2017/05/19

التّيِه .. قصة بقلم: فرج ياسين



التّيِه
فرج ياسين
سنحتْ لوحةٌ خاطفةٌ وسط تدافع الصور المضطرمة في مخيلتك , فتوقفتَ مع مشهد الراقصين والراقصات في حفلة عرس على عتبة في سفح جبل أزمر , مستغرقاً في عطايا طبق الألوان والألحان والوجوه الناعمة المنفعلة . ولا تدري كيف دارت البوصلة . ها أنتَ الان تمشي مع طابور الزملاء على أرض ملعب الشعب في حفلة التخرج , كتفك إلى كتف عفراء . حافة قبعتها العريضة السوداء تكاد تمس قبعتك حين التفتَّ لترى عينيها , لكن معطف صديقك غالب الرصاصي الطويل الفضفاض , الذي اشتراه من تحت التكية في شارع الرشيد ؛ حضر أيضا تلك اللحظة . وحين كانتْ يداك تمعنان في بَري الصابون على رأسك , خطفتْ حادثةُ أول حلاقة في بيتكم القديم مع أبناء الاْعمام وصبيان المحلة . رافع وأرشد وجهاد وبهجت , كلّهم رحلوا . ثم هاهي صورة صبي غريق تلوح وتنحسر سريعا ، مثل ظل يستقبل الغروب .
كانت رغوة الصابون قد تسلّلت إلى حاجبيك , وما أن رمشتَ مجفلأ حتى انزلقتْ وأرمضتْ عينيك . حان الان الخروج من تهويمات خلوة الجسد هذه . ولْتُشرع بالبحث عن عتلة خلاط الماء ؛
فمددتَ يدك من مكان وقوفك , وجعلتْ أصابعك تتقرّى جدار السيراميك ، وتتعقب الحزوز الرفيعة بين المربعات . درتَ دورةً كاملة باحثاً في جدران الحمام بمستوى الركبتين ثم الصدر من مكان وقوفك , ثم جلستَ مقرْفصاً ، ترسم بسبابتك مستقيماً عمودياً صاعداً إلى فوق ؛ حتى أوشكت على لمس السقف . وبعد دورتين أو ثلاث حول الجدران في مساحة لا تزيد على المترين المربعين ؛ لم تعثر على شئ . لا عتلة الخلاط ولا رشاش الماء . وضحكتَ من فشلك ؛ فانخرمتْ في روعك إنشودة نابعةٌ من صفحات  خزانة تراث مرير ( وطني حبيبي وطني الاكبر ) . لكنك رأيتَ غيوماً سود ثقالاً , راحت تسكب المطر كالشلالات , وصاح اسماعيل سوف نغرق إن لم نخرج مسرعين من هذه المغارة . وسمعت أمك أيضا وهي تحذرك من أشواك طريق مزرعتكم الشاطئية الطويل. وفي خاطرة مجاورة ها أنتَتقف حائراً بين عدد من الرجال المشدوهين والنساء الدامعات ، في المصعد العاطل بين الطوابق العالية في فندق المنصور ميليا .
جسدُك يرتجف وعيناك تحترقان ، وضجَّ الصراخ في قلبك من دون أن تنطقَ حرفاً واحداً :  أنا تائه , أنا تائه ياعالم !

ليست هناك تعليقات: