطن‘. فالذي تحقق هنا جراء آلية النص الجديد المحاكاة والتمثيل البنائي الكاشف لأدلة الواقع ورفضه وبذلك تكون البنى العميقة حسب ما اسماه كريماس قد تكونت بناء على نظام صوري، وهذا ما جعل الصورة الذهنية مكملة لما يبديه الروائي من تصوير لأحداث وأمكنة ووقائع فجاءت بلغة روائية كاشفة وصادمة لنا جميعا”.
يقول الشاعر والروائي منذر عبدالحر “ظاهرة الرواية العراقية الجديدة هي ظاهرة تتماهى مع الواقع العراقي، وتتفاعل معه، لتنتج رؤية خاصة، تتضمن آراء وأفكار الكاتب المتصدي لجسامة وغرابة الحدث، ولكن الأعمال الروائية الصادرة تفاوتت في مستواها الفني، فجاء بعضها مرتبكا في السرد وحتى في التعبير ورصد الوقائع المعروفة، فيما جاء البعض الآخر تقريريا مباشرا ومملا، انتهج أسلوب القص السطحي الساذج. لكن هناك روايات قليلة حققت فعلا نقلة فنية مهمة للرواية العراقية، ولعل رواية ‘خان الشابندر‘ للروائي العراقي محمد حيّاوي كان لها الحظ الأوفر في أن تكون رواية العام، لأنها جاءت برؤية سردية متجددة ناغمت بين شراسة الوقائع وجموح الخيال، بإدارة سردية خلاقة ولغة عالية”.
جنين النهضة
أما الروائي خضير فليح الزيدي فيشير إلى أنه إذا أمعنا النظر والتفحّص الدقيق فسنستطيع بشكل واضح وجلي أن نقر بوجود نهضة روائية عربية شاملة ومنها نهضة الرواية العراقية خاصة، رغم أن مفردة “النهضة”، كما يقول الروائي، غادرتنا منذ سنين بعيدة، ولكنها عادت إلينا هذه المرة من خلال الرواية أدبيا.
جرأة في الطرح واستلهام ثيمات معبرة عن الواقع
يقول فليح الزيدي “منذ عام 2010 بدأت ملامح جنين النهضة الروائية تُظهر الأبعاد الحقيقية لهذا المصطلح الجنيني. لكن هذه الملامح لم تفرز لنا بعد حزمة مزايا نتفق عليها في تبلور سياق تاريخي للرواية العراقية الجديدة، فلا اللغة لغة عراقية ولا الحكاية حكاية عراقية ولا الشكل الفني يتّسق مع السياق العام للملامح الروائية، حتى نقول تبلور مفهوم الرواية العراقية الصاعدة، رغم الكم الكبير الذي قارب الـ500 رواية منذ عام 2010 إلى غاية نهاية 2016، وهذا الرقم يعد رقما انفجاريا عند النظر لتاريخ الرواية منذ أول رواية عراقية عام 1928”.
ويتابع الروائي “من المجحف وغير الأكاديمي والعلمي فرز رواية واحدة ضمن نطاق سنة واحدة تجمع كل ملامح الرواية الأفضل أو الأكثر تداولا عراقيا أو عربيا على مستوى الحقل النقدي أو القرائي العام. فالملامح المرتقبة لم تجمعها رواية واحدة، بل حزمة روائية مهمة تجتمع فيها الصيغ الفنية العالية مقترنة بجمالية لغوية وتصويرية وأسلوبية مع حكايات غرائبية، وربما كانت حكاية الحروب التي مر بها البلد هي القاسم المشترك لكل الحكايات التي تقاسمتها الروايات الناجحة”.
الباحث صباح محسن كاظم يعتقد أن ما صدر من منجزٍ روائي بعد حقبة الحروب العبثية، وبعد أن كان الأدب مؤدلجاً وتعبويا، وأصبح بشكل عام يمثل طموحات وآمال الجماهير، يعكس صورة حقيقية عن الواقع العراقي بجميع تحولاته وإفرازاته اليومية، والرواية العراقية بشكل خاص انطلقت محلياً إلى العربية وحصدت الجوائز المهمة، والروايات التي أشرقت بآفاق وفضاءات نور الحرية والهواء الذي تنفست به تمتد إلى أزمنة متعددة، بما في ذلك ظلال المرحلة السابقة، وأمثلة هذه الروايات التي يستشهد بها كاظم كثيرة منها رواية “طشاري” لإنعام كجه جي، ورواية “فرانكشتاين في بغداد” لأحمد سعداوي، وروايات علي لفته السعيد وخضير فليح الزيدي وحميد المختار وشوقي كريم حسن ورغد السهيل وأحمد خلف وخالد خشان، بالإضافة إلى رواية “نحيب الرافدين” للروائي عبدالرحمن مجيد الربيعي وروايات عديدة أخرى.
من جهته يقول الرسام والناقد التشكيلي خالد خضير الصالحي “شهدت الرواية العراقية مؤخرا انفتاحاً واسعاً على نطاق العالم العربي، وحققت حضوراً ملفتاً لأول مرّة في تاريخها، كما أثارت اهتماما واسعا داخل العراق وخارجه، فقد نجحت في التصدي لموضوعات غاية في الأهمية متكئة على كم وافر من التناقضات المجتمعية التي أحدثتها الحرب في العراق، ويحيل الرسام القارئ هنا إلى روايات عراقية مهمة صدرت في العام الماضي مثل رواية الكاتب العراقي محمد حيّاوي “خان الشّابندر” ورواية الكاتبة العراقية لطفية الدليمي “عشّاق وفونوغراف وأزمنة” ورواية رغد السهيل “أحببت حماراً” ورواية وارد بدر السالم “عذراء سنجار” ورواية مرتضى كزار “طائفتي الجميلة” وغيرها.
رؤية سردية متجددة ناغمت بين شراسة الوقائع وجموح الخيال
القناع الثقافي
من جانبه يقر الروائي علي لفته سعيد بأنه لا يمكن لنا الإحاطة بالمشهد السردي بكل تفاصيله كونه مشهدا واسعا ومتوسعا وفضفاضا أيضا، مثلما هو مقتدر وميمون وقادر على السير بقوة نحو هدفه ليكون مشهدا خاصا يقوم على محصلة التجارب السردية العديدة، ومنها السردية العراقية عبر تاريخها وإن كانت الملامح لم تتضح بعد في هذه الولادة الكبيرة لانبثاق الرواية العراقية.
ويؤكد سعيد أن هناك تميزا في الكثير من المنتج الروائي إذ تم تحقيق الكثير من المعالم الجديدة، التي لم تكن موجودة أو متوافرة أو متواجدة في الرواية العراقية ما قبل هذا التاريخ منها الجرأة في الطرح واستلهام ثيمات معبرة عن الواقع أو مقابلة له بردة الفعل.
يقول الناقد والروائي رسول محمد رسول “أخذت الرواية العراقية بعد سنة 2003 طريقها الجديد، فما جرى من أحداث جذرية في الدولة والمجتمع بالعراق ليس بالشأن العابر، بل هو حراك صميمي فكك الثوابت الذاتية والموضوعية للأنطولوجيا العراقية. ويبدو لي أن 100 نص روائي هو الرقم الأقل الذي ظهر حتى الآن، وبطبيعة الحال لكل كاتب رؤيته السردية تجاه ما حدث، واللافت هنا أن الكتابة أصبحت بلا رقيب سياسي في الداخل والخارج، ولأول مرة صار الإنتاج السردي العراقي يطوف الآفاق محلقاً في الشرق والغرب. وهذا التراكم الكمي صار يؤتي ثماره النوعية تباعا”.
أما الروائي والناقد كاظم الشويلي فيعتبر أنه على الرغم من قلة الملتقيات العراقية التي تعنى بالرواية، فإن المشهد الروائي العراقي قد تنامى بشكل مذهل، حيث تحول الكثير من الكتاب إلى جنس الرواية وقد أقبلت النخبة المثقفة بشغف لافت على متابعة الإصدارات الأخيرة لتجارب الرواية العراقية الحديثة. لكن الشويلي يرى أن بعض الروايات العراقية الأخيرة قد أخفقت نظرا إلى صعود مؤشر الخط البياني، لكن يبقى في رأيه حضور الرواية العراقية في الكثير من المعارض العربية للكتاب والمحافل التي تعنى بالرواية وخاصة جوائز البوكر وكتارا، هو خير دليل على إثبات جدارتها، حيث تفجر عصر الثورة الروائية.
يقول الشاعر جرّاح كريم الموسوي أولا “يمكن أن أصطلح على النمط الكتابي الجديد في العراق بـ‘رواية القناع الثقافي‘ إذ أن الرواية العراقية أخذت تعبر عن عوالم شخصيات أو ثيمات كانت مهملة أو مسكوتا عنها. ثانيا: الرواية العراقية جمعت جماليا بين نمطين، الأوّل: التراسل الجمالي، إذ الملاحظ أن الرواية العربية والعراقية بشكل خاص أخذت تنفتح على قنوات جديدة، وأخذت تتحرك في فضاءات التشكيل بكل حرية، كالسينما والشعر والمسرح، لتنتج من كل ذلك لوحة سردية، حتى أن القارئ صار يلحظ أن بنية الجملة السردية لم تعد تحمل تلك التقريرية التي كانت تحملها سابقاً، بل انفتحت وأصبحت أكثر عمقا، أما النمط الثاني فهو على مستوى الموضوع، إذ أخذت الرواية تتقدم خطوات كبيرة وتقطع ماراثون الإبداع في مجال السرد بكل جدارة مع تراجع صوت الراوي ليتقدم صوت الشخصيات.
ومن هنا يمكن أن أسمي هذا النمط ‘رواية قناع‘ لأن الروائي صار يعبر عن الأقليات سواء كانت أقليات إثنية أو عرقية أو فكرية ويقف منها موقف الناقد متجاوزا بؤرة المسكوت عنه، وكل هذا التقدم هو حصيلة تراكم التجريب السردي في العراق والبلدان العربية الأخرى”.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق