الحرية
المجهضة فى مسرح أحمد الأبلج
د / عمر صوفى محمد
1-
مقدمة :-
أدرك
أحمد الأبلج (1949-2014) أهمية المسرح فى تعرية الواقع المجتمعى ومقاومة الظلم
والاستبداد، وتوعية الناس بحقوقها وواجباتها السياسية، وترقية الذوق والجمال
والإحساس الفنى. وظل يكتب برؤية مهمومة بالوطن ناقدة للتحولات والتغيرات
المجتمعية، من منطلق وعى متفتح وإحساس
بالمسئولية تجاه مشاكل الوطن وقضاياه والإيمان بضرورة بناء العقل الناقد ،
واستنهاض وتحرير الهمم ضد الجمود والتزمت والجهل والتطرف، وهدم كل ما هو ردئ فى
حياتنا.
وتعد الفنون دالة علي المجتمع فهي تعكس
وتعبر عن السمات الأساسية لزمن معين ولجماعة اجتماعية معينة، علي أساس أن الأبنية
الفوقية الأيديولوجية تعتمد علي الأبنية التحتية الاقتصادية وعلاقات الإنتاج كما
يشير ماركس([1])،
ووفقا لمعطيات علم اجتماع المعرفة، فإن الفن والأدب من أهم مصادر معرفة وفهم
الحياة في مجتمع ما ([2]).
ويشير "أرنست فيشر" إلى أنه إذا
كان العلم قد مدَّ أنا الإنسان المتشوفة لاحتواء العالم، فإنه عن طريق الفن يمكن
ربط هذه الأنا بالكيان المشترك للناس وجعل فردية الإنسان اجتماعية، فالفن هو
الأداة اللازمة لانصهار الفرد بالمجموع، إذ يمثل قدرة الإنسان الفريدة علي
الالتقاء بالآخرين، وإن الفصل بين الأدب والمجتمع، يمثل نوعا من الهروب واغتراب
الأديب عن مجتمعه ([3]).
وتخدم جميع
الأعمال الأدبية أهدافا أيديولوجية ، بصورة جلية أو خفية ، ولا تخلو الأعمال
الأدبية من دلالة عقائدية ، حتى لو لم ترتبط بسلطة أو نظام ، حيث تطرح تصورا
للطبيعة الإنسانية والقيم الإنسانية والأخلاق ، وهو ما يدخل في نطاق الأيديولوجيا
.([4])
ومشكلة الحرية من أقدم المشكلات
الفلسفية وأعقدها ، فقد واجهت المبدعين والباحثين من قديم الزمان، ومازالت تؤرق
مفكرى اليوم ، حتى يعدها البعض مفتاح المشكلات الفلسفية جميعا . وهى من اكثر
المسائل الفلسفية اتصالا بالعلم والأخلاق والاجتماع والسياسة والأدب
والميتافيزيقا.
ويوحد سارتر بين الحرية والوجود الانسانى بأكمله، ويؤكد على ضرورة تجاوز
الحرية لفكرة الحتمية، خاصة بعد أن تمرد العلم ذاته على قوانينها ومال إلى النزعات
الاحتمالية([5]).
ويعد تاريخ
الفن العظيم هو تاريخ صراعه مع الاستبداد والقهر، فالفن لا يكون فنا إلا إذا تناول
الحقيقة، ولا يتناول الحقيقة إلا إذا كان حرا . فالعمل الفني لا يستطيع أن يتضمن
الواقع إلا إذا كان متحررا من كل مرجع معياري، سياسيا كان أو إيديولوجيا. ولا
تقتصر حرية الفن علي الجانب الشكلي والتجريبي، وإنما تتجاوز ذلك إلى موضوع العمل
الفني ذاته ([6])،
ويعبر "تورجنيف1818-1883" عن ذلك بقوله " لا يمكن تصور الفنان
الحقيقي بلا حرية" وتضيف "نادين جورديمر" بأنه فى مثل هذا الجو من
الحرية يصبح الالتزام والحرية المبدعة شيئا واحد([7]).ويقول "شيلر" " الحرية لا تنشأ - أول ما
تنشأ - إلا عندما يكون الإنسان كاملا،.. فمن المحتمل أن ينال العجز والانتقاص من
الحرية، بقدر ما يكون الإنسان بعيدا عن الكمال" ([8]).
2-
العوامل المؤثرة فى
مسرح الأبلج :-
كتب الأبلج عدة مسرحيات، منها : أوديب
وشفيقة، النهر يغير مجراه، السبيل، غنائم الملاعين، الجدران، عطش الزهور، جزيرة
العميان، ليه يا ناياتى، وغيرها. ويمكن إيجاز العوامل المؤثرة فى مسرحه فى ما يلى :-
-
المناخ السياسى
الاجتماعى السائد فى مصر فى الفترة التى عايشها الأبلج والتى حفلت بالمتغيرات العاصفة
، فقد ولدبالفيوم (1949)قبيل نهاية العصر الملكى ، وتفتح وعيه على تطورات ثورة 23
يوليو ، ثم عاصر تحولات السادات فى السبعينيات ، والتردى المستمر نحو القاع فى عصر
مبارك.
-
انتماؤه الناصرى
والذى ظل المرجعية الحاكمة لتوجهاته تجاه كل ما يقع فى مصر من أحداث .
-
دراسته للحقوق خاصة
وقد درسها فى سن كبيرة ، مما جعل لديه إحساسا عاليا بقيمة العدل والحرية.
-
شخصيته وطبيعته
المرهفة وتثمينه لقيمة الإنسان.
-
سفره لمده طويلة خارج
مصر، أثر سلبا على مسايرته للحركة الابداعية والتغيرات المجتمعية، وكان هو نفسهيعتبر
الغربة أكبر أعداء الإبداع.
3-
الأبلج والمسرح
السياسى :-
تتحدد ملامح المسرح السياسى من خلال دوائر
متسعة يقع فى مركزها العدالة الاجتماعية والحرية والديموقراطية . ويتخذ أشكالا عدة
مثل : المسرح التحريضى والتسجيلى
والاسقاطى ، ولا تنفصل العلاقة بين الحاكم
والمحكوم فى المسرح السياسىعن قضية العدالة الاجتماعية، فيكاد يكون الحاكم الصالح
مرادفا للحاكم العادل.
وكما يقول سعد أردش إن المسرح السياسى هو
المسرح الواعى الواضح الذى يسعى إلى خلقتأثير إيجابي محدد فى الجماهير ، بهدف
اكتسابها فى صفوف معركة طويلة نحو حياة أفضل، تسودها العدالة وتمنحها الحرية طعم
العزة والكرامة الإنسانية([9]).
ومسرح الأبلج فى مجمله أقرب إلى المسرح
السياسى. نعم إن السياسة مضفورة فى الأعمال الأدبية كافة ، لكنها فى مسرح الأبلج
السمة المميزة والفكرة المحورية التى تدور حولها أغلب أعماله
،
خاصة جانبها المتعلق بالعلاقة بين الحاكم والمحكوم. قد تبدو تلك العلاقة واضحة
جلية ، وقد تتلبس المعنى التجريدى وتتخفى وراء الرمز والإسقاط وتتمازج فيها خيوط
العبث، وتسودها نزعة انتقادية للحاكم والمحكوم، تسعى لخلخلة القيم والأنماط
المشوهة السائدة.
ويلجأ الأبلج كثيرا للتاريخ ، يستلهم منه
الحوادث، وكان يرى أن الحوادث التاريخية – اجتماعية أو سياسية - معين لا ينضب
أمامالمبدعين فى كل زمان ومكان([10]).
ورغم ذلك كثيرا أيضا ما يلجأ للزمن المطلق ، وكأن الإحالة إلى التاريخ لا تكفى .
لماذا ؟ لعلها رقابة ذاتية يفرضها الكاتب
على نفسه، إذا ما ارتبط الأمر بالسياسة ، فيلجا إلى التخفى والرمز والاسقاط، كحيلة
حمائية ضد المنع ، أو للنشر والعرض الرسمى على نطاق واسع.
وفى
مسرح الأبلج نجد أنفسنا أمام ميزان مختل للحرية ، ففى مقابل حرية غائبة للمحكومين
أو التابعين أو المريدين، نجد حرية مطلقة للحاكم أو المتبوع ، بدرجة تسير بالحرية
الذاتية للسلطة حتى نهايتها، مما يؤدى بنا فى النهاية إلى اللامعقول. ففى مسرحية
غنائم الملاعين يتمتع الشيخ زيدان بسلطة وحرية مطلقة فى توجيه اتباعه مسلوبى العقل
والإرادة ، حتى لو أراد أن يقنعهم بما يتنافى والمسلمات الدينية ، كمعرفته بميعاد
يوم القيامة واتصاله بالله.
كما يتمتع الحاكم بحرية غير محدودة تجاه
رعاياه، مهما كانت تصرفاته غير منطقية، كما فى مسرحية "النهر يغير مجراه
" ([11]).
فباسم الدين أو الوطن يُسخر المهمشون فى عبودية مطلقة، يخضعون فيها لمشيئة وإرادة
طاغية، متشبعة بالشهوة والطمع والكبرياء، مما يحول الحرية الى ارادة هدم ، وفوضى
غير مفهومة.
وهكذا نجد المواطنين فى مسرح الأبلج بين
المطرقة والسندان ، مطرقة المستبد السياسى، وسندان المستبد الدينى، بينما يتوارى
أصحاب التوجهات المتفتحة تحت وطاة قيم قاهرة يعمل الاستبداد على تكريسها، فمن
مصلحة الحاكم ورجال الدين استمرار العقلية المغيبة وتكريس قيم الاستكانة والخضوع،
وتجذير الحتمية الأخلاقية الساكنة، وخلق الأصنام وعبادتها. وإبعاد الأغلبية عن
مصادر المعرفة ، حتى لاتتحقق حريتهم الأصيلة التى قوامها المعرفة، وهو ما يتضح
بجلاء فى مسرحية " غنائم الملاعين
".
ورغم ذلك ، يلتمس الأبلج فى بعض أعماله المسرحية
الأعذار والمبررات للحاكم، ويلقى العبء على البطانة المحيطة الفاسدة المعرقلة لكل
تغيير، الداعمة لنشر الظلم والفساد فى البلاد، وما دام الحاكم غير واع لهؤلاء
الأعوان الفاسدين، فلن يسود العدل، كأن الحاكم لا يتحمل المسئولية عن وجودها
أوتعيينها ، أو يعجز عن تغييرها ، وهى محاولة تجميلية لرأس النظام تتضح جليا فى
مسرحية " السبيل "([12]).
ونادرا ما تدور أعمال الأبلج المسرحية داخل
محيط الأسرة ، لنستكشف ما يدور داخل البيت من تراتبية أو هيراركية فى الأدوار
والسلطات ، خاصة ما يلعبه رب الأسرة من دور محورى. وحتى مسرحية مثل " عطش
الزهور" تدور فى أسرة صغيرة – أم
وبنت - مفككة مهاجرة، لا تسمح برصد أليات التواصل وممارسة الحقوق والسلطة.
أ- غنائم
الملاعين :-
تدور مسرحية غنائم الملاعين فى مصر
القرن الثامن عشروبالتحديد عام 1727م ، حيث أشيع -كما يذكر الجبرتى- أن القيامة
ستقوم فى مصر بعد يومين مما خلق حالة من الهلع والذعر. ويوظف الأبلج تلك الحادثة
للكشف عن نمط العقلية السائدة فى مصر ، ومدى استبداد الجهل بعقول الناس، حتى على
مستوى الصفوة الحاكمة أو المتعلمة.
وفى غنائم الملاعين لا تتحالف السلطة السياسية مع السلطة الدينية ،
بل تتكالبان ، لكنهما يتفقا فى الغاية، وهى إخضاع الناس لمشيئتهما خضوعا كاملا،
واستنزاف طاقاتهم وثروتهم إلى أخر قطرة ، فمال الشعب غنائم للسادة، سواء اختالوا
بتاج السلطة أو تدثروا بعباءة الدين. فالشعب مجرد أداة كل دوره تحقيق إرادة
المستبدين المتعطشين إلى السلطة والثروة. استنادا إلى الجهل والتدين السطحى.
والتدين فى المسرحية هو التدين المقترن بالخرافة، اعتمادا على الإيمان
الفطرى لأغلب الناس ، خاصة وقد حرموا من التعليم، مما يجعلهم عاجزين عن ترشيح ما
يصلهم من معلومات لا صلة لها بالدين وجوهره ، يكتفون بالعموميات والشكلانية، ويخلطون
الدين بالخرافة. فهم آداة سهلة فى عملية التمويه الأيديولوجى والوعى الزائف من قبل
السادة، عبر تسويغ التمايز الطبقى، وإضفاء الشرعية على نظم مستبدة عمادها النهب
والجباية.
لقد نجح الشيخ زيدان فى بث شائعته التى تتعارض وأبسط المسلمات الدينية،
مستندا إلى عقلية الناس المغيبة وخضوعهم الأعمى لكل ما يوجه اليهم باسم الدين ،
ويعبر عن ذلك بقوله " الناس فى
المحروسة دلوقتى...عبيد كلامنا بيسمعوا منا من غير مناقشة ، مهما كان الأمر هين أو
خطير ، صغير أو كبير "([13]).
ليس فقط على مستوى العامة، بل حتى المشايخ المقربين منه ، لا تكاد تختلف عقليتهم
عن الذهنية العامة السائدة، يتقبلون رأيه
دون نقاش أو تمحيص، لأن " المجادلة مع المشايخ خروج كبير عن الطاعة لأوامره،
وفى دستورنا عصيان كبير "([14])
يستلزم طلب التوبة والغفران من مولانا الباتع الساطع تاج المعالى ونور الإيمان
،صاحب الأمر والنهى، الذى لا يملك فقط توجيه البشر ، بل حتى الجن يخضع له "
الشيخ زيدان فى أى وقت عايز الجان ..بيجولوا قوام " ([15]).
وحتى وزراء الوالى يرتعدون عند سماع شائعة القيامة ، لأن الشيخ على اتصال دائم
بالجان ، ومن ثم على إطلاع بالعلم الغيبى([16]).
و" فالح" ابن الوالى رمز ومثال بيِّن
للتخلف العقلى الواضح.
وهكذا ينتشر الخوف ويعم الرعب ، استنادا إلى تزييف الوعى الجمعى الباهت
أصلا، مما يجعل الرعية مطية جاهزة لتنفيذ إرادة المستبد ، باسم السلطة أو الدين،
حتى لو اشتط فى العبث وزعم أنه على صلة
بالذات الإلهية، قادر على التوسط لتأجيل القيامة، إذا تنازل الشيخ وقبل تولى حكم
المحروسة، وهكذا يتجلى أن السياسة أصل والدين غطاء([17])،
ويعبر زيدان عن تشوفه للسلطه فهو " عطشان
لشهدك ولخمرك..مشتاق لسيفك ولعرشك "([18]).
وحين يجرؤ البعض أن ينزع عن وجهه قناع الزيف من حاشية الوالى يكون جزاؤه
القتل ، والقاضى والجلاد هما الوالى وسيافه. فما إن اعترض قائد الشرطة – على غير
المالوف - على أوامر الوالى باستغلال شائعة القيامة لتوظيف الشرطة واللصوص فى نهب
ممتلكات الناس ، حتى يأمر السياف بقطع رأسه([19]).
وفى وسط تلك البيئة المحبطة يظهر عمران الحلوانى، ممثلا للعقلية الناقدة
المتساءلة المتشككة، حيث أدرك أن الخوف أصلح أرض للفساد ، والجهل تربة صالحة
للاستبداد، والتدين الأعمى طوق للاستعباد، خاصة أن الشعب المصرى " أسهل شعب
تدخل له من باب الدين... لكن عيبه أن تدينه بيخليه ما يتحققش من الشخص اللى
بيتعامل معاه "([20]).
ويدرك عمران أنه يمكن الوصول الى شاطئ الحرية والخلاص من وطأة الاستبداد من
خلال الكلمة، وتبصير الناس بحقوقهم المسلوبة، وحشد الجموع المطحونة وراء قضيتها، لكشف زيف الحكام. ورغم ذلك
يسعى للاستعانة بالسلطان العثمانى ضد الوالى وهو مسعى أدركت " بسمة "-
خطيبته المنتظرة - عبثيته ، فهم جميعا زمرة ناهبة واحدة.
وقد عمل عمران على مجابهة التاثير الواسع لرجال الدين والسلطة من خلال
الحشد، إلا أنه لم يتمكن من مضاهاة تأثيرهم الواسع وانسياق الناس الأعمى وراء رجال
الدين، الذين يوهمون أتباعهم بأنهم مؤمنين مجاهدين ، يحاربون باسم الله ، ونصرهم
وعد من الله([21]).
وتؤكد المسرحية على أن أسواء أنواع الاستبداد هو ما ارتدى مسوح الدين. لذلك
فرغم محاولة عمران تبصير الناس بحقوقهم ، وتفنيد زيف إدعاءات الشيخ زيدان ، فقد
اتهمه العامة بالجنون وتركوه لتزهق روحه على يد رجال الشرطة .
لقد سعى الأبلج من خلال مشاهد ولوحات
عديدة إلى رسم صورة عن الذهنية السائدة ، فيعرض فى المشهد الثانى أربع لوحات كاملة
لتحقيق ذلك، وكان يمكن الاكتفاء باللوحة الاخيرة ، لأنها موظفة فى صلب العمل
المسرحى، أو حتى يمكن أن تتغلغل تلك الصورة وتنعكس فى سلوك الشخصيات ، كما أنه لا مبرر للإحالة إلى الماضى،
فالمثيولوجيا والخرافات كامنة بل جلية فى مناحى حياتنا ، تعشش فى عقولنا وتفرخ فى
كل أساليب تفكيرنا، وبدلا من إحالة المتلقى للماضى، ندعه يجابه حاضره برؤية ناقدة
للواقع، فلماذا نهرب دائما للتاريخ ؟!
ب-
النهر يغير مجراه :-
هل يمكن أن يغير النهر مجراه للاتجاه المعاكس
ضد قوانين الطبيعة ؟! وعلى الأدق هل يمكن أن يتحول نهر الفكر من النقيض إلى
النقيض؟ ويتحول المعلم الحكيم المدافع عن حقوق الشعب وحريته إلى مستبد ، يستخدم
نفس أساليب من كان يهاجمهم، ويرتدى ثوب القاهر ، وتستبد به الرغبة فى الثأر
والتنكيل حين يحصل على بعض السلطة؟ .
هذا
هو جوهر مسرحية النهر يغير مجراه ، التى تستلهم أو تستدعى أجواء محاكمة سقراط، وإن
كان التحقيق هنا يدور فى إطار عبثى ، فلا المحقق ولا المتهم يعرفان التهمة موضع
التحقيق، و لايوجد تلاميذ للمتهم ، ولا ندرى له موقف فكرى محدد واضح يعبر عن توجهه
سوى حديثه عن نفسه أنه معلم القرية وحكيمها،
والمسرحية تدور كلها فى إطار غرفة التحقيقفى جو من اللامعقول. ولا نجد
ملامح حقيقية لتلك الحرية المجاهدة التى تخلق بالكفاح والعقل والعمل .
وتؤكد المسرحية على مدى القهر السائد فى
المجتمع ، والتسلسل الهرمى التنازلى للاستبداد، فكل فئه تمتصه وتكبته ثم ترحله
للفئة الأدنى، بشكل لم يسلم منه المتهم الذى هو حكيم القرية ومعلمها.
والسيد فى المسرحية رمز للطاغية ، الذى يمسك
بالخيوط كافة، ويحرك من حوله كالدمى، مسلوبة الفعل والإرادة " أنت تشقى نفسك
دون مبرر ، ما دام السيد قد قال ، فالقرية لاتملك أن تنقض قوله "([22]).
وينفذ الضابط نفسه التعليمات دون تساؤل، ويعذب المتهم ليعترف بتهم ، لا يعرفها
الضابط نفسه، وعندما جاءته التعليمات بأن يرتدى ملابس المتهم ، لم يعترض ولجأ
للحيلة للتخلص من ورطته، فهو لا يملك " إلا الإذعان "([23]).
وحاولت المسرحية إبراز قيمة الكلمة، فى
مواجهة سلاح السلطة، فالكلمة تظل خالدة حية تستنهض الهمم وتحرك الراكد وتسرى فى كل
مكان وزمان، ويعبر عن ذلك على لسان المتهم([24]):-
سيفك لن يقطع منى إلا الرقبة
أما كلماتى، فالسيف عليها لا يقدر
كلماتى للقرية لا زالت حية
تسكن أعماق ضمائرهم
تستنهض فيهم روح العزة
ما أكثر ما حطمت بقريتنا من أصنام
والليلة ..كل القرية ستحطم سيفك
مهما حاولت وجمعت الناس وقلت
مهما زيفت وحرفت وزايدت.
إن الكلمة هى السبيل إلى خلخلة جو الكبت
والطغيان ، وخلق متنفس للحرية، وتفعيل لدور العقل فى مواجهة طاغية يرسم وحده
الطريق، ولا يدع للناس سوى الشكوى المكتومة والأنين المكبوت، وتعبر الحكمة عن مدى
تمتع الإنسان بحريته، فالحرية تتفاوت على قدر تفاوت الحكمة نفسها، ومن ملك عقله ،
كان أقدر على امتلاك زمام نفسه ، والعمل مستقلا، و المعلم-المتهم- أداته الكلمة
وغايته الحكمة.
ولكن ماذا يحدث إذا انقلبت الآية وارتدى
المتهم زى الضابط وتقلد سلطاته، والعكس بالعكس؟. هل يظل حكيم القرية على معتقداته
ومبادئه ؟ الواقع أن هذا القدر الضئيل من السلطة حوله تحولا دراماتيكيا، فقد تقمص
سوط الجلاد وروح الاستبداد والرغبة فى الثأر والتشفى " فالصبر دواء لايشفى
جرح المظلوم "([25])،
وبدأ النهر يغير مجراه، ويستبدل ثوب السلطة، بثوب الحكمة والدفاع عن الحرية
والعدالة والفضيلة. فهل كراسى السلطة ساحرة إلى هذا الحد حتى إنها تغير طباع البشر
وتصنع من رواد التحرر مستبدين خائنين لمبادئهم ؟! . أم أن بذور العدوان ووحش
الاستبداد والرغبة فى التنكيل بالغير والطبيعة الشريرة كامنة فينا تنتظر الفرصة
لتطفو على السطح وتزيح تلك الغلالة الرقيقة التى نزخرف بها آرائنا ونردد شعارات
جوفاء عن الحرية والعدالة والإنسانية المعذبة ؟!.
لقد ارتد المتهم – المعلم والحكيم – على مبادئه. فما إن أرتدى بزة الضابط،
حتى طفحت الأنا مجلجلة متعالية ، وتوارت الغيرية وذبلت الروح الثورية، فأخذ يردد
" أنا الآن حضرة الضابط الأعظم .. حضرة الضابط الأعظم.. حضرة الضابط الأعظم
"([26]).
وظلت تلك الرغبة فى السلطة تتنازع مبادئه السابقة حتى آخر سطر من المسرحية دون
حسم.
وقد أدرك الضابط التناقض الكامن فى النفس البشرية التى يتنازعها الخير
والشر ، الرحمة والاستبداد، السلم والعدوان، فشخص حالة المتهم بدقة " لما كنت
ضعيف ..اخترت طريق الكلمات وتصورت أنك كاهن صومعة الحكمة، وفجأة من غير توقع آتتك
السلطة..فخرج المارد منك ليفترس الحكمة ويمزق أردية الرقة، واشتعلت فيك الشهوة
للثار "([27])
.
وهذا التناقض يبدو جليا فى موقف المتهم من زوجته ، ففى الوقت الذى أخلصت
فيه له وآزرته فى السجن، وكانت تفخر بأن زوجها هو معلم القرية وحكيمها، وتحثه على
الثبات والصبر وعدم الانجرار وراء الرغبة فى الثأر، وهو ما يعبر عن موقف تقدمى
للمرأة وإيمان حقيقى بقيمة الإنسان والحرية دون شعارات، نجد زوجها يعاملها
باستخفاف وإزدراء، ففى رأيه أن المرأة
" خلقت للمكيدة فقط "([28])،
والنسوة " لا عهد لهن "([29])،
ويأمر زوجته أن تكف عن تخاريفها([30]).
فعن حرية من يدافع إذن؟!
ويبدو أن الأبلج تأثر فى موقف المتهم من المرأة بأجواء محاكمة سقراط أيضا
وموقفه المستهين بالمرأة، فبينما كان –سقراط- يقضى وقته يتجول فى أثينا مستمتعا
بمجادلاته الفلسفية ويعلم بدون أجر، كانت زوجته " أكزانثيب " تدفع الثمن
لتطعم أطفالها الثلاثة، دون أثر للاعتراف بالجميل أو التقدير، حتى فى لحظة الوداع
، قبيل تجرعه السم.
إن التناقض والازدواجية الكامنة في أعماقنا ، حتى على مستوى النخب المثقفة،
يجعلان التشدق بالحرية مجرد سراب، أكذوبة ، وهم فارغ من أى مضمون ، آداة لغاية،
كأن الاستبداد قدرنا الذى لا فكاك منه.
ج- الجدران([31]):-
الجدران مسرحية قصيرة شديدة العمق والكثافة،
توغل فى الرمز والتجريد، وتحمل الكثير من الدلالات الفكرية والنفسية المنبثقة من
الواقع الراهن.
وتضم المسرحية ثلاث شخصيات، الفتى، والفتاة،
والعجوز. ويتوهم الفتيان أنهما يعيشان داخل جدران صماء – هى فى الحقيقة وهمية من
صنع عقلهما- تحاصرهما وتشل حركتهما، مما يجعلهما يبحثان دون جدوى عن مخرج. لكن صوت
العجوز يخلخل ذلك الوهم العقلى، ويكسر ذلك الحاجز النفسى، فهو يمر بجوارهما ويؤكد
بإصرار أن هذه الجدران وهمية وأنه لاتوجد قيود تحد حركتهما، كما أن دخول ثعبان من
أسفل الجدار، يمثل الآخر الخطير، يؤكد لهما أن التقوقع لن يجعلهما بمنجاة، بل
يحاول استدراجهما إلى عالم تضيع فيه ذاتيهما.
إن الجدار رمز للأمن والحماية والستر،
لكنه أيضا قد يرمز للحصار والتقوقع والتعذيب والانغلاق. فهل تلك الجدران جدران
فكرية تحاصرعقولنا نتيجة هيمنة قيم بالية وقوى متزمتة ورأى عام شديد الوطأة تجاه
التحرر الفكرى؟ أم أن هذه الجدران خلقتها الضغوط المجتمعية، فأصبح الفرد محاصرا
رغم دعاوى العولمة وسقوط الحدود
والحواجز؟
الواقع أن كل هذه الجدران تتكاثف لتكبل
حرية الفتى والفتاة، فيقيمان حول ذاتهما قوالب تحجب رؤية العالم والواقع عن
أذهانهما، ويتحولان إلى شخصيات هاربة غير سوية وغير قادرة على التكيف مع الواقع
ومواءمته. فيتخيلان الفضاء سدودا رغم اتساع المدى ، والوهم حقائق ملموسة ، ويفران
إلى أحلام اليقظة لعلها تنشلهما من الحيرة القاتلة، ويعيشان حالة من التيه العقلى،
وتختل البوصلة الفكرية التى توجه رؤيتهما. ومن ثم يقف العقل نفسه عاجزا عن إيجاد
مخرج للنجاة والتحرر من وطأة تلك الجدران.فيذكر([32]):
-
الفتاة: نحن إذن لا
ننظر فى الاتجاه الصحيح.
-
الفتى: كل الاتجاهات
أمامنا تحتمل الصواب والخطأ.
-
الفتاة : ومن يهبنا الآن
القدرة على التمييز؟
-
الفتى : العقل.
-
الفتاة : (ثائرة) العقل
العقل..أين هذا المخلوق الذى يختفى عندما نحتاج إليه ؟
كما تتجسد أزمة الأصالة والمعاصرة بوضوح
فى المسرحية ، فالفتيان يتشككان فى الماضى والحاضر، وأن ما هما فيه من حصار، قد
يكون نتيجة تهدم بيتهما القديم، كما قد يكون مبنى جديدا، فأحيانا الجديد أكثر هشاشة من القديم، وفى نفس الوقت يعجزان عن
تشييد بناء أصيل متين، فهما لايمتلكان إلا شوكا.
ومع ذلك تؤكد المسرحية أن مشكلتنا ليست إرث الماضى، فالماضى _ متمثلا فى
صندوق العجوز- غنى بحبال النجاة، كما يمكن إدراك واستيعاب مستجدات العصر، لكن
مشكلتنا الحقيقية تنبع من غياب الإرادة والقدرة على الفعل والمبادرة، لغياب الحرية
التى ترتبط ارتباطا وثيقا بالعقل والحكمة. فالمشكلة فينا ، والسجن داخلنا، نعجز عن
تجاوز جدرانه ، وننتظر المدد، أرضى أو سماوى،
لينتشلنا من هذا الظلام القاتم ، رغم أنه وكما يؤكد العجوز ينابيعنا ندية،
وحبال نجاتنا معنا.
وتحيلنا المسرحية إلى جدران أخرى متعمقة
تفصل العالم الذكورى عن العالم الأنثوى، لاغية أى احتمال لتلاقى أندروجينى،
وتكبلنا بقيم تشل حركتنا وتخلق المزيد من القيودوالعقد النفسية المتراكمة. فالفتى
يرى أنه من الطبيعى أن تركع الفتاة ليتخذها تكأة يصعد عليها لأعلى الجدار، فلا
غضاضة فى ذلك، وعندما ترفض التهميش كما رفضت نورا فى بيت الدمية لإبسن، وتطالبه أن
يركع هو، يعتبر ذلك وصمة عار ستلحق به مدى العمر لو فعل.
ورغم أن الأبلج يسعى لخلخلة الثوابت
الخاطئة المكبلة، فأنه يؤخذ فى المسرحية موقفا متحفظا تجاه الآخر، والذى ترمز له
المسرحية بالثعبان، وتطالبنا بسد أية ثغرة يمكن أن ينفذ منها، كما تصور الجيل
الحالى على أنه خاو من أى أمل أو إنجاز، وترهن أمل النجاة والتحرر بالجيل التالى
متمثلا فى سماع بكاء طفل لحظة الميلاد.
وفى النهاية يجب التأكيد على حقيقة أن مسرح أحمد الأبلج غنى بالموضوعات
والعناصر التى تحتاج إلى دراسة موسعة، مثل أنماط الشخصيات ونموها ،والحواروتدفقه ،
واللغة وتنوعها ما بين الفصحى والعامية، والصراع الدرامى وتصاعده،والنص الموازى،
وطبيعة الشخصية المصرية، والقيم السائدة فى المجتمع وغيرها.
[1]- ديفيد أنغليز : التفكير فى الفن سوسيولوجيا فى( سوسيولوجيا الفن
طرق للرؤية ) تحرير ديفيد أنغليز جون هغسون،
الكويت، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة
والفنون والآداب،
العدد 341 يوليو 2007 ص 48
[2]- محسن خضر : الثانية الأخيرة فى التعليم والعلم والثقافة وأحوال
عصرنا، القاهرة، دار العالم العربي
2009 ص 100
[3]- أرنست فيشر : ضرورة
الفن، القاهرة ،ترجمة: محمد غنيمى هلال ،الهيئة المصرية العامة للكتاب 1998ص ص 15
، 136
[4]- كريستوفر بطلر : التفسير
والتفكيك والإيديولوجية ، ترجمة نهاد مصلحة ، القاهرة، مجلة فصول ، الهيئة المصرية
العامة
للكتاب، عدد ابريل
1985 ، مرجع سابق ص 82- 83.
[5]- زكريا إبراهيم "
مشكلة الحرية، ، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، الطبعة
الثالثة2010 ص 14-16
[6]- فيصل دراج : استبداد الثقافة /ثقافة الاستبداد، القاهرة، مجلة
فصول، المجلد الحادي عشر ، العدد الثانى، صيف1993 ص22
[7]- نادين جورديمر : حرية الكاتب، فى المرجع السابق ص 238
[8]- فريد ريش شيلر : فى
التربية الجمالية للإنسان ، ترجمة: وفاء محمد،
القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب1991، ص 238
[9]- مصطفى عبد الغنى : المسرح المصرى فى الثمانينات،،
القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، الطبعة الثالثة1995 ص50 -51
[10]- أحمد الأبلج : غنائم
الملاعين،، القاهرة، الهيئة العامة لقصور الثقافة ، النشر الأقليمى، فرع
ثقافة الفيوم 2012 ص5
[11]-أحمد الأبلج : النهر يغير مجراه ، القاهرة، الهيئة العامة لقصور الثقافة ، النشر الأقليمى، فرع
ثقافة الفيوم 2003
[12]- أحمد الأبلج : السبيل،،
القاهرة، الهيئة العامة لقصور
الثقافة ، سلسلة نصوص مسرحية العدد 125 ، 2013
[13]- أحمد الأبلج : غنائم
الملاعين،مرجع سابق ص 15
[14]- السابق 16
[15]- السابق ص ص 11، 17
[16]- السابق ص ص54،61
[17]- السابق ص100
[18]- السابق ص19
[19]- السابق ص59-61
[20]- السابق ص96
[21]- السابق ص94، ص 100-101
[22]- أحمد الأبلج : النهر يغير مجراه ، مرجع سابق ص 26
[23]- السابق ص69
[24]- السابق ص45-46
[25]- السابق ص91
[26]- السابق ص73
[27]- السابق ص80
[28]- السابق ص20
[29]- السابق ص23
[30]- السابق ص85
[31]-
أحمد الأبلج: الجدران، جريدة مسرحنا ، العدد 40 ، 14/4/2008،ص15-21
[32]- المرجع السابق ، ص 16
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق