بقلم: الدكتور محمد سيف الإسلام بـوفـلاقـة
ليس من شك في أن التيارات الفكرية قد شهدت اختلافات جمة، وتباينات كبيرة منذ أن بدأت في اتخاذ مساراتها، إذ يُلفي المتأمل توجهات،ورؤى تختلف كل الاختلاف عن بعضها البعض،وهذا الاختلاف مصدره جملة من العوامل والمؤثرات،التي تحيط بكل تيار فكري، ولكل تيار من هذه التيارات مصطلحاته الخاصة به،والتي تتفق مع توجهاته، وأفكاره، وهي كذلك تتعدد،وتتنوع، ومن هنا تبرز أهمية الموضوع الذي نسعى إلى الإحاطة به في ورقتنا هذه، وذلك من خلال الوقوف مع كتاب الناقد السعودي المتميز الدكتور سلطان بن سعد القحطاني؛أستاذ الأدب والنقد بجامعة الملك سعود،والموسوم ب:«التيارات الفكرية وإشكالية المصطلح النقدي»،فهو يُقدم دراسة وافية عن قضية إشكالية المصطلح النقدي العربي، والخطاب العائم في مواجهة الثقافات العالمية الأخرى، حيث إنه يهدف من خلال هذه الدراسة القيمة إلى كشف الحجب، وتجلية الغموض عن إشكالية المصطلح النقدي المتباين بين التيارات الفكرية، وترجع هذه الإشكالية بالدرجة الأولى إلى الانتشار الواسع للتيارات العالمية بعد الحرب العالمية الأولى،فقد انتشرت تلك التيارات انتشار النار في الهشيم، وازداد عددها بشكل كبير، وبرزت الثقافة الغربية على أساس أنها ثقافة القوي«التي نشرها من خلال لغته، ومخترعاته، وبالتالي استطاع أن يُعممها على العالم،في وقت ضعُف فيه الشرق العربي الإسلامي، ولم يكن على أرضية تحقق له من القوة العلمية ما يُمكنه من التعامل مع تلك التيارات بنفس القوة ،والمنطق،أو حتى اللغة المعبرة عن حاجات المجتمعات»(1). وقبل الولوج إلى أفكار ورؤى الدكتور سلطان بن سعد القحطاني،التي حواها هذا السفر المهم، نرى أنه من المفيد أن نُلقي الضياء على بعض الكلمات المهمة التي حواها العنوان، وهي:«الإشكالية»، و«المصطلح»، و«الفكر».
تنصرف الإشكالية في سياق دلالتها اللغوية إلى القضية التي أوجبت التباساً في الفهم،ويكتنفها الغموض،فهي بحاجة إلى شرح،وتجلية ،وتوضيح، واستشكل الأمر أي التبس،أو اختلط، ولم يتضح وفقاً لما يقتضيه المطلوب، ومنه الأشكل أي صاحب اللونين المختلطين ،والشَّكْلُ الأمر الملتبس،وغير الواضح.
ويُمكن أن تُحدد ماهية المصطلح من حيث إنه إجمالٌ للكلمات والعبارات الاصطلاحية التي تُطلق على علم من العلوم،و تتصل بفرع من الفروع المعرفية، أو تنتمي إلى فن من الفنون«أو الكلمات و العبارات الخاصة بعالم معين في بسطه ،وعرضه لنظرية من النظريات الفنية، أو الأدبية، أو العلمية ،كأن تقول مُصطلحات الغزالي في التصوف كالمُريد ،والقُطب ،والإشراق»(2).
ويذهب الدكتور محمد التونجي إلى أن المصطلح«هو لفظ موضوعي اتخذه الباحثون والعلماء لتأدية معنى معين يوضح المقصود،والمصطلح من مشكلات الأمم في كل عصر، وقد ظهرت مشكلة المصطلح العربي منذ بدؤوا بتدوين علوم القرآن، وتأليف الكتب. وتمخضت المشكلة حين شرعوا بالنقل، والترجمة.فعمدوا إلى نبش العربية لاستخراج مصطلح يناسبهم. وإن عجزوا استخدموا اللفظة الإغريقية، أو الهندية... وعدُّوها مُصطلحاً يفي بالغرض»(3).
وأما الفكر فيأخذنا التأمل في دلالاته إلى جملة من المعاني الواسعة،فيمكن أن يُوصف بأنه ما يقوم به الذهن من تأمل في شتى القضايا التي تلفت الانتباه في هذا الوجود،بالإضافة إلى الهواجس التي تُساور المرء، والاستدلالات المعمقة، وردات الفعل النفسية والحركية، وجميعها يصدر عن الفكر،وهو«استعداد عقلي وذهن يقظ يُعين على توارد المعاني،والتأمل، والمحاكمة. وهو نظرة عميقة تُوصل صاحبها إلى رأي عميق يختلف عن آراء الآخرين»(4) .
إننا نتفق مع رؤية الدكتور يوسف حسن نوفل،التي قدمها عن الكتاب،إذ أنه أشار إلى أن الجدة لا تكمن في الموضوعات التي طرحها الدكتور القحطاني،بل إنها تظهر في رؤاه النافذة والعميقة،وتتجلى في« تلك النظرة البانورامية المتسعة الحدقات في إطار الإجابة عن تساؤلات علمية حرص الباحث على أن يتخذ طريقه الواضح للإجابة عنها حول المصطلح النقدي في مسيرة طويلة عريقة تبدأ منذ ظهور الإسلام حتى اليوم.
وللباحث الحق في تساؤله حول إشكالية المصطلح:أهي إشكالية معرفية أم إشكالية تراثية؟،وهل ظهرت شخصية علمية للمصطلح مع قيام الدولة العربية آنذاك،شخصية تحدد الملامح الخاصة لمصطلح عربي إسلامي يقوم-حضارياً- في حقبة معرفية أعقبت حقبة سابقة كانت متمثلة في حضارتين قديمتين عريقتين هما:حضارة الروم،وحضارة الفرس؟ يتبع ذلك أهمية تأمل موقف أبناء هذا التراث المنسوب إلى تلك الحضارتين القديمتين،موقفهم من الدين والمعتقد الجديد،وموقفهم من اللغة وما جدّ فيها من سمات،وذلك كله-بطبيعة الحال- لا ينفصل عن موقف الخطاب الديني الدائر والمحتدم في ذلك المجتمع،والمتمثل في تعدد الفرق الإسلامية من معتزلة وخوارج وشيعة باطنية.بل ما دار حول ذلك كله من أصوات:الزنادقة،والحشاشين، والمارقين على النظام الديني،ثم ما موقف الوسطيين وسط هذا الخضم الموار؟.
والموقف العام السابق الذي استوى في البدايات من عمر الدولة الإسلامية يؤكد مقولة قديمة جديدة هي: ما أشبه الليلة بالبارحة،ومقولة: إعادة التاريخ نفسه؛لنرى أنفسنا-وجهاً لوجه-منذ بداية العصر الحديث حتى الآن نقف أمام اتجاهات متنوعة متكاثرة متداخلة حيناً، ومتنافرة حيناً، ما بين العلمانية،والفكر الفلسفي بوجوهه ومدارسه وتياراته المتعددة،وما أسفرت عنه الحداثة من تطبيقات ورؤى تجعل من الحداثة حداثات،لا حداثة واحدة، ومنذ مرحلة الانسلاخ أو الانقطاع عن الدولة العثمانية حتى الآن،نشأت،ونمت، وترعرعت، وتطورت،وتشكلت تيارات واتجاهات ومدارس،وجماعات كثيرة بعضها له توجهات عربية،وآخر قومي،وأممي،وآخر مازج بين العروبة والإسلام،أو فصل بينهما، ويساري،وناصري، ومن قبل ذلك حيرة السؤال حول مؤشر الاتجاه:أهي الجامعة الإسلامية أم الجامعة العربية؟،والمقابلة الواضحة بين التيار الغربي وتيارات: الإخوان المسلمين،وتيار العروبة القومي،والقومية العربية الرومانسية،والأهم من ذلك كله أن الفكر العربي لم يعش،وما استطاع أن يعيش بمعزل عن الرأي الآخر،والعين القارئة الأخرى،البادية في اهتمامات المستشرقين فرادى،وجماعات منظمة موجهة مدعومة،خالصة لوجه التراث حيناً،أو لوجه آخر غيره أحياناً،أو للاثنين معاً،وما دور البيئات العربية المتعددة في ذلك كله،وما الحل المطروح؟ وما دور اتجاه الأدب الإسلامي؟ وما موقع التغريب من ذلك كله في مجتمع صار قرية صغيرة بفعل تنامي وسائل الاتصال وتعاظمها،وتقارب المسافات وتلاحمها؟
أسئلة وعلامات استفهام كثيرة طرحت نفسها من قبل،وتصدى هذا الكتاب الصريح لمواجهتها،وتسليط الضوء على زواياها وجوانبها بشكل علمي دقيق»(5)،حيث ينطلق في دراسته من رؤية نقدية بُنيت على منهجين متوازيين هما: المنهج التاريخي الذي يتوجب على الباحث أن يعتمده،بصفته حتمية لدراسة وتتبع المراحل التي مر بها الفكر،والتأمل في تطوراته،والتغيرات التي لحقت به عبر مختلف الأحقاب، والمنهج التحليلي المقارن الذي يحتاج إليه الدارس، ولاسيما عند معالجة القضايا الشائكة التي تحتاج إلى تبسيط وتوضيح،فيلجأ الباحث إلى المناقشة،والتحليل لما ألفاه من قضايا في دروب بحثه،وفي هذا الجانب أشار المؤلف إلى أن المنهج التاريخي مكنه«من تتبع إشكالية المصطلح تاريخياً،والتحليلي قام على الأول من حيث الزمان، كظرف يبرر ظهور التيار،أو يشجع على ظهوره(سياسياً واجتماعياً)إضافة إلى خلق مصطلح جديد أو ترجمة مصطلح أجنبي يتفق حيناً ويختلف في أحيان كثيرة مع واقع العالم العربي الإسلامي،فالمصطلح النقدي الفني يدل على واقع قد لا يكون موجوداً بالفعل في الثقافة المنقول إليها. وبما أن العالم العربي جزء لا يتجزأ من المنظومة العالمية،فقد كان لزاماً عليه وعلى أبنائه المثقفين التعامل مع المصطلحات العالمية بحذر ووعي لدلالة المصطلح في ثقافته الأصلية والثقافة المنقول إليها،ومن جانب آخر التعامل مع النص،بصرف النظر عن مؤلفه،أو صاحب النظرية نفسها،وهذا ما فعله الغرب لنمو ثقافته،حيث اختار لها كل ما يراه صالحاً،من العلوم والفنون والآداب، وجعل منها مرجعية ثقافية بنى عليها أسس ثقافة جديدة،مرجعيتها الأصلية ثقافة محلية تحولت فيما بعد إلى ثقافة عالمية،بجهود أبناء الثقافة نفسها، وبالرغم من تعدد اللغات والثقافات،إلا أنها لم تُحدث شقاقاً و لا عداوة شخصية، أو خلق مصطلح لألفاظ في غير مكانها .لذلك جاء المصطلح واضحاً يدل على مفهوم ثقافي وعلمي من الثقافة نفسها»(6).
الـمصطلح في الثقافة العربية:
من خلال الفصل الأول من الكتاب نُلفي عرضاً وافياً عن إشكالية المصطلح الثقافي عند العرب،إذ أن الدكتور سلطان القحطاني يرى أن المصطلح كان يُشكل غموضاً في وقت ظهور الإسلام، وذلك من حيث المكابرة العلنية،والتمسك بالقديم،ومراعاة المصالح من جانب آخر، ومن زاوية أخرى بسبب سوء فهم المصطلح من قبل أغلب الدارسين للثقافة العربية الإسلامية.
ولقد ارتكزت المنهجية العربية على مبدأ الاصطلاح على كل شيء منذ العصر الجاهلي،وذلك بغرض تحقيق الاستقامة في مختلف الأحوال العامة منها والخاصة،حيث إنهم نقلوا بعض الأشياء بأسمائها كما هي في اللغات الأخرى،ومع مرور الزمن تعربت وشاعت في لغتنا العربية،حتى أضحت جزءاً منها،إذ أننا نجد في القرآن الكريم جملة من الألفاظ الفارسية،والهندية،والمصرية، وقد عرج المؤلف في هذا الفصل على التراث الحضاري العربي منذ العصر الجاهلي،وتطرق إلى بعض التحولات التي طرأت عليه إلى غاية العصر الأموي، وقد بينت النصوص الكثيرة المبثوثة في الأسفار القديمة مدى ما بلغه العرب من رُقي وتقدم فكري،فنحتوا له ما يلائمهم من المصطلحات في مجالات حياتهم التجارية،والمعيشية،والأمنية، وعلى مدى هذه الفترة ظهرت مصطلحات جديدة،وبرزت على الساحة ولم تكن تظهر من قبل، وعن أصلها يشير المؤلف إلى أن بعضها« مستمد من الثقافة العربية الموروثة،والآخر جديد، وفي كل من الحالتين امتزج التراث بالمعاصرة وولد مصطلح جديد في الثقافة العربية الإسلامية،وتفرع منه عدد من المصطلحات، حسب الحاجة وما يعبر عن حاجات المجتمع من ناحية، ومتمسك بالمرجعية الفكرية-الدينية واللغوية- من ناحية أخرى. وعُرف بمصطلح الثقافة العربية الإسلامية. وقد قابل هذا المصطلح إشكاليات مع المصطلحات القديمة عند الأمم التي دخلت الإسلام،ولعل أول إشكالية حدثت في المصطلح الفكري،قبل النقدي كانت مفردة(العروبة)التي سادت في العصر الأموي،فالدولة الأموية كانت تعتز بالعنصر العربي عن غيره من العناصر الأخرى،وذلك ما عبر عنه الجاحظ بقوله(عربية أعرابية)،ومن المؤكد أن هذه الإشكالية قد ساعدت أعداء هذه الدولة من العباسيين على التربص بالأمويين،ثم التنكيل بهم على أيدي القادة الجبارين من العنصر الفارسي،بحجة تحويل المصطلح إلى(إسلامي) بدلاً من العربي، وبحجة أن الدين للعالم كله،وليس للعرب»(7).
التيارات المضادة للتيار الغربي:
لا ريب في أن سعي التيارات الغربية للتخييم على الوجود العربي، وتحويل فكرنا العربي إلى فكر ينسجم مع مخططاتها ،نجم عنه ظهور عدد من التيارات التي سعت إلى مواجهة تلك التوجهات الغربية،فقام الإنسان«بمراجعة نفسه للخروج من هذه الدوائر المغلقة،يبحث عن سبيل يتخذه مخرجاً من هيمنة التيارات الغربية من ناحية،ويسعى إلى تكوين شخصية مستقلة من ناحية أخرى،فظهر تيار العروبة الأول على يد ساطع الحصري،مقلداً لتيار القومية الغربية الذي نشط في هذه الآونة، وتصادم مع التيار الإسلامي، ومن ثم جرت المحاولات لإيجاد البدائل الفكرية،عن طريق تيارات جديدة لها طابع المحلية،لتكون رد فعل على التيارات الغربية المتزايدة في المنطقة»(8)،وبناء على هذا برزت مجموعة من التيارات،كشف الدكتور سلطان سعد القحطاني الحجب عن توجهاتها وأفكارها في الفصل الأخير من الكتاب،فقسمها إلى خمسة تيارات رئيسة.
فذلكة:
إن دراسة الدكتور سلطان سعد القحطاني تميزت بخصال عدة نكاد نفتقدها في الكثير من الدراسات التي نُلفيها على الساحة،إذ أنها اتسمت بالإحاطة الشاملة بموضوعها، والطرح العميق، وسعة الإطلاع، والبحث الدؤوب.
فقد حاول من خلالها المؤلف أن يستخلص المعالم البارزة لمختلف التيارات الفكرية، ويربطها مع بعضها البعض،كما أنه تعرض في تسلسل فكري، وبراعة فائقة لمختلف الأفكار التي خاضت في رؤى هذه التيارات، وأحاطت بمصطلحاتها الفكرية، وقد دعم المؤلف عروضه، وطروحاته بالنقاش والتحليل، والمُساءلة عن كيفية تقبل المجتمعات لهذا المصطلح أو ذاك،عندما يتصادم مع المصطلح الذي تعود إليه.
لقد بلغت دراسة الدكتور سلطان سعد القحطاني من الجودة مستوى رفيعاً،إذ بذل المؤلف جهوداً كبيرة من أجل أن تكون جادة وأصيلة،إذ أنه كشف الحجب عن كثير من القضايا الهامة التي كان الدارسون في حاجة إلى معرفتها،وانتظروا ملياً من يُسلط الأضواء عليها.
ولا يملك المتأمل بين دفتي هذا السفر إلا أن يثني على جهود الدكتور سلطان بن سعد القحطاني في سبيل النهوض بهذا البحث المتميز،على مدى ثلاث سنوات.
الهوامش:
(1)د.سلطان سعد القحطاني:التيارات الفكرية وإشكالية المصطلح النقدي،إصدارات نادي الطائف الأدبي، المملكة العربية السعودية،ط:01، 1426هـ/2005م،ص:11.
(2) مجدي وهبة وكامل المهندس:معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب،مكتبة لبنان،بيروت،ط:02، 1998م،ص:368.
(3) د.محمد التونجي:المعجم المفصل في الأدب،دار الكتب العلمية،ج:02،ط:01، 1993م، بيروت، لبنان،ص:797.
(4) د.محمد التونجي:المعجم المفصل في الأدب،ج:02 ،ص:690.
(5)د.يوسف حسن نوفل: التيارات الفكرية وإشكالية المصطلح النقدي،مجلة الفيصل،الرياض،المملكة العربية السعودية، العدد:355،محرم 1427هـ/فبراير2006م،ص:142 وما بعدها.
(6)د.سلطان سعد القحطاني:التيارات الفكرية وإشكالية المصطلح النقدي،ص:10.
(7)المرجع ن
(13) نفسه،ص:129 وما بعدها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق