عبدالقادر صيد
من نافذة زنزانتي البعيدة المبنية على أعلى قمة
في المنطقة وللعام العاشر على التوالي تصلني أنغام ندية ، كأنني معها على موعد ،
فبعد العشاء مباشرة يبدأ صوت الناي في استئذان سمعي بخجل ، تترنح ذبذباته خفيفة
تدغدغ الآذان ، ثم تبدأ في الاستحواذ على كل وجداني ، لم يتخلف ولا يوما واحدا ،
كنت أحس به حينما يكون فرحا ، و عندما يكون حزينا ، أسافر معه على بساط الريح إلى
عوالم بعيدة تخرجني من زنزانتي ، و كان بعدها يرتجل أغاني حزينة تصف حالتي قبل
حالته.
و حين جاء يوم الإفراج عليّ ، أردت أن أجمع
تلك الألحان و أحملها معي ،لكنني خرجت في النهار،فتشت في زوايا الزنزانة ،فلم أعثر
على شيء ، فعزمت أن أبحث عن صاحب الصوت ، خرجت من السجن ، فلم أجد من ينتظرني عكس ما
كنت أتوقع ، و كما هو الحال في الأفلام، ، أعتقد أنهم لا يريدون أن يشوهوا سمعتهم
بخريج سجون مثلي ، دون أن يهمهم سبب إدانتي ،نزلت ذلك المرتفع ، تطلب الأمر نصف
يوم كامل، فقد استغنيت عن الحافلة التي توفرها إدارة السجن لأنني أعتقد أنها سجن
متحرك ، ثم هي تزيد من عمر محكوميتي في
قلبي ساعات أخرى ، كأن جدرانه لن تشبع بعد من خربشاتي. وصلت القرية ، فبحثت عن شخص
يتقن عزف الناي ، و يغني ليلا ، فأرشدوني بأنه يعيش هناك ، فاتبعت إشارتهم فإذا
أنا أمام مبنى ضخم ، طرقت الباب ، فاستقبلني موظفون غلاظ ، طلبت منهم مقابلة صديقي
الفنان ، فردوا عليّ :
ـ هل لك معه موعد
؟
ـ للأسف ..لا..
ـ املأ هذا الطلب
، و سنرى ..
بعدما كتبت الطلب
، جاءني القبول ، فدخلت إليه وسط حراسة مشددة ، و بقي الحراس معي ، سلمت عليه ،
فلم يجبني ، ثم استدار إليّ ،و قال :
ـ لماذا من بين كل
المسجونين الذين كانت تصلهم ألحاني تأتيني أنت بالذات ؟هل أنت مختلف عنهم ؟ لا
أعتقد بالاختلاف في هذا العصر ..
ـ لست أدري، و
لكنني أتيت .
ـ كم لبثت في
السجن ؟
ـ عشر سنوات ..
ـ إذن عشر سنوات
من العزف و الغناء ..
ـ نعم ، عندما
خرجت جئت إليك مباشرة ..
ـ أجزم أنك لم تكن
تدوّن كلماتي على الجدار ..
ـ صحيح ، كنت
أخربش ذكرياتي ..
ـ هل لك أن تبقى
معي ، لتكتب ما أملي عليك على الجدران ؟
ـ و لكنها جدران
نظيفة ؟
ـ لا يهم
..فكلماتي أنظف ..
وقّعت على عقد لكي
أبقى معه ، و عندما حان وقت العشاء ، بدأ الغناء ،و بدأت الكتابة ،و مع الأيام تعودت
على الترنم بألحانه عسى أن تصل إلى النزيل الجديد ، بعد أيام و حين شرعت في ارتجال
ألحانا خاصة بي ، جاء الحراس ، و مشى برفقتهم ، فصحت فيهم :
ـ إلى أين تذهبون
به ؟
ـ حان وقت تنفيذ
حكم الإعدام عليه ..لقد لبّينا له أمنيته في استضافتك في زنزانته..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق