عبدالقادر صيد
لابد أن يخرج في هذا الوقت بالذات ،تسألني لم ؟أقول لك لا ينفع غير هذا الجو ،فالليل مظلم ،و الرياح تصيح عازفة سيمفونية رملية نادرة الحدوث في هذه الصحراء . إنه عازم على تنفيذ ما تعوّد عليه على الرغم من توسل زوجته بأن يبقى معها في المنزل ، و على الرغم من نظرات أبنائه المترجية التي تتكبر عن التضرع..عند كل خروج يوقّع عقدا جديدا مع كابوس من نوع خاص ،و يفسخ عقدا آخر مع وداعته التي عرفه بها الجميع. تتقدّم الشاحنة وقحة أمام حبات الرمل التي لم تستطع أن تخدش حياءها ، يرتمي ضوؤها بالكاد أمامها مترين أو ثلاثة، لكن الرجل يمضي إلى شأنه ، لا مجال للفراشات و الحشرات التي ألفت أن تتراقص في الطريق، فقد حان الآن زمن معركة الكبار؛ الريح و الشاحنة و الإرادة .
يخرج من القرية .. يسوق بحذر ، يتفقد يمينا و شمالا ، يضطر إلى استعمال المنبه الصوتي من حين إلى آخر حتى تتجنبه السيارات التي تستهدفه مباشرة بسبب انعدام الرؤية ، و بسبب قلة الخبرة بالسياقة عموما، أو بسبب عدم التعود على هذه المسالك الصعبة .ثم هو يخشى شيئا آخر ، خطير للغاية ، إنه تلك الجمال التي تتنقل في الظلام ، و تتجه نحو الطريق ، و أحيانا كثيرة تنام وسطها ، يصعب عليك تجنبها إذا كنت مسرعا أو غير منتبه ، بالنسبة إليه فإن يبنه و بين الجمل علاقة قرابة ، فكلاهما كادح في هذه الحياة ، و ماء سنامه ممتلئ من رحم واحدة مع ماء جبهته .. رحم المعاناة ، لقد سمع بتلك المآسي التي يخطها سائقون ثملون أو مهملون أو قليلو التجربة حينما يصطدمون بجمال في الليل أو في النهار، يحاول أن يبعد عن مخيلته هذا الافتراض .
على الرغم من حفظه لكل الشعاب في هذه المنطقة ، إلا أنه في كثيرا من الأحيان يحدث له أن يتخيل أشياء كثيرة في هذا الظلام الدامس، فيبدو أمامه في رحلاته الليلية حائط يسدّ له الطريق ، فيكاد ينخدع بذلك في تلك البرهة ، ثم يرتفع على جانبي الطريق جبلان ، أحيانا أخرى يحس أنه رأى شخصا قطع الطريق بسرعة البرق، و أشياء غريبة مختلفة ، لا يحبذ أن يرويها لأهله حتى لا يزدادوا قلقا عليه .. حتى هو في أعماق نفسه لا يحب أن يصدقها لكي يتمكن من المحافظة على رباطة جأشه إلى سن العجز .
لم تعد الذئاب و الثعالب تسأل عن شأنه كلما رأته في هذه الفجاج ، فقد ألفته ، و ألفها ، و انعقدت بين عيونها و عينيه تحية إجلال متبادلة ، فما أخرجها هو ما يخرجه الآن ، ليس هناك ما هو أفرس منها هنا ،و هي قادرة في حال سرعته البطيئة هذه أن تعض له العجلات أو أن تأكلها لكنها لا تفعل ذلك ، و قد حدث و أن نزل عدة مرات خلال هذه السنين من شاحنته لتصليح عطل ما ؛سواء في مصابيحه أو في العجلات أو في أي شأن آخر ، فلم تقترب منه ، و لم تهدده ، تكتفي بملاحظة تحركاته متوجسة و مشفقة عليه .. لو كانت تفقه شيئا مما يعالج لقدمت له يد المعونة .
ها هو الآن في قلب العاصفة ، و في أوجهها، هذه اللحظة بالذات يعيش نشوتها، و يكون فيها أقرب إلى الارتزاق من غيرها ، ينظر من خلف نافذته مفزوعا ، يرى السيارات الصغيرة التي تتحرك ببطء شديد تخشى الانحراف عن جادة الطريق يمينا أو يسارا، و تحذر من الاصطدام بأي سيارة في الاتجاه المعاكس ، رعب كبير يعيشه أي سائق في هذه الأثناء ، كم يستأنسون بالسيارات التي تسير أمامهم لأنها تفتح لهم الطريق ! أما هو فلا يستأنس بغير أمل بالرجوع بقيمة لا بأس بها من النقود .
يرى أمامه سيارتين متوقفتين على حافة الطريق ، قد يتسببان في حادث ، يترك شاحنته الكبيرة مفتوحة الأضواء حتى يحميهما ، فيعرف أن أحدهما يحتاج إلى البنزين ، و الآخر يريد تقديم المساعدة و لكن سيارته تشتغل بالمازوت ، الحل عنده ، فهو يحمل معه دائما السائلين، رفض أن يأخذ أجرا عن ذلك ، لم يكمل طريقه حتى رآهما يتقدمان أمامه بأمان ، يحس بمتعة الحياة كلما قدم خدمة مجانية إلى غيره ، يبتسم ، ثم يتنهد ، و قد تصدر منه تمتمات لا يتحكم فيها نتيجة هذه الأريحية.
يتذكر يوميا بنكهة أسطورية ليلة مضت منذ سنوات ؛ قافلة من السياح مرض سائقهم ، اضطروا إلى التوقف في عاصفة هوجاء ، نزل من أجلهم ، و أوصلهم إلى وجهتهم ، قعدت بجنبه فتاة حسناء ، يبدو أنها تثيره ،قال في نفسه :
ـ لا ..هي لا تتعمد ذلك ، فنحن السكان هنا دائما سيئو النية ..
أقنع نفسه بالاحتمالين ، حركاتها ، و نظراتها تقولان أشياء كثيرة،لكنها لم تنبس بشفتيها أي كلمة صريحة .. المهم رجع إلى المنزل صباحا و هو يفوح عطرا ، زوجته المسكينة اختنقت بتلك الروائح ،و بعد يومين أصيبت بداء الربو،هو متأكد من أنها مرضت من مكابدة الاحتمالات الفظيعة .
فجأة تغزوه ذكرى أبيه الراحل ، يحاربها لا كرها فيه ، و لكن تشبثا بحب الحياة في هذه الأجواء المهددة بالرحيل و وشك وقوعه بين الفينة و الأخرى .
و هو يتقدم بتؤدة و ثقة ، يرى ضوءا قويا ، يعمي عينيه ، يغلقهما ..ينتابه شعور لم يراوده طيلة حياته المليئة بالأخطار ، هذا الشعور هو القبول و الاطمئنان لاستقبال قدر الله ، و فعلا كان ذلك ، إنها شاحنة ضخمة تضل الطريق ، و تضرب مركبته مباشرة .
في الصباح الباكر فوجئ أهله بشاحنته المخصصة لإسعاف السيارات محطمة محمولة فوق شاحنة ضخمة ..و بسيارة تحمل جثته الهامدة ..لقد كان عمله اليومي هو إسعاف السيارات ليلا في العواصف الرملية ، و ها هو الآن يعود مُسعَفا إلى بيته نهارا في جو هادئ.
هناك تعليق واحد:
رائع
إرسال تعليق