بقلم: الدكتور محمد سيف الإسلام بوفـلاقــــة
كلية الآداب-جامعة عنابة-
تتركز فعالية الناقد الدكتور عبد الملك مرتاض على محاور متعددة،وهذا ما يدل على مدى عمق وثراء ثقافته ومعرفته،وتنظيراته النقدية،فالدكتور عبد الملك مرتاض يتميز بالموسوعية في الإنتاج والنأي عن التخصص الدقيق،وقد لعب دوراً حاسماً في تألق الأدب والفكر الجزائري،وازدهار المعرفة الأدبية، ولذلك فهو يشكل امتداداً لجيل من الرواد الكبار من بُناة النهضة الفكرية،والأدبية،والثقافية، وكما يرى الأديب كمال الرياحي فعبد الملك مرتاض من الأسماء القليلة التي يمكن أن نسمّيها بـ«الكائنات الأوركستراليّة» والتي تعزف على أوتار مختلفة، فهو الناقد والروائي والباحث في الإسلاميات وفي التراث.
والمتابع لمنجزات وجهود العلاّمة الدكتور عبد الملك مرتاض في المرحلة الأخيرة،يُلاحظ أنه يسعى إلى التنظير لمجموعة من القضايا الأدبية والفكرية،فهو يكشف عبر كتاباته المتنوعة عن رغبته الدائمة في التنظير إلى الكثير من القضايا الأدبية والمعرفية التي شغلت اهتمامه،حيث أصدر مؤخراً مجموعة من الأبحاث والمؤلفات التي قدم من خلالها مجموعة من الرؤى والأفكار الجادة والعميقة،نذكر من بينها:«في نظرية الرواية»، ،و«نظرية القراءة»،و«نظرية النص الأدبي»،و«قضايا الشعريات»،و«نظرية البلاغة»،و« الكتابة من موقع العدم»،و «قراءة النّص: بين محدوديّة الاِستعمال ولا نهائيّة التأويل».
ويندرج كتابه الموسوم ب:«في نظريّة النّقد»في هذا الإطار،فقد قدم من خلاله متابعة شاملة لأهم المدارس النقدية المعاصرة،وتوقف مع نظرياتها بالتحليل والنقاش والمساءلة العلمية الجادة.
قسم الدكتور عبد الملك مرتاض كتابه إلى ثمانية فصول،بعد مقدمة مطولة ناقش فيها جملة من المفاهيم التي تتصل بالقراءة والكتابة والنقد،ورسم من خلالها صورة واضحة لمجموعة من الإشكاليات المعرفية الشائكة،حيث ذكر أن الكتابة واجب،وإن كانت حرية كما يقول رولان بارث فهي أيضاً واجب محتوم على الكاتب أن يؤديه للمجتمع ولا يستطيع الإفلات من فعله،إذ لا يسعه إلا أن يكتب،وأن يقول شيئاً،حيث يقول في هذا الصدد:« السّعْيُ في الكتابة كلُّه قائمٌ على وهْم حقيقيّ. أو قل على حقيقة وهميّة. أو قل: على لا شيءَ إطلاقاً، فأن نكتب، كأنّنا نهدِم. نقوّض ما كان مبنيّاً. فإنْ حافظنا على المبنيّ لم نستطع الكتابة. فالكتابة هدْمٌ للكتابة السّابقة. تقويضٌ لها. إقامةُ بنيانٍ وهْميّ على أنقاضها. ولذلك فالذين يَسْتَعِفُّون عن التّقويض ويأْبَوْنَه إباءً، سيعجزون في الغالب عن أن يكتبوا شيئاً البتّةَ، أو شيئاً ذا بال على الأقلّ، فكأنّ اللّغة قتْلٌ للقِيَم، في رأي بعض المفكّرين الغربيّين. أو هي قتْلٌ، على الأقلّ، لما نراه منعدمَ القيمة، في عصرنا. وهي قتْل للمؤلِّفين السّابقين، ولو أنّهم أمواتٍ، أو أحياءٌ، معاً. لأنّ الإبقاء على حياة أولئك الذين كانت الكتابة قتلتْهم لا يُفضي إلاّ إلى قتْل الذي يريد أن يكتب هو نفسه، فلا يكتب شيئاً»)1(.
وقد أشار الدكتور مرتاض إلى منظور جان بول سارتر الذي قدمه في كتابه:«ما الأدب؟»،ورأى أنه على الرّغم من الأسئلة الكثيرة التي طرحها عن الكتابة، أو عليها، قُبَيل منتصف القرن العشرين، واجتهد في أن يجيب عن بعضها في كتابه «ما الأدب؟»؛ إلاّ أنّه لم يُجِب عنها، في الحقيقة، إلاّ بطريقته الخاصّة، وإلاّ حسَب مذهبه الوجوديّ في التّفكير، ووفق رؤيته إلى الحياة؛ ممّا قد يجعل من حقّ كلّ كاتب مفكّر أن يثير الأسئلة الخالصة له؛ ثم يجتهد في الإجابة عنها بطريقته الخاصّة.
انصب الفصل الأول من الكتاب،والمعنون ب« النّقد والنّقّاد: الماهيّة والمفهوم» على رصد مفاهيم ومدلولات النقد في الثقافتين العربية والغربية،ففي الثقافة الغربية كان مفهوم النقد يقترب من مفهوم نظرية الأدب وربما كان مفهومُ النّقد يلتبس بمفهوم نظريّة الأدب حيث كانوا يَصرِفونه، في وظيفته، إلى تعريف الشّعر، ووصْف الأدب،ويذكر الدكتور عبد الملك مرتاض أن لفظ النّقد في الغرب نشأ زُهاءَ عام ثمانين وخمسِمائةٍ وألْفٍ للميلاد. ويبدو أنّ أوّل من اصطنع مصطلح «النّاقد» (Le Criti¬que) هناك، في صيغة المذكّر، صارفاً إيّاه بذلك إلى من يمارس ثقافة النّقد، أو «النقد» (La critique)، في صيغة المؤنّث، كان سكالينيي (Scaligner). وقد كان يصرف معناه إلى نحو ما يعني في التّأْثيل الإغريقيّ «فنّ الحُكْم»،وانطلاقاً من هذا المفهوم التّأثيليّ، فإنّ النّقد قام على وظيفة تُشبه الوظيفة القضائيّة لدى القاضي بحيث لا مناصَ لصاحبه من إصدار الأحكام، ومحاولة التّدقيق في الأوصاف لدى إصدار هذه الأحكام، وقد تطور النقد الأدبي مع تطور الثقافة النقدية في الغرب ،ولاسيما مع ظهور نظريّات الشّكلانيّة الرّوسيّة إبّان الحرب العالميّة الأولى (التي تولّد عنها في فرنسا ما يمكن أن نطلق عليه «الشّكلانيّة الجديدة» بعد منتصف القرن العشرين)، حيث أشاروا إلى مفاهيم أدبية الأدب لأنّ موضوعه هو دراسة الأدب؛ واغتدى أدبيّاً أيضاً لأنّ خطابه في حدّ ذاته جزءٌ من الأدب»،وقد تأثر الكثير من النقاد الفرنسيين بهذا المذهب.
افتتح الدكتور عبد الملك مرتاض الفصل الثاني من الكتاب الذي عنونه ب «النّقد: والماهيّة المستحيلة» بالتساؤل ما النقد؟ وقد أثار في هذا الفصل جملة من القضايا الفكرية المتميزة التي ترتبط بفلسفة النقد،وتوقف في إجابته على هذا السؤال مع الفرق بين النقد النظري والنقد التطبيقي،فذكر في إجابته أن النّقد النّظريّ ضروريّ لازدهار الحقل المعرفيّ لهذا الموضوع من حيث هو ذو طبيعة تأسيسيّةٍ وتأْصيليّة معاً. ولعلّه ببعض ذلك يشبه العلوم التّأسيسيّة (Sciences fon¬damentales) بالقياس إلى العلوم التّطبيقيّة (Sciences appliquées) في تجاوُر حقليْهما من وجهة، وفي تشابُه طبيعة هذين الحقلين الاِثنين من وجهة ثانية، وفي تظاهُرهما على تطوير كلّ منهما لحقل صِنوه من وجهة أخرى. إذ لولا التّأسيسُ لما كان التّطبيق. ولو لم يكن إجراء التّطبيق في العلوم بعامّة لَمَا أفضت نظريّات العلماء المجرّدة إلاّ إلى نتائجَ محدودة. فهذه الحضارة الإنسانيّة العظيمة التي ننعَم اليوم برخائها وازدهارها ليست إلاّ ثمرة من ثمرات تضافر العلوم التّأسيسيّة مع العلوم التّطبيقيّة،فهو يبحث في أصول النّظريّات، وفي جذور المعرفيّات، وفي الخلفيّات الفلسفيّة لكلّ نظريّة وكيف نشأت وتطوّرت حتّى خبَتْ جذوتُها، ثمّ كيف ازدهرت وأفَلَتْ حتّى هان شأنها؛ ويقارِن فيما بينها، ويناقش تيّاراتها المختلفة، عبر العصور المتباعدة المتلاحقة معاً، أو عبر عصر واحد من العصور. وسواء علينا أ دُرِسَتْ مثلُ هذه المسائلِ تحت عنوان «نظريّة الأدب»، أم «نظريّة الأجناس»، أم «الأدب المقارن»، أم تحت أيّ عنوان آخر مثل «نظريّة الكتابة»: فإنّ الإطار الحقيقيَّ كأنّه يظلّ هو النّقدَ العامَّ.
في حين أنّ النّقد التّطبيقيّ إنّما يكون ثمرةً من ثمرات النّقد النّظريّ الذي يمدّه بالأصول والمعايير والإجراءات والأدوات، ويؤسّس له الأسُس المنهجيّة، ويبيّن له الخلفيّات الفلسفيّة، التي يمكن أن يتّخذ منها سبيلاً يسلُكها لدى التّأسيس لقضيّة نقديّة، أو لدى دراسة نصّ أدبيّ، أو تشريحه، أو التّعليق عليه، أو تأويله، معاً،و غاية النّقد في الحاليْن تظلّ هي السّعيَ إلى اِهتداءِ السّبيلِ إلى حقيقة النّصّ.
في الفصل الثالث من الكتاب تابع الدكتور عبد الملك مرتاض مناقشته لمختلف قضايا النقد الأدبي،وتحدث عن« النقد والخلفيات الفلسفية»،ومن أبرز الأسئلة التي طرحها في هذا الفصل: هل للفلسفة من «الكفاءة الأدبيّة» ما يرقَى بها إلى تحليل الظّاهرة الأدبيّة تحليلاً «أدبيّاً» حقيقيّاً بعيداً عن تمحّلات الفلسفة؟
وعالج في الفصل الرابع من الكتاب موضوع:«النقد الاجتماعي في ضوء النزعة الماركسية»،وتطرق إلى المبادئ الرئيسة التي بُني عليها النقد الاجتماعي،حيث يرى تين أن النقد يقوم على المؤثرات الثلاثة:العرق والزمان والبيئة،أما الماركسية فهي تقيم النقد على ضرورة ذوبان الفرد في المجتمع ،فالماركسيّةَ لا ترى أنّ حياة الكاتب في حدّ ذاتها هي التي تستطيع إفادتَنا بشيء، خلافاً لنظريّة تين (H. Taine) التي كانت تركّز على ترجمة الكاتب وعهده وبيئته، وأنّها لا يمكن أن تقدّم إلينا كلّ المعلومات الضّروريّة حول إبداعه المفقود. ذلك بأنّنا إذا أردنا أن نضع النّصّ الأدبيّ موضعَه المطلوب في المركّب الاِجتماعيّ؛ فعلينا أن نؤوّلَ منه المضمون. ونتيجة لذلك، فإنّ كُلاًّ من الوسط الاِجتماعيّ الذي ينشأ فيه الإبداع، والطّبقة التي يعبّر عنها، ليسا بالضّرورة هما المكان الذي قضى فيه الكاتب أيّام صِباه، أو طرَفاً مذكوراً من حياته، كما تحدث الدكتور عبد الملك مرتاض في هذا الفصل عن سُسْيُولوجيّة الأدب، والسُّسْيولوجيّة الأدبيّة،وقد افتتح حديثه عن هذه القضية بالإشارة إلى التساؤل الذي أطلقه جاك لييناردت، في مقالة رصينة كتبها في الموسوعة العالميّة عن: هل هناك فرْق بين سسيولوجيّة الأدب، والسّسيولوجيّة الأدبيّة، وقد قرر أنّ هناك، فعلاً، فرْقاً دقيقاً بينهما؛ ممّا يقتضي التّمييز بين هذين المفهوميْن الاِثنيْن: فسسيولوجيّة الأدب (Sociologie de la littérature) تعدّ جزءاً لا يتجزّأ من علم الاِجتماع نفسِه. وهي من أجل ذلك تجتهد في تطبيق مناهج علم الاجتماع فيما يخصّ التّوزيع، والرّواج، والجمهور (وهو موقف سيلبرمان (A. Sil¬bermann) أيضا. في حين يسعى بعض المفكّرين الآخرين مثل: (جان ديبوا J. Du¬bois) إلى تعميم تطبيق هذه المناهج على المؤسّسات الأدبيّة، وعلى المجموعات التي تحترف الكتابة مثل الكتّاب، والأساتذة، والنّقّاد؛ وبعبارة أدقّ، تطبّق هذه المناهج -وذلك في سياق الأدب- على كلّ ما ليس نصّاً أدبيّاً في ذاته،في حين تُعدّ السّسيولوجيّة الأدبيّة (Sociolo¬gie littéraire) على أنّها مناهج لعلوم الأدب؛ كالمنهج النّقدي الذي ينحو نحو النّصّ (من دلالة الصوت إلى الدّلالة العامّة للّغة)، كما ينحو نحو معنى هذا النّصّ وتأويله.
ضم الفصل الخامس من الكتاب دراسة موسعة عن:«النقد والتحليل النفسي»،وقد اشتملت دراسة الدكتور مرتاض على مجموعة من التحاليل الدقيقة والرؤى المتميزة،ومن أبرز القضايا التي ناقشها المؤلف في هذا الفصل علاقة التحليل النفسي بالنقد الجديد.
وفي الفصل السادس من الكتاب ركز المؤلف على«علاقة النقد باللغة واللسانيات»،و ناقش إشكالية الكتابة الأدبيّة بين اللّغة واللّسان،وأكد في مناقشته لهذه القضية الشائكة على أن كلّ أدب محكوم عليه بأن ينضويَ تحت لواء لغة ما. فاللّغة (من حيث هي نظامٌ صوتيّ ذو إشارات وعلامات مصطلَحٌ عليها فيما بين مجموعة من النّاس في زمان معيّن، وحيز معين) هي التي، وذلك بحكم طبيعتها الأداتيّة التّبليغيّة، تحتوي على ما يمكن أن نصطلح عليه في اللّغة العربيّة مقابلاً للمفهوم الغربيّ (Langage littéraire) «اللّغة الأدبيّة».
ويؤكد الدكتور عبد الملك مرتاض على أنه لابد من الاِستظهار بالتّاريخ الذي «يمكن أن يحدّد لنا، بدقّة ما، العَلاقاتِ القائمةَ بين اللّغة الأدبيّة، ولغة أدب ما (Langue d’une littéra¬ture)؛ أو، إن شئت، بتعبير لسانيّاتيّ تقنيّ، بين اللّغة واللّسان. واللّغة واللّسان مفهومان مختلفان منذ قريب من قرنين من الزّمان. فاللّغة الأدبيّة كأنّها المعجم الفنّيّ الذي يصطنعه كاتب من الكتّاب، أو يردّده في كتاباته كلغة الحريريّ في مقاماته فيعرف بها، وتعرف به. ومثل هذه اللّغة هي التي تحدّد طبيعة التّفرّد الذي يتفرّد بها كلّ أديب عملاق. وأمّا اللّسان فهو مجموعة القواعد النّحويّة والصّرفيّة، والألفاظ المعجميّةِ الأوّليّةِ الدّلالةِ، أو ذات الدّلالة العامّة التي يغترف منها جميع الأدباء والكتّاب. فاللّغة الأدبيّة هي الخصوصيّة التي يتفرّد بها الأديب؛ في حين أنّ اللّسان يمثّل الرّصيد، أو المخزون العامّ لكلّ الذين يستعملون لغة ذلك اللّسان. ويكون اللّسان، في مألوف العادة، أداةً للتّعبير مشتركةً ضمن محيط جغرافيّ. وقد يتميز هذا اللّسان، أثناء ذلك، بأنّه كائن اجتماعيّ يتطوّر إذا تطوّر متحدّثوه، وينحطّ إذا انحطوا هم أيضاً: اجتماعيّاً وحضاريّاً وتكنولوجيّاً.
و اللّغة الأدبيّة (Le lan¬gage) يتّسم نظامها، على عكس اللّسان، بالنّوعيّة من وجهة، وبقِصَر الأزمنة التي تحكم نظامَها الدّاخليّ من وجهة أخرى. فهذه اللّغة الأدبيّة المتّسمة بالخصوصيّة والتّفرّد هي التي تتيح لشخص ما، أو قل على الأصحّ لأديب ما، أن يعبّر عن هذه الخصوصيّة اللّغويّة مستعملاً طائفة من الألفاظ والتّراكيب التي تنتمي إلى النّظام اللّسانيّ العامّ. إنّ اللّغة الأدبيّة تنبع من طبيعة النّتاج الأدبيّ نفسِه الذي تجود به قريحةُ أديبٍ من الأدباء؛ فكأنّها تجسّد النّظام الذاتيّ الخالصَ الذي يؤسّسه الأديب في كتابته؛ فيتميّز بهذه الذاتيّة، أو الحميميّة التي تمتدّ إلى الدّلالة والأسلوب جميعاً، ويغتدي متميّزاً عن غيره في هذه اللّغة؛ وذلك على الرّغم من أنّه ينهل من معين اللّسان العامّ الذي ينهل منه أدباء آخرون أيضاً»)2(.
وقد عرض المؤلف منظور صمويل بكيت (Samuel Bec¬kett)الذي يرى في تأسيس علاقة اللّغة بالإنسان، أنّ هذا «الإنسان هو الكائن الذي يتحدّث ويعتقد أنّه يمارس سلطانه على الأشياء لدى تسميتها. على حين هو لا يفعل، في الحقيقة، شيئاً غير تدمير نفسه وتدمير العالم في الوقت ذاته. إنّ الألفاظ التي يلفِظها هي بمثابة سيلان دمه، وذهاب حياته».
في الفصل السابع من الكتاب الذي خُصص للحديث عن«النقد البنيوي والتمرد على القيم»توقف الدكتور عبد الملك مرتاض مع الكثير من الأفكار و الرؤى التي قُدمت من قبل متزعمي النقد البنيوي،ووصف البنوية بأنها مدرسة فكريّة تقوم على «مجموعة من النّظريّات التي تُؤْثِر، في العلوم الاِجتماعيّة والإنسانيّة، وفي دراسةَ البِنْياتِ وتحليلَها». ولقد عظم شأنها في الأعوام السّتّين من القرن العشرين. ولعلّ أكبر الأعمال البِنَويّة في المجال النّقدي هي تلك التي كتبها رولان بارث وميشال فوكو. وتعدّ البِنَويّة قطيعة مع التّقاليد الموروثة عن الفيلسوف الألمانيّ كانْط. وأهمّ ما تقوم عليه البِنَويّة من الأسس الكبرى لفلسفتها أنّها تتعامل مع اللّغة والخطاب وترفض الإنسان،وقد أوضح المؤلف منظور الباحث الأنثروبولوجيّ كلود ليفي-سطروس (Claude Lévi-Strauss) الذي يذهب إلى أنّ «البِنَويّة في اجتهادها تشكّل درجاتٍ من العلوم الدّقيقة لتطبيقها على علوم الإنسان». في حينِ يزعم مؤرّخو البِنَويّة أنّ هذه المدرسة الثوريّة لم تأتِ من عدم؛ وإنّما كان لها خلفيّات كبرى: فلسفيّة وتاريخيّة؛ «فليست البِنَويّة تمثلاً جديداً للإنسان (...). وإنّها تُؤْثِرُ الأنظمة المغلقة على التّوقّع الذي رفضته في العلوم الإنسانيّة. كما أنّ البِنَويّة ليست بصدد تقديم تعليمات للمجتمع المصنَّع؛ بل هي تقدّم تقويماً للفكر المتوحّش؛ إنّها الضّمير السّيّئ، بالمفهوم الرّوسويّ (نسبةً إلى روسو [ Jean-Jacques Rousseau, 1712-1778]) للإنسان في المجتمعات المتطوّرة. وإنّها لا تسعى إلى تعويض التّاريخ بالأبديّة، ولا التّغيير بالكائن».
جاء الفصل الأخير من الكتاب تحت عنوان:«في نقد النقد»،وقد قدم المؤلف في مستهله مجموعة من التعريفات المتعلقة بمصطلح«نقد النقد»الذي يُفهم في لغتنا العربية على أنه النقد الثاني الذي يتصل وارداً بمعنى النّقد الثاني الذي يكتب عن الأوّل،وقد توقف المؤلف في هذا الفصل مع تجربة نقد النقد لدى الجرجاني،وتطرق إلى تجربة نقد النقد لدى طه حسين،ورأى في معالجته لتجربة عميد الأدب العربي أن الذي يعود إلى كتابات طه حسين النقدية يلفيها تتراوح بين النقد ونقد النقد،وقدم رؤيته لنقد النقد عند طه حسين معتمداً على مقالته الموسومة ب«يونانيّ فلا يُقرأ».
ولم يُغفل الدكتور عبد الملك مرتاض الحديث عن ممارسة«نقد النقد»لدى النقاد الغربيين المعاصرين،فتحدث عن رولان بارث الذي مارس أنشطةً نقديّة كثيرة بالإضافة إلى مجالات النّقد التّقليديّة كالتّعليق على نصوص أدبيّة وتحليلها، وكالتّنظير لبعض القضايا النّقديّة التي لا تتعلّق بالتّعليقات على النّقد مثل «لا مدرسة لروب قريي»،و «الأدب واللّغة الواصفة...»، إذ يمكن أن ينضويَ بعضُها تحت مفهوم «نقد النّقد» وذلك على الرّغم من أنّ بارث لم يتكلّف إطلاقَ مصطلح «نقد النّقد» على ما كتب أصلاً. ويمثُل ذلك في جملة من المقالات التي اشتمل عليها كتابُه «مقالات نقديّة»؛ ولاسيّما مقالتَاهُ: «النّقدان الاِثنان»،و «ما النّقد».
كما سلط المؤلف الضوء على تجربة تزفيتان طودوروف الذي يعد من أوائل الذين روجوا لمصطلح «نقد النّقد» صراحة، ومنحه الإطار المنهجيّ، ورسّخ له الأسس المعرفيّة؛ وذلك في كتابه: «نقد النّقد» الذي تُرجم إلى العربيّة ببيروت، ولقد تناول فيه قضايا نقديّة عالميّة من خلال نقّاد متميزين.
وينتهي الدكتور عبد الملك مرتاض في ختام هذا الفصل إلى أن « نقد النّقد شكل معرفيّ مكمّل للنّقد، ومهدّئٌ من طَوره، وضابط لمساراته؛ فكما أنّه كان للمبدعين من السّاردين والشّعراء نقّاد ينقدونهم؛ فقد كان يجب أن يوجد نقّادٌ كبارٌ ينقدون أولئك الذين ينقدون. وأنّ نقد النّقد ليس بالضّرورة أن يكون اختلافاً مع المنقودين؛ ولكن من الأمثل له أن يكون إضاءة لأفكارهم، وتأثيلاً لمصادر معرفتهم، وتجذيراً لأصول نزعاتهم النّقديّة. فهو إذن تأصيل وتثمين، أكثر ممّا يجب أن يكون تقريظاً مفرطاً، أو نعْياً قاسياً. ونحن نعتقد أنّ وظيفة نقد النّقد لا تقلّ أهمّيّةً عن وظيفة النّقد نفسها؛ من أجل كلّ ذلك نرى أنّ نقد النّقد سيزدهر ويتطوّر حتماً نحو الأفضل، ما ظلّ النّقدُ الأدبيّ نفسُه يتطوّر، هو أيضاً، نحو الأفضل. كما أنّنا نعتقد أنّ التّصنيف بين النّاقد، وناقد النّاقد لا ينبغي له أن ينزلق نحو المفاضلة السّاذجة؛ فيقع الاعتقاد بأنّ ناقد النّاقد (أو نقد النّقد) سيكون بالضرورة أرقى وأفضل من النّقد في مجال المعرفة؛ فالشّأن هنا لا ينصرف إلى تحديد المكانة والأفضليّة، ولكن إلى تحديد الماهية والوظيفة»)3(.
وبقي أن نقول في الختام إن الجهود التي بذلها أستاذنا العلاّمة الدكتور عبد الملك مرتاض في تأليفه لهذا الكتاب جديرة بالاحترام والتقدير،فقد تضمن الكتاب مجموعة من الرؤى والأفكار والتحاليل العميقة التي تتصل بالمدارس النقدية ونظرياتها،وقد اعتمد على مجموعة كبيرة من المصادر والمراجع الثمينة،وقدم من خلاله جهداً كبيراً أسلوباً ولغة ومعرفة،فهو يشتمل على مسح شامل للمدارس النقدية المعاصرة،ويركز بشكل دقيق وعميق على تحليل توجهات نظرياتها،ويمكن أن نصف هذا الكتاب بأنه تحفة نظرية وعملية وموسوعة شاملة رصدت أهم المدارس النقدية،وناقشت نظرياتها،ولا يمكن أن يستغني عنه كل مهتم بنظرية النقد.
الهوامش:
(1)د.عبد الملك مرتاض:في نظرية النقد،منشورات دار هومة للطباعة والنشر والتوزيع،الجزائر،2012م،ص:08.
(2) د.عبد الملك مرتاض:في نظرية النقد،ص:170 وما بعدها.
(3)د.عبد الملك مرتاض:المرجع نفسه ،ص:254.
والمتابع لمنجزات وجهود العلاّمة الدكتور عبد الملك مرتاض في المرحلة الأخيرة،يُلاحظ أنه يسعى إلى التنظير لمجموعة من القضايا الأدبية والفكرية،فهو يكشف عبر كتاباته المتنوعة عن رغبته الدائمة في التنظير إلى الكثير من القضايا الأدبية والمعرفية التي شغلت اهتمامه،حيث أصدر مؤخراً مجموعة من الأبحاث والمؤلفات التي قدم من خلالها مجموعة من الرؤى والأفكار الجادة والعميقة،نذكر من بينها:«في نظرية الرواية»، ،و«نظرية القراءة»،و«نظرية النص الأدبي»،و«قضايا الشعريات»،و«نظرية البلاغة»،و« الكتابة من موقع العدم»،و «قراءة النّص: بين محدوديّة الاِستعمال ولا نهائيّة التأويل».
ويندرج كتابه الموسوم ب:«في نظريّة النّقد»في هذا الإطار،فقد قدم من خلاله متابعة شاملة لأهم المدارس النقدية المعاصرة،وتوقف مع نظرياتها بالتحليل والنقاش والمساءلة العلمية الجادة.
قسم الدكتور عبد الملك مرتاض كتابه إلى ثمانية فصول،بعد مقدمة مطولة ناقش فيها جملة من المفاهيم التي تتصل بالقراءة والكتابة والنقد،ورسم من خلالها صورة واضحة لمجموعة من الإشكاليات المعرفية الشائكة،حيث ذكر أن الكتابة واجب،وإن كانت حرية كما يقول رولان بارث فهي أيضاً واجب محتوم على الكاتب أن يؤديه للمجتمع ولا يستطيع الإفلات من فعله،إذ لا يسعه إلا أن يكتب،وأن يقول شيئاً،حيث يقول في هذا الصدد:« السّعْيُ في الكتابة كلُّه قائمٌ على وهْم حقيقيّ. أو قل على حقيقة وهميّة. أو قل: على لا شيءَ إطلاقاً، فأن نكتب، كأنّنا نهدِم. نقوّض ما كان مبنيّاً. فإنْ حافظنا على المبنيّ لم نستطع الكتابة. فالكتابة هدْمٌ للكتابة السّابقة. تقويضٌ لها. إقامةُ بنيانٍ وهْميّ على أنقاضها. ولذلك فالذين يَسْتَعِفُّون عن التّقويض ويأْبَوْنَه إباءً، سيعجزون في الغالب عن أن يكتبوا شيئاً البتّةَ، أو شيئاً ذا بال على الأقلّ، فكأنّ اللّغة قتْلٌ للقِيَم، في رأي بعض المفكّرين الغربيّين. أو هي قتْلٌ، على الأقلّ، لما نراه منعدمَ القيمة، في عصرنا. وهي قتْل للمؤلِّفين السّابقين، ولو أنّهم أمواتٍ، أو أحياءٌ، معاً. لأنّ الإبقاء على حياة أولئك الذين كانت الكتابة قتلتْهم لا يُفضي إلاّ إلى قتْل الذي يريد أن يكتب هو نفسه، فلا يكتب شيئاً»)1(.
وقد أشار الدكتور مرتاض إلى منظور جان بول سارتر الذي قدمه في كتابه:«ما الأدب؟»،ورأى أنه على الرّغم من الأسئلة الكثيرة التي طرحها عن الكتابة، أو عليها، قُبَيل منتصف القرن العشرين، واجتهد في أن يجيب عن بعضها في كتابه «ما الأدب؟»؛ إلاّ أنّه لم يُجِب عنها، في الحقيقة، إلاّ بطريقته الخاصّة، وإلاّ حسَب مذهبه الوجوديّ في التّفكير، ووفق رؤيته إلى الحياة؛ ممّا قد يجعل من حقّ كلّ كاتب مفكّر أن يثير الأسئلة الخالصة له؛ ثم يجتهد في الإجابة عنها بطريقته الخاصّة.
انصب الفصل الأول من الكتاب،والمعنون ب« النّقد والنّقّاد: الماهيّة والمفهوم» على رصد مفاهيم ومدلولات النقد في الثقافتين العربية والغربية،ففي الثقافة الغربية كان مفهوم النقد يقترب من مفهوم نظرية الأدب وربما كان مفهومُ النّقد يلتبس بمفهوم نظريّة الأدب حيث كانوا يَصرِفونه، في وظيفته، إلى تعريف الشّعر، ووصْف الأدب،ويذكر الدكتور عبد الملك مرتاض أن لفظ النّقد في الغرب نشأ زُهاءَ عام ثمانين وخمسِمائةٍ وألْفٍ للميلاد. ويبدو أنّ أوّل من اصطنع مصطلح «النّاقد» (Le Criti¬que) هناك، في صيغة المذكّر، صارفاً إيّاه بذلك إلى من يمارس ثقافة النّقد، أو «النقد» (La critique)، في صيغة المؤنّث، كان سكالينيي (Scaligner). وقد كان يصرف معناه إلى نحو ما يعني في التّأْثيل الإغريقيّ «فنّ الحُكْم»،وانطلاقاً من هذا المفهوم التّأثيليّ، فإنّ النّقد قام على وظيفة تُشبه الوظيفة القضائيّة لدى القاضي بحيث لا مناصَ لصاحبه من إصدار الأحكام، ومحاولة التّدقيق في الأوصاف لدى إصدار هذه الأحكام، وقد تطور النقد الأدبي مع تطور الثقافة النقدية في الغرب ،ولاسيما مع ظهور نظريّات الشّكلانيّة الرّوسيّة إبّان الحرب العالميّة الأولى (التي تولّد عنها في فرنسا ما يمكن أن نطلق عليه «الشّكلانيّة الجديدة» بعد منتصف القرن العشرين)، حيث أشاروا إلى مفاهيم أدبية الأدب لأنّ موضوعه هو دراسة الأدب؛ واغتدى أدبيّاً أيضاً لأنّ خطابه في حدّ ذاته جزءٌ من الأدب»،وقد تأثر الكثير من النقاد الفرنسيين بهذا المذهب.
افتتح الدكتور عبد الملك مرتاض الفصل الثاني من الكتاب الذي عنونه ب «النّقد: والماهيّة المستحيلة» بالتساؤل ما النقد؟ وقد أثار في هذا الفصل جملة من القضايا الفكرية المتميزة التي ترتبط بفلسفة النقد،وتوقف في إجابته على هذا السؤال مع الفرق بين النقد النظري والنقد التطبيقي،فذكر في إجابته أن النّقد النّظريّ ضروريّ لازدهار الحقل المعرفيّ لهذا الموضوع من حيث هو ذو طبيعة تأسيسيّةٍ وتأْصيليّة معاً. ولعلّه ببعض ذلك يشبه العلوم التّأسيسيّة (Sciences fon¬damentales) بالقياس إلى العلوم التّطبيقيّة (Sciences appliquées) في تجاوُر حقليْهما من وجهة، وفي تشابُه طبيعة هذين الحقلين الاِثنين من وجهة ثانية، وفي تظاهُرهما على تطوير كلّ منهما لحقل صِنوه من وجهة أخرى. إذ لولا التّأسيسُ لما كان التّطبيق. ولو لم يكن إجراء التّطبيق في العلوم بعامّة لَمَا أفضت نظريّات العلماء المجرّدة إلاّ إلى نتائجَ محدودة. فهذه الحضارة الإنسانيّة العظيمة التي ننعَم اليوم برخائها وازدهارها ليست إلاّ ثمرة من ثمرات تضافر العلوم التّأسيسيّة مع العلوم التّطبيقيّة،فهو يبحث في أصول النّظريّات، وفي جذور المعرفيّات، وفي الخلفيّات الفلسفيّة لكلّ نظريّة وكيف نشأت وتطوّرت حتّى خبَتْ جذوتُها، ثمّ كيف ازدهرت وأفَلَتْ حتّى هان شأنها؛ ويقارِن فيما بينها، ويناقش تيّاراتها المختلفة، عبر العصور المتباعدة المتلاحقة معاً، أو عبر عصر واحد من العصور. وسواء علينا أ دُرِسَتْ مثلُ هذه المسائلِ تحت عنوان «نظريّة الأدب»، أم «نظريّة الأجناس»، أم «الأدب المقارن»، أم تحت أيّ عنوان آخر مثل «نظريّة الكتابة»: فإنّ الإطار الحقيقيَّ كأنّه يظلّ هو النّقدَ العامَّ.
في حين أنّ النّقد التّطبيقيّ إنّما يكون ثمرةً من ثمرات النّقد النّظريّ الذي يمدّه بالأصول والمعايير والإجراءات والأدوات، ويؤسّس له الأسُس المنهجيّة، ويبيّن له الخلفيّات الفلسفيّة، التي يمكن أن يتّخذ منها سبيلاً يسلُكها لدى التّأسيس لقضيّة نقديّة، أو لدى دراسة نصّ أدبيّ، أو تشريحه، أو التّعليق عليه، أو تأويله، معاً،و غاية النّقد في الحاليْن تظلّ هي السّعيَ إلى اِهتداءِ السّبيلِ إلى حقيقة النّصّ.
في الفصل الثالث من الكتاب تابع الدكتور عبد الملك مرتاض مناقشته لمختلف قضايا النقد الأدبي،وتحدث عن« النقد والخلفيات الفلسفية»،ومن أبرز الأسئلة التي طرحها في هذا الفصل: هل للفلسفة من «الكفاءة الأدبيّة» ما يرقَى بها إلى تحليل الظّاهرة الأدبيّة تحليلاً «أدبيّاً» حقيقيّاً بعيداً عن تمحّلات الفلسفة؟
وعالج في الفصل الرابع من الكتاب موضوع:«النقد الاجتماعي في ضوء النزعة الماركسية»،وتطرق إلى المبادئ الرئيسة التي بُني عليها النقد الاجتماعي،حيث يرى تين أن النقد يقوم على المؤثرات الثلاثة:العرق والزمان والبيئة،أما الماركسية فهي تقيم النقد على ضرورة ذوبان الفرد في المجتمع ،فالماركسيّةَ لا ترى أنّ حياة الكاتب في حدّ ذاتها هي التي تستطيع إفادتَنا بشيء، خلافاً لنظريّة تين (H. Taine) التي كانت تركّز على ترجمة الكاتب وعهده وبيئته، وأنّها لا يمكن أن تقدّم إلينا كلّ المعلومات الضّروريّة حول إبداعه المفقود. ذلك بأنّنا إذا أردنا أن نضع النّصّ الأدبيّ موضعَه المطلوب في المركّب الاِجتماعيّ؛ فعلينا أن نؤوّلَ منه المضمون. ونتيجة لذلك، فإنّ كُلاًّ من الوسط الاِجتماعيّ الذي ينشأ فيه الإبداع، والطّبقة التي يعبّر عنها، ليسا بالضّرورة هما المكان الذي قضى فيه الكاتب أيّام صِباه، أو طرَفاً مذكوراً من حياته، كما تحدث الدكتور عبد الملك مرتاض في هذا الفصل عن سُسْيُولوجيّة الأدب، والسُّسْيولوجيّة الأدبيّة،وقد افتتح حديثه عن هذه القضية بالإشارة إلى التساؤل الذي أطلقه جاك لييناردت، في مقالة رصينة كتبها في الموسوعة العالميّة عن: هل هناك فرْق بين سسيولوجيّة الأدب، والسّسيولوجيّة الأدبيّة، وقد قرر أنّ هناك، فعلاً، فرْقاً دقيقاً بينهما؛ ممّا يقتضي التّمييز بين هذين المفهوميْن الاِثنيْن: فسسيولوجيّة الأدب (Sociologie de la littérature) تعدّ جزءاً لا يتجزّأ من علم الاِجتماع نفسِه. وهي من أجل ذلك تجتهد في تطبيق مناهج علم الاجتماع فيما يخصّ التّوزيع، والرّواج، والجمهور (وهو موقف سيلبرمان (A. Sil¬bermann) أيضا. في حين يسعى بعض المفكّرين الآخرين مثل: (جان ديبوا J. Du¬bois) إلى تعميم تطبيق هذه المناهج على المؤسّسات الأدبيّة، وعلى المجموعات التي تحترف الكتابة مثل الكتّاب، والأساتذة، والنّقّاد؛ وبعبارة أدقّ، تطبّق هذه المناهج -وذلك في سياق الأدب- على كلّ ما ليس نصّاً أدبيّاً في ذاته،في حين تُعدّ السّسيولوجيّة الأدبيّة (Sociolo¬gie littéraire) على أنّها مناهج لعلوم الأدب؛ كالمنهج النّقدي الذي ينحو نحو النّصّ (من دلالة الصوت إلى الدّلالة العامّة للّغة)، كما ينحو نحو معنى هذا النّصّ وتأويله.
ضم الفصل الخامس من الكتاب دراسة موسعة عن:«النقد والتحليل النفسي»،وقد اشتملت دراسة الدكتور مرتاض على مجموعة من التحاليل الدقيقة والرؤى المتميزة،ومن أبرز القضايا التي ناقشها المؤلف في هذا الفصل علاقة التحليل النفسي بالنقد الجديد.
وفي الفصل السادس من الكتاب ركز المؤلف على«علاقة النقد باللغة واللسانيات»،و ناقش إشكالية الكتابة الأدبيّة بين اللّغة واللّسان،وأكد في مناقشته لهذه القضية الشائكة على أن كلّ أدب محكوم عليه بأن ينضويَ تحت لواء لغة ما. فاللّغة (من حيث هي نظامٌ صوتيّ ذو إشارات وعلامات مصطلَحٌ عليها فيما بين مجموعة من النّاس في زمان معيّن، وحيز معين) هي التي، وذلك بحكم طبيعتها الأداتيّة التّبليغيّة، تحتوي على ما يمكن أن نصطلح عليه في اللّغة العربيّة مقابلاً للمفهوم الغربيّ (Langage littéraire) «اللّغة الأدبيّة».
ويؤكد الدكتور عبد الملك مرتاض على أنه لابد من الاِستظهار بالتّاريخ الذي «يمكن أن يحدّد لنا، بدقّة ما، العَلاقاتِ القائمةَ بين اللّغة الأدبيّة، ولغة أدب ما (Langue d’une littéra¬ture)؛ أو، إن شئت، بتعبير لسانيّاتيّ تقنيّ، بين اللّغة واللّسان. واللّغة واللّسان مفهومان مختلفان منذ قريب من قرنين من الزّمان. فاللّغة الأدبيّة كأنّها المعجم الفنّيّ الذي يصطنعه كاتب من الكتّاب، أو يردّده في كتاباته كلغة الحريريّ في مقاماته فيعرف بها، وتعرف به. ومثل هذه اللّغة هي التي تحدّد طبيعة التّفرّد الذي يتفرّد بها كلّ أديب عملاق. وأمّا اللّسان فهو مجموعة القواعد النّحويّة والصّرفيّة، والألفاظ المعجميّةِ الأوّليّةِ الدّلالةِ، أو ذات الدّلالة العامّة التي يغترف منها جميع الأدباء والكتّاب. فاللّغة الأدبيّة هي الخصوصيّة التي يتفرّد بها الأديب؛ في حين أنّ اللّسان يمثّل الرّصيد، أو المخزون العامّ لكلّ الذين يستعملون لغة ذلك اللّسان. ويكون اللّسان، في مألوف العادة، أداةً للتّعبير مشتركةً ضمن محيط جغرافيّ. وقد يتميز هذا اللّسان، أثناء ذلك، بأنّه كائن اجتماعيّ يتطوّر إذا تطوّر متحدّثوه، وينحطّ إذا انحطوا هم أيضاً: اجتماعيّاً وحضاريّاً وتكنولوجيّاً.
و اللّغة الأدبيّة (Le lan¬gage) يتّسم نظامها، على عكس اللّسان، بالنّوعيّة من وجهة، وبقِصَر الأزمنة التي تحكم نظامَها الدّاخليّ من وجهة أخرى. فهذه اللّغة الأدبيّة المتّسمة بالخصوصيّة والتّفرّد هي التي تتيح لشخص ما، أو قل على الأصحّ لأديب ما، أن يعبّر عن هذه الخصوصيّة اللّغويّة مستعملاً طائفة من الألفاظ والتّراكيب التي تنتمي إلى النّظام اللّسانيّ العامّ. إنّ اللّغة الأدبيّة تنبع من طبيعة النّتاج الأدبيّ نفسِه الذي تجود به قريحةُ أديبٍ من الأدباء؛ فكأنّها تجسّد النّظام الذاتيّ الخالصَ الذي يؤسّسه الأديب في كتابته؛ فيتميّز بهذه الذاتيّة، أو الحميميّة التي تمتدّ إلى الدّلالة والأسلوب جميعاً، ويغتدي متميّزاً عن غيره في هذه اللّغة؛ وذلك على الرّغم من أنّه ينهل من معين اللّسان العامّ الذي ينهل منه أدباء آخرون أيضاً»)2(.
وقد عرض المؤلف منظور صمويل بكيت (Samuel Bec¬kett)الذي يرى في تأسيس علاقة اللّغة بالإنسان، أنّ هذا «الإنسان هو الكائن الذي يتحدّث ويعتقد أنّه يمارس سلطانه على الأشياء لدى تسميتها. على حين هو لا يفعل، في الحقيقة، شيئاً غير تدمير نفسه وتدمير العالم في الوقت ذاته. إنّ الألفاظ التي يلفِظها هي بمثابة سيلان دمه، وذهاب حياته».
في الفصل السابع من الكتاب الذي خُصص للحديث عن«النقد البنيوي والتمرد على القيم»توقف الدكتور عبد الملك مرتاض مع الكثير من الأفكار و الرؤى التي قُدمت من قبل متزعمي النقد البنيوي،ووصف البنوية بأنها مدرسة فكريّة تقوم على «مجموعة من النّظريّات التي تُؤْثِر، في العلوم الاِجتماعيّة والإنسانيّة، وفي دراسةَ البِنْياتِ وتحليلَها». ولقد عظم شأنها في الأعوام السّتّين من القرن العشرين. ولعلّ أكبر الأعمال البِنَويّة في المجال النّقدي هي تلك التي كتبها رولان بارث وميشال فوكو. وتعدّ البِنَويّة قطيعة مع التّقاليد الموروثة عن الفيلسوف الألمانيّ كانْط. وأهمّ ما تقوم عليه البِنَويّة من الأسس الكبرى لفلسفتها أنّها تتعامل مع اللّغة والخطاب وترفض الإنسان،وقد أوضح المؤلف منظور الباحث الأنثروبولوجيّ كلود ليفي-سطروس (Claude Lévi-Strauss) الذي يذهب إلى أنّ «البِنَويّة في اجتهادها تشكّل درجاتٍ من العلوم الدّقيقة لتطبيقها على علوم الإنسان». في حينِ يزعم مؤرّخو البِنَويّة أنّ هذه المدرسة الثوريّة لم تأتِ من عدم؛ وإنّما كان لها خلفيّات كبرى: فلسفيّة وتاريخيّة؛ «فليست البِنَويّة تمثلاً جديداً للإنسان (...). وإنّها تُؤْثِرُ الأنظمة المغلقة على التّوقّع الذي رفضته في العلوم الإنسانيّة. كما أنّ البِنَويّة ليست بصدد تقديم تعليمات للمجتمع المصنَّع؛ بل هي تقدّم تقويماً للفكر المتوحّش؛ إنّها الضّمير السّيّئ، بالمفهوم الرّوسويّ (نسبةً إلى روسو [ Jean-Jacques Rousseau, 1712-1778]) للإنسان في المجتمعات المتطوّرة. وإنّها لا تسعى إلى تعويض التّاريخ بالأبديّة، ولا التّغيير بالكائن».
جاء الفصل الأخير من الكتاب تحت عنوان:«في نقد النقد»،وقد قدم المؤلف في مستهله مجموعة من التعريفات المتعلقة بمصطلح«نقد النقد»الذي يُفهم في لغتنا العربية على أنه النقد الثاني الذي يتصل وارداً بمعنى النّقد الثاني الذي يكتب عن الأوّل،وقد توقف المؤلف في هذا الفصل مع تجربة نقد النقد لدى الجرجاني،وتطرق إلى تجربة نقد النقد لدى طه حسين،ورأى في معالجته لتجربة عميد الأدب العربي أن الذي يعود إلى كتابات طه حسين النقدية يلفيها تتراوح بين النقد ونقد النقد،وقدم رؤيته لنقد النقد عند طه حسين معتمداً على مقالته الموسومة ب«يونانيّ فلا يُقرأ».
ولم يُغفل الدكتور عبد الملك مرتاض الحديث عن ممارسة«نقد النقد»لدى النقاد الغربيين المعاصرين،فتحدث عن رولان بارث الذي مارس أنشطةً نقديّة كثيرة بالإضافة إلى مجالات النّقد التّقليديّة كالتّعليق على نصوص أدبيّة وتحليلها، وكالتّنظير لبعض القضايا النّقديّة التي لا تتعلّق بالتّعليقات على النّقد مثل «لا مدرسة لروب قريي»،و «الأدب واللّغة الواصفة...»، إذ يمكن أن ينضويَ بعضُها تحت مفهوم «نقد النّقد» وذلك على الرّغم من أنّ بارث لم يتكلّف إطلاقَ مصطلح «نقد النّقد» على ما كتب أصلاً. ويمثُل ذلك في جملة من المقالات التي اشتمل عليها كتابُه «مقالات نقديّة»؛ ولاسيّما مقالتَاهُ: «النّقدان الاِثنان»،و «ما النّقد».
كما سلط المؤلف الضوء على تجربة تزفيتان طودوروف الذي يعد من أوائل الذين روجوا لمصطلح «نقد النّقد» صراحة، ومنحه الإطار المنهجيّ، ورسّخ له الأسس المعرفيّة؛ وذلك في كتابه: «نقد النّقد» الذي تُرجم إلى العربيّة ببيروت، ولقد تناول فيه قضايا نقديّة عالميّة من خلال نقّاد متميزين.
وينتهي الدكتور عبد الملك مرتاض في ختام هذا الفصل إلى أن « نقد النّقد شكل معرفيّ مكمّل للنّقد، ومهدّئٌ من طَوره، وضابط لمساراته؛ فكما أنّه كان للمبدعين من السّاردين والشّعراء نقّاد ينقدونهم؛ فقد كان يجب أن يوجد نقّادٌ كبارٌ ينقدون أولئك الذين ينقدون. وأنّ نقد النّقد ليس بالضّرورة أن يكون اختلافاً مع المنقودين؛ ولكن من الأمثل له أن يكون إضاءة لأفكارهم، وتأثيلاً لمصادر معرفتهم، وتجذيراً لأصول نزعاتهم النّقديّة. فهو إذن تأصيل وتثمين، أكثر ممّا يجب أن يكون تقريظاً مفرطاً، أو نعْياً قاسياً. ونحن نعتقد أنّ وظيفة نقد النّقد لا تقلّ أهمّيّةً عن وظيفة النّقد نفسها؛ من أجل كلّ ذلك نرى أنّ نقد النّقد سيزدهر ويتطوّر حتماً نحو الأفضل، ما ظلّ النّقدُ الأدبيّ نفسُه يتطوّر، هو أيضاً، نحو الأفضل. كما أنّنا نعتقد أنّ التّصنيف بين النّاقد، وناقد النّاقد لا ينبغي له أن ينزلق نحو المفاضلة السّاذجة؛ فيقع الاعتقاد بأنّ ناقد النّاقد (أو نقد النّقد) سيكون بالضرورة أرقى وأفضل من النّقد في مجال المعرفة؛ فالشّأن هنا لا ينصرف إلى تحديد المكانة والأفضليّة، ولكن إلى تحديد الماهية والوظيفة»)3(.
وبقي أن نقول في الختام إن الجهود التي بذلها أستاذنا العلاّمة الدكتور عبد الملك مرتاض في تأليفه لهذا الكتاب جديرة بالاحترام والتقدير،فقد تضمن الكتاب مجموعة من الرؤى والأفكار والتحاليل العميقة التي تتصل بالمدارس النقدية ونظرياتها،وقد اعتمد على مجموعة كبيرة من المصادر والمراجع الثمينة،وقدم من خلاله جهداً كبيراً أسلوباً ولغة ومعرفة،فهو يشتمل على مسح شامل للمدارس النقدية المعاصرة،ويركز بشكل دقيق وعميق على تحليل توجهات نظرياتها،ويمكن أن نصف هذا الكتاب بأنه تحفة نظرية وعملية وموسوعة شاملة رصدت أهم المدارس النقدية،وناقشت نظرياتها،ولا يمكن أن يستغني عنه كل مهتم بنظرية النقد.
الهوامش:
(1)د.عبد الملك مرتاض:في نظرية النقد،منشورات دار هومة للطباعة والنشر والتوزيع،الجزائر،2012م،ص:08.
(2) د.عبد الملك مرتاض:في نظرية النقد،ص:170 وما بعدها.
(3)د.عبد الملك مرتاض:المرجع نفسه ،ص:254.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق