(غميضة) للقاصة دليلة مكسح
بقلم:
عبدالقادر صيد
القصة
غميضة
تفرقوا يمنة ويسرة..تاركين إياه وحيدا مغمض العينين..بدأ يعد للأربعين..وهو وقت كاف للاختباء..بعد انتهاء العد فتح عينيه، ومد خطواته بحذر ليبحث عنهم..أمضى الساعات الطوال في البحث دون جدوى..وحين أطلت الشمس لتعلن عن قدوم يوم جديد..اكتشف أن كل شيء من حوله قد تغير، وأنه كبر وصار له شارب ولحية..لم يعرف نفسه وما حوله..أغمض عينيه من جديد وبدأ بالعد.. ولكن هذه المرة ليس للأربعين بل للألف.
تفرقوا يمنة ويسرة..تاركين إياه وحيدا مغمض العينين..بدأ يعد للأربعين..وهو وقت كاف للاختباء..بعد انتهاء العد فتح عينيه، ومد خطواته بحذر ليبحث عنهم..أمضى الساعات الطوال في البحث دون جدوى..وحين أطلت الشمس لتعلن عن قدوم يوم جديد..اكتشف أن كل شيء من حوله قد تغير، وأنه كبر وصار له شارب ولحية..لم يعرف نفسه وما حوله..أغمض عينيه من جديد وبدأ بالعد.. ولكن هذه المرة ليس للأربعين بل للألف.
انتهت
حرف يتمايه
مع ذبذبات النفس الإنسانية ، و ينساق مع تأوهاتها الغائرة إلى بؤرة الأحاسيس ،يدور
متسربلا بتكرار منهجي كلازمة جميلة ،يحاكي (رقصة التنورة) الصوفية التي تسبح بك في
عالم فسيح صاف .
رست القاصة
على هذا العنوان ( غميضة) ،و هو مشتق من النص ، حيث ترتع كلمتان ( مغمض العينين) و
( أغمض) في حقل سردها،كما له علاقة الضدية
بعبارة (فتح عينيه)، و العنوان يستثمر الفلكلور
الكوني و الوجدان الجمعي ،إذ ينتقي لعبة عالمية لا تجد من لم يمارسها في مرحلة البراءة،إلا
أنها في هذه المعالجة أضافت لنا قيمة جديدة
، وهي أن بعضهم لا يكبر ، بل يواصل المواظبة
على هذه التسلية حتى في سن جد متأخرة ، لا
يستفيق إلا بعد فوات الأوان .
و العنوان
ينم عن ذكاء أدبي فطري ، فهو طُعم مغر لجميع
القراء على اختلاف مراتبهم لمغازلته سن الطفولة، و للمفارقة التي يحملها و المتمثلة
في مزجه بين الفلكلورية و الحداثة ،فهو من العناوين الجديدة لفظا و اتجاها . كما أن
هذا الاختيار الموفق لهذه الأرضية سهّل المهمة
أمامها منذ البداية.
استهلت القاصة نصها بعبارة (تفرّقوا) ، و هي كلمة
مفتاحية في سيرورة القصة ، وهذا التفرق لم
تُلحقه بشبه الجملة (عنه) ذلك أنها تريد أن تؤكد أن التفرق أمر تمّ بطريقة آلية نزولا
عند قواعد اللعبة ، كما أن المتفرقين لم ينحازوا
إلى مكان واحد ،فقد تشتتوا يمنة و يسرة ، و هو المؤشر الذي ينفي عنهم صفة التواطؤ ،
أو نية اقتراف جريمة التفرق عنه ،وإنما هي طبيعة لعبة الحياة التي فرقتهم أيدي سبأ
، و بالتالي لا يتحملون عبء مسؤولية هذه المأساة التي طحنت بطل القصة..عزّزت فكرتها
بعبارة (تاركين إياه) ، أي أنهم لا يقصدون تركه ، و لكن الترك حصل نتيجة التفرق ، و
هذا الترك ليس مقصودا في حدّ ذاته كونه متعديا بضمير نصب منفصل ، و مجيئه حالا ، يُحاكي
حال الدنيا ..
و قد بدا
أول ظهور للشخصيات التي يتعامل معها البطل غير مشرّف ،فهو ظهور سلبي ، تكورت هذه السلبية في قوالب؛ أولها التفرق ، و ثانيها انقسام هذا التفرق
إلى يمنة و يسرة ،ثم النتيجة الحتمية و هي تركه وحيدا .و هؤلاء لا يستحقون أن نعرفهم
، فهم مجرد ضمائر غائبة ، بل بلا ضمائر، لذلك لم تهتم القاصة برسم ملامحهم لنا .
و لا يخفى
ما في عبارة (مغمض العينين) من رمزية موحية بقلة خبرة البطل بغدر الزمان الذي يوظف
الأشخاص الذين يحيطون به أداة في فنون المكر .
و تقصد
بالعد إلى رقم الأربعين بلوغ سن النضج ، أما الاختباء فهو يشير إلى الركون في زاوية
من مسارب الحياة بزوجة و سكن و وظيفة..ربما فاتته هذه الأشياء ، و ربما فاته دفء آخر
، حلم لا نعرفه نحن، لم تطلعنا عليه القاصة ،فالنص عموما كونيّ يمكن أن يلخص كل الآمال
الفسيحة و الطموحات العريضة.
بعدما فتح
البطل عينيه مد خطواته بحذر ، قد يكون الحذر هنا تعبيرا مهذبا عن الخوف من دروب الحياة
، و عن قلة الثقة في النفس جراء نكران الأصدقاء و اختفائهم في الوقت الذي هو في أمس
الحاجة إليهم، وحدها الشمس تبقى وفيّة ، و تظهر ، و لكن ظهورها يزيد الأمر مرارة و
مأساوية ،لأنها تفضح المؤامرة و تكشف الاتفاق .
إن ظهور الشمس
قد يوازي ظهور الشيب ..و الساعات الطويلة هي نسبية ، فهي بالنسبة للعبة ساعات ،و إذا
صرفناها بعملة العمر ، فهي أعوام .
بعدما فتح
عينيه لم يعرف نفسه و ما حوله ، و قد استعملت الكاتبة (ما) لغير العاقل عوض (من) ، لأن الأصحاب ما زالوا مختفين ، و إن ظهر بعضهم
، فيمكن التعامل معه مثلما نتعامل مع أي شيء
جامد...
أرادت القاصة
أن يسبح شخصياتها في أتون الغياب، بعضهم بالاختفاء
، و البطل بإغماض عينيه ، وحدها الشمس تحضر ـ و هي البعيدة ـ حضورا واضحا بنورها تفضح
فيه هذه الوضعية التي تتصف بالاستغلالية لفكر معين يعتنقه البطل ، ربما مثّلت الشمس لحظة استفاقة عابرة
و مفاجئة ..يبقى أن الكل مشغول ؛الآخرون بالتفرق و صاحبنا بالعدّ.
ظهرت شخصية
البطل مثل أنموذج المثالي المطيع ، صاحب العقلية المخلصة للعقد الاجتماعي والنفسي ،
الذي لا يفكر في كسر قواعد اللعبة و لو كانت على حسابه ..فعند استفاقته لم يتّهم عالمه
الخارجي ، بل انكفأ على نفسه ، و شرع في العد من جديد ، لعله يكون قد أخطأ في حسابه..و
قد تكون راحته في إغماض عينيه عن عيوب و مكائد الأصدقاء .
هذا الشخص
من النوع الذي يلج الحياة و يخرج منها دون أن يدخل في صراع مع أحد.. كيف تنتظر من شخص مغمض العينين أن يخوض صراعا؟ أنّى يتسنى له ذلك و الزمن ينحت نقيشته على رأسه
و على حاله بسرعة فائقة ، بينما يبقى فكره
و نفسيته غير متأثرين بما يجري حولهما .
إن بقاءه
وحيدا هو أمر مأساوي ، و لكن ما يخفف عنه المصيبة هو أنه مغمض العينين ، و لاسيما بعد
فوات الأوان ..ما بقي له إلا الانغماس من جديد في اللعبة التي أفنى فيها شبابه ..
و لكن على
أي شيء ارتكزت الكاتبة كي تصنع هذا البهاء في نصها ؟
لقد راهنت على الرمزية ،و على السردية،و لم تراهن كثرا
على القفلة ، فسحر السرد يرافقنا منذ البداية بصورة شفافة ليسلمنا إلى المتعة المنشودة
من العمل الإبداعي .
امتزجت السردية
بالشاعرية في خلطة سحرية من حروف رشيقة ، و بهارات فلكلورية و تناص لطيف شفّاف يوافق
الآية الكريمة (حتى إذا بلغ أشده و بلغ أربعين
سنة ) ، كما لا أستطيع أن أنكر تشابه حال البطل لأهل الكهف الذين استيقظوا ثم رجعوا
إلى نومهم من جديد.. و اختلاف الناس في عددهم .أما هو فلن يختلف في عدد أصدقائه ،لأنه
مشغول بعالم الأرقام ، و هو عالم التجريد
.
كما وظفت بشكل ملفت نقاط الحذف، و هي بذلك تريد الإيحاء بسرعة
الأحداث وغرس انطباع بمرور الوقت بشكل خاطف
، هي وقفات أيضا لذرف الدموع من قبل عدد لا
بأس به من القراء الذين يتقاسمون مع البطل
زوايا أخرى و هم مغمضو العيون ، الأكيد أنهم سيشرعون في العد بعد الانتهاء من قراءة
النص .
و على الرغم
من أن القفلة ليست صادمة بالمعنى الشكلي أو الحرفي للكلمة ، إلا أنها ساهمت بمفارقتها
الجمالية التي جاءت بأسلوب غير صادم في إضفاء أجواء من الخرافية الحالمة ، فتراكمية الأحداث كانت مبشرة بها إلى أبعد مدى
.و سبب عدم الشعور بالصدمة و الارتباك هو أنه لم يطرأ حدث جديد مغاير و مزعزع، فهو
رجوع إلى العد ، و لا يخفى ما في هذا الرجوع إلى الانغماس مجددا في العد من فنتازيا
حالمة ، و لاسيما إذا كان إلى مالا نهاية .
يصنع النص
الحدث الوجداني ،فينتابك حنين و أنت تتابعه ، و تجد نفسك مدعوا إلى قراءته أكثر من
مرة لتستطعمه أكثر،إنه شوق إلى زمن الطفولة و هو ما تعمدت الكاتبة الارتكاز عليه، حيث
تُظهر لك الوجوه التي كانت تحيط بك و التي اختفت الآن ، ربما ذلك التلميذ الذي كان
يجالسك و كنت تدس له الإجابة سرا ، و صار شخصا مهما و تناساك ، و ربما تهرّب من مقابلتك بأساليب ماكرة .
و قد حرصت الكاتبة أن تكون شخصياتها بلا ملامح وصفية
، لكنها رسمت من خلال أفعالهم صورة جد واضحة .
يحمل النص
أيضا انطباعا بأن فترة هذه الحياة هي حلم ، كلما استيقظ أحدنا انزعج ،ثم رجع إلى شخوص
حلمه يبحث فيهم العزاء عن عالم قاس جدا،يعتمد على رجلين : التفرق و العد .
كأنني أسمع الكاتبة تقول:احذر من أن تغمض عينيك ، فقد
تبتلعك لعبة الزمن.
القصة
غميضة
تفرقوا يمنة ويسرة..تاركين إياه وحيدا مغمض العينين..بدأ يعد للأربعين..وهو وقت كاف للاختباء..بعد انتهاء العد فتح عينيه، ومد خطواته بحذر ليبحث عنهم..أمضى الساعات الطوال في البحث دون جدوى..وحين أطلت الشمس لتعلن عن قدوم يوم جديد..اكتشف أن كل شيء من حوله قد تغير، وأنه كبر وصار له شارب ولحية..لم يعرف نفسه وما حوله..أغمض عينيه من جديد وبدأ بالعد.. ولكن هذه المرة ليس للأربعين بل للألف.
تفرقوا يمنة ويسرة..تاركين إياه وحيدا مغمض العينين..بدأ يعد للأربعين..وهو وقت كاف للاختباء..بعد انتهاء العد فتح عينيه، ومد خطواته بحذر ليبحث عنهم..أمضى الساعات الطوال في البحث دون جدوى..وحين أطلت الشمس لتعلن عن قدوم يوم جديد..اكتشف أن كل شيء من حوله قد تغير، وأنه كبر وصار له شارب ولحية..لم يعرف نفسه وما حوله..أغمض عينيه من جديد وبدأ بالعد.. ولكن هذه المرة ليس للأربعين بل للألف.
انتهت
حرف يتمايه
مع ذبذبات النفس الإنسانية ، و ينساق مع تأوهاتها الغائرة إلى بؤرة الأحاسيس ،يدور
متسربلا بتكرار منهجي كلازمة جميلة ،يحاكي (رقصة التنورة) الصوفية التي تسبح بك في
عالم فسيح صاف .
رست القاصة
على هذا العنوان ( غميضة) ،و هو مشتق من النص ، حيث ترتع كلمتان ( مغمض العينين) و
( أغمض) في حقل سردها،كما له علاقة الضدية
بعبارة (فتح عينيه)، و العنوان يستثمر الفلكلور
الكوني و الوجدان الجمعي ،إذ ينتقي لعبة عالمية لا تجد من لم يمارسها في مرحلة البراءة،إلا
أنها في هذه المعالجة أضافت لنا قيمة جديدة
، وهي أن بعضهم لا يكبر ، بل يواصل المواظبة
على هذه التسلية حتى في سن جد متأخرة ، لا
يستفيق إلا بعد فوات الأوان .
و العنوان
ينم عن ذكاء أدبي فطري ، فهو طُعم مغر لجميع
القراء على اختلاف مراتبهم لمغازلته سن الطفولة، و للمفارقة التي يحملها و المتمثلة
في مزجه بين الفلكلورية و الحداثة ،فهو من العناوين الجديدة لفظا و اتجاها . كما أن
هذا الاختيار الموفق لهذه الأرضية سهّل المهمة
أمامها منذ البداية.
استهلت القاصة نصها بعبارة (تفرّقوا) ، و هي كلمة
مفتاحية في سيرورة القصة ، وهذا التفرق لم
تُلحقه بشبه الجملة (عنه) ذلك أنها تريد أن تؤكد أن التفرق أمر تمّ بطريقة آلية نزولا
عند قواعد اللعبة ، كما أن المتفرقين لم ينحازوا
إلى مكان واحد ،فقد تشتتوا يمنة و يسرة ، و هو المؤشر الذي ينفي عنهم صفة التواطؤ ،
أو نية اقتراف جريمة التفرق عنه ،وإنما هي طبيعة لعبة الحياة التي فرقتهم أيدي سبأ
، و بالتالي لا يتحملون عبء مسؤولية هذه المأساة التي طحنت بطل القصة..عزّزت فكرتها
بعبارة (تاركين إياه) ، أي أنهم لا يقصدون تركه ، و لكن الترك حصل نتيجة التفرق ، و
هذا الترك ليس مقصودا في حدّ ذاته كونه متعديا بضمير نصب منفصل ، و مجيئه حالا ، يُحاكي
حال الدنيا ..
و قد بدا
أول ظهور للشخصيات التي يتعامل معها البطل غير مشرّف ،فهو ظهور سلبي ، تكورت هذه السلبية في قوالب؛ أولها التفرق ، و ثانيها انقسام هذا التفرق
إلى يمنة و يسرة ،ثم النتيجة الحتمية و هي تركه وحيدا .و هؤلاء لا يستحقون أن نعرفهم
، فهم مجرد ضمائر غائبة ، بل بلا ضمائر، لذلك لم تهتم القاصة برسم ملامحهم لنا .
و لا يخفى
ما في عبارة (مغمض العينين) من رمزية موحية بقلة خبرة البطل بغدر الزمان الذي يوظف
الأشخاص الذين يحيطون به أداة في فنون المكر .
و تقصد
بالعد إلى رقم الأربعين بلوغ سن النضج ، أما الاختباء فهو يشير إلى الركون في زاوية
من مسارب الحياة بزوجة و سكن و وظيفة..ربما فاتته هذه الأشياء ، و ربما فاته دفء آخر
، حلم لا نعرفه نحن، لم تطلعنا عليه القاصة ،فالنص عموما كونيّ يمكن أن يلخص كل الآمال
الفسيحة و الطموحات العريضة.
بعدما فتح
البطل عينيه مد خطواته بحذر ، قد يكون الحذر هنا تعبيرا مهذبا عن الخوف من دروب الحياة
، و عن قلة الثقة في النفس جراء نكران الأصدقاء و اختفائهم في الوقت الذي هو في أمس
الحاجة إليهم، وحدها الشمس تبقى وفيّة ، و تظهر ، و لكن ظهورها يزيد الأمر مرارة و
مأساوية ،لأنها تفضح المؤامرة و تكشف الاتفاق .
إن ظهور الشمس
قد يوازي ظهور الشيب ..و الساعات الطويلة هي نسبية ، فهي بالنسبة للعبة ساعات ،و إذا
صرفناها بعملة العمر ، فهي أعوام .
بعدما فتح
عينيه لم يعرف نفسه و ما حوله ، و قد استعملت الكاتبة (ما) لغير العاقل عوض (من) ، لأن الأصحاب ما زالوا مختفين ، و إن ظهر بعضهم
، فيمكن التعامل معه مثلما نتعامل مع أي شيء
جامد...
أرادت القاصة
أن يسبح شخصياتها في أتون الغياب، بعضهم بالاختفاء
، و البطل بإغماض عينيه ، وحدها الشمس تحضر ـ و هي البعيدة ـ حضورا واضحا بنورها تفضح
فيه هذه الوضعية التي تتصف بالاستغلالية لفكر معين يعتنقه البطل ، ربما مثّلت الشمس لحظة استفاقة عابرة
و مفاجئة ..يبقى أن الكل مشغول ؛الآخرون بالتفرق و صاحبنا بالعدّ.
ظهرت شخصية
البطل مثل أنموذج المثالي المطيع ، صاحب العقلية المخلصة للعقد الاجتماعي والنفسي ،
الذي لا يفكر في كسر قواعد اللعبة و لو كانت على حسابه ..فعند استفاقته لم يتّهم عالمه
الخارجي ، بل انكفأ على نفسه ، و شرع في العد من جديد ، لعله يكون قد أخطأ في حسابه..و
قد تكون راحته في إغماض عينيه عن عيوب و مكائد الأصدقاء .
هذا الشخص
من النوع الذي يلج الحياة و يخرج منها دون أن يدخل في صراع مع أحد.. كيف تنتظر من شخص مغمض العينين أن يخوض صراعا؟ أنّى يتسنى له ذلك و الزمن ينحت نقيشته على رأسه
و على حاله بسرعة فائقة ، بينما يبقى فكره
و نفسيته غير متأثرين بما يجري حولهما .
إن بقاءه
وحيدا هو أمر مأساوي ، و لكن ما يخفف عنه المصيبة هو أنه مغمض العينين ، و لاسيما بعد
فوات الأوان ..ما بقي له إلا الانغماس من جديد في اللعبة التي أفنى فيها شبابه ..
و لكن على
أي شيء ارتكزت الكاتبة كي تصنع هذا البهاء في نصها ؟
لقد راهنت على الرمزية ،و على السردية،و لم تراهن كثرا
على القفلة ، فسحر السرد يرافقنا منذ البداية بصورة شفافة ليسلمنا إلى المتعة المنشودة
من العمل الإبداعي .
امتزجت السردية
بالشاعرية في خلطة سحرية من حروف رشيقة ، و بهارات فلكلورية و تناص لطيف شفّاف يوافق
الآية الكريمة (حتى إذا بلغ أشده و بلغ أربعين
سنة ) ، كما لا أستطيع أن أنكر تشابه حال البطل لأهل الكهف الذين استيقظوا ثم رجعوا
إلى نومهم من جديد.. و اختلاف الناس في عددهم .أما هو فلن يختلف في عدد أصدقائه ،لأنه
مشغول بعالم الأرقام ، و هو عالم التجريد
.
كما وظفت بشكل ملفت نقاط الحذف، و هي بذلك تريد الإيحاء بسرعة
الأحداث وغرس انطباع بمرور الوقت بشكل خاطف
، هي وقفات أيضا لذرف الدموع من قبل عدد لا
بأس به من القراء الذين يتقاسمون مع البطل
زوايا أخرى و هم مغمضو العيون ، الأكيد أنهم سيشرعون في العد بعد الانتهاء من قراءة
النص .
و على الرغم
من أن القفلة ليست صادمة بالمعنى الشكلي أو الحرفي للكلمة ، إلا أنها ساهمت بمفارقتها
الجمالية التي جاءت بأسلوب غير صادم في إضفاء أجواء من الخرافية الحالمة ، فتراكمية الأحداث كانت مبشرة بها إلى أبعد مدى
.و سبب عدم الشعور بالصدمة و الارتباك هو أنه لم يطرأ حدث جديد مغاير و مزعزع، فهو
رجوع إلى العد ، و لا يخفى ما في هذا الرجوع إلى الانغماس مجددا في العد من فنتازيا
حالمة ، و لاسيما إذا كان إلى مالا نهاية .
يصنع النص
الحدث الوجداني ،فينتابك حنين و أنت تتابعه ، و تجد نفسك مدعوا إلى قراءته أكثر من
مرة لتستطعمه أكثر،إنه شوق إلى زمن الطفولة و هو ما تعمدت الكاتبة الارتكاز عليه، حيث
تُظهر لك الوجوه التي كانت تحيط بك و التي اختفت الآن ، ربما ذلك التلميذ الذي كان
يجالسك و كنت تدس له الإجابة سرا ، و صار شخصا مهما و تناساك ، و ربما تهرّب من مقابلتك بأساليب ماكرة .
و قد حرصت الكاتبة أن تكون شخصياتها بلا ملامح وصفية
، لكنها رسمت من خلال أفعالهم صورة جد واضحة .
يحمل النص
أيضا انطباعا بأن فترة هذه الحياة هي حلم ، كلما استيقظ أحدنا انزعج ،ثم رجع إلى شخوص
حلمه يبحث فيهم العزاء عن عالم قاس جدا،يعتمد على رجلين : التفرق و العد .
كأنني أسمع الكاتبة تقول:احذر من أن تغمض عينيك ، فقد
تبتلعك لعبة الزمن.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق