2017/10/01

قراءة جـمالية في ديـوان:«مراودات النهر» لـعبد الـحميد شكـيّل بقلم: الدكتور محمد سيف الإسلام بـوفـلاقـة

قراءة جـمالية في ديـوان:«مراودات النهر» لـعبد الـحميد شكـيّل
 بقلم: الدكتور محمد سيف الإسلام بـوفـلاقـة
  يعد الأديب عبد الحميد شكيّل أحد الوجوه الثقافية،والأدبية البارزة على مستوى المشهد الثقافي،والإبداعي الجزائري،تمتد تجربته مع الكتابة إلى أكثر من نصف قرن،ويتميز بالغزارة في كتابة النصوص الإبداعية،فقد أسس لنفسه مكانة داخل الإبداع الأدبي الجزائري منذ عمله الأول الموسوم ب: «قصائد متفاوتة الخطورة»،وقد صدر له-إلى حد الآن- أكثر من عشرين مؤلفاً أدبياً،يعده الناقد الدكتور عبد الملك مرتاض غير محظوظ مع الإعلام الأدبي،ويعتبر أن حبه لمدينة عنابة،وإيثاره الإقامة بها ربما يكونان قد جنيا عليه،ويضيف عبد الملك مرتاض قائلاً:«والشاعر عبد الحميد شكيّل،لمن لم يقرأ له،ليس كأي من الشعراء الإيديولوجيين الذين لا يعنيهم سوى أن يبثوا أفكارهم مباشرة،وسمجة،وثقيلة على النفس فجة،ليس فيها رسالة شعرية تشع بنور جمالها على الناس:ولكنه شاعر رقيق،يعنت قريحته أشدّ الإعنات في انتقاء الألفاظ التي ينسج بها شعره،فتصدر الكلمة عنه،وكأنها تستعمل لأول مرة في الاتصال البشريّ...،إن الشاعر عبد الحميد شكيّل يعرف كيف ينتقي لفظته الشعرية فيأبى أن يكون كحاطب بليل،كما يأتي ذلك كثير من الشعراء العرب المعاصرين،بل نلفيه يعمد إلى نسج صور شعرية مكثفة،وأنيقة... »)1(.
               ومن جهة أخرى،يرى شمس الدين العوني أن قصيدة شكيّل مقاومة بصراخها الخفي،بنبضها الصموت،حيث الكلمات الطافحة بالشجن ،وهي تروم الانعتاق إلى المعاني المتوهجة على نحو يصعب معه الفصل بين النصوص..كما تتميز لغة الشاعر شكيّل بصفائها،ووفائها لذات صاحبها،فالجملة الشعرية تأتي مشحونة بالعبارة،ولكن في غير استخفاف،وبعيداً عن تلوينات البلاغة العابرة...إنه شعر ينفذ إلى القلب،ولا نملك أمامه إلا أن نفتح القلب والروح بكثير من الحب،لأنه يعلن علينا الحلم،والحياة.
            ومن بين مؤلفاته الأدبية التي صدرت حديثاً:«مراودات النهر»،وهو ديوان يضم مجموعة من النصوص الإبداعية التي كتبها الأديب عبد الحميد شكيّل في أوقات مختلفة.
                 ولاشك في أن أول ما يستوقف القارئ لأي عمل إبداعي،هو عنوانه،لذلك نود أن نتوقف قليلاً مع دلالات العنوان الذي اختاره الأستاذ الأديب عبد الحميد شكيّل لهذه المجموعة من النصوص الإبداعية: «مراودات النهر».
      إن هذا العنوان يُحيلنا على دلالات لطيفة،ونلاحظ أنه ينقسم إلى معلمين لغويين:
-المعلم الأول: «مراودات»،فالشق الأول من العنوان هو نتيجة عملية اشتقاق لغوي أصلها هو الفعل: «راودهُ» مُراودة،ورواداً:خادعه،وراوغه،وفي التنزيل العزيز نجد:﴿وقالَ نسوةٌ في المدينة امرأةُ العزيز تُراودُ فتاها عن نفسه﴾،وراوده عن الأمر،وعليه:داراه،وعلى الأمر:طلب منه فعلهُ،كما نلفي هذا الشرح في المعجم الوسيط،و«ارتاد»لأهله:راد،والشيء:طلبهُ،كما تقترب دلالة المراودة من الفعل«أراد»الشيء:أحبه،وشاءهُ،ويُقال:أراد الجدار أن ينقض:تهيأ للسقوط.
             وفي«معجم الألفاظ والأعلام القرآنية»لمحمد إسماعيل إبراهيم،نجد الفعل«رود»أراد الشيء:مال إليه،ورغب فيه،وأراده على الأمر:حمله عليه،وراوده عن نفسه:خادعه، وطلب منه المنكر،وسنراود عنه أباه:سنجتهد في طلبه من أبيه،ورويداً:برفق ،وتؤدة،بمعنى:مهلاً.
 -المعلم الثاني: «النهر»،ينصرف النهر من حيث دلالته اللغوية إلى«نهر الماء»:سال بقوة وجرى،فنهر نهراً:تعني سال بقوة،والماء جرى في الأرض،وجعل لنفسه مجرى،و«نهِر الشيء نهراً»:كثٌر وغزر،فهو نهيرٌ،وأنهر السائل:جرى،وسال بقوة،والنهر كذلك يرتبط بالاتساع،والسعة،والضياء. 
                 وقد درج أهل اللغة،والفقه على ربط الفعل«نهر» بالقوة،والجري،كما نجد على سبيل المثال هذا الشرح في:« معجم الألفاظ والأعلام القرآنية»لمحمد إسماعيل إبراهيم: «نهر الماء:سال بقوة،وجرى في الأرض،وجعل لنفسه مجرى،والنهر مجرى الماء العذب،والجمع:أنهار،ونهر فلاناً:زجره،وأغضبه،والنهار،ضياء ما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس،وفي التنزيل:﴿إن المتقين في جنات ونهر﴾.أي في سعة،وضياء،أو في جنات ذات أنهار».
            و بالانزياح إلى الجانب الأدبي،فإننا نكتشف أن النهر قد  شكل رافداً مهماً للإبداع لدى الكثير من الشعراء،والروائيين،ولعل أبرز من درس دلالات النهر في النص الأدبي في وطننا العربي هو الناقد العراقي جاسم عاصي في كتابه: «دلالة النهر في النص»،حيث يذهب إلى أن مظاهر النهر،والبئر،والماء شكلت روافد غنية لإشباع حاجات المبدع للتعبير،وقد ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بعوالم الطفولة،وقد بين الناقد جاسم عاصي مجموعة من الخصائص المتصلة بدلالات النهر في النص الأدبي،لعل أهمها:
1-محاولات واضحة لأسطرة الواقع،وذلك بالعمل على دمج ما هو متخيل،بما هو موروث عبر منطق ميثولوجي مع ما يمثل الواقع،ثم الاستفادة مما هو دال في المعتقد في قيمة الأنهار،وقدسية الماء،وهذا الاتجاه استحضر طاقة المياه خاصة الأنهار عبر جريانها،لكي يعبر عن حالات إنسانية كبيرة خاصة في أزمات الحروب.
2-استنهاض ما ضمر،أو خبئ من أحلام الطفولة،والتشكل،وربط حركتها،ونموها بالأنهار،واعتبارها دلالات أشرت،وأرخت للشخصية،ورسمت حياتها،وشهدت انكساراتها،وانتصاراتها.
3-كان للأنهار دلالات ترمز إلى الإخصاب...
4-يشكل النهر في بعض النصوص ذاكرة تستنهض كل ما هو خفي أمام النموذج،وبعض النصوص استفادت من الأنهار من أجل عكس ما هو ساكن في الحياة،وتجسيد ما هو قبيح فيها مقابل تجدد الحياة عبر حركة مياه النهر،وجريانها،ودوام تجدد الماء...
               تأسيساً على الدلالات اللغوية التي يحملها كل شق من شقي العنوان الذي وظفه الأستاذ عبد الحميد شكيّل،يمكن اعتبار العنوان:«مراودات النهر»،عبارة عن محاورة جمالية بين المراودة،وغواية الماء الذي تدفق بكثافة من خلال النهر،مع إدراك الدلالات الكبيرة،والعميقة التي يحملها الماء،كونه المصدر الرئيس للحياة...
              إن نصوص ديوان:«مراودات النهر» تحفل بالمجاز،وبجملة من الرؤى الفكرية،والصور المتخيلة المتنوعة،وتتميز بامتلاكها كثافة دلالية ضخمة،ولذلك فهي تقبل الكثير من التأويل،فهي نصوص نابضة بطاقات تعبيرية كثيفة،وقد كتبت بلغة شعرية جميلة،وأنيقة،فالأديب عبد الحميد شكيّل يخوض غمار تجارب فنية تستهدف مجموعة من القيم الجمالية المخصوصة،ولذلك فنصوصه الإبداعية تحتاج إلى قراءة جمالية.ولاسيما أنها تعكس تعدد دروب الأديب شكيّل،وتبرز تنوع تأملاته،ونظراته،وقد استطاع الأستاذ الأديب عبد الحميد شكيّل أن يوظف جملة من العناصر الأساسية التي يستعين بها الأدباء في تشييد نصوصهم الإبداعية،وقد تجلت لنا في هذا العمل الأدبي على النحو الآتي:
 1-العنصر الفني:وقد ظهر في تنميق الأديب عبد الحميد شكيّل،لألفاظه،وتراكيبه،وأسلوبه.
 2-العنصر الخيالي:وقد وظفه الأديب عبد الحميد شكيّل في مجموعة من النصوص الإبداعية،فساهم في إثراء نصوصه بالصور،والرؤى،والمشاهد التي زادت النص عمقاً،ولعل أبرز النصوص التي ظهر لنا فيها تجسيد العنصر الخيالي بعمق،النص الموسوم ب: «رؤى متخيلة»،والذي جاء في الصفحة:81 من الديوان،ومن بين ما جاء فيه قول الأديب شكيّل:
إني أرى الموج
يميل إلى نسق القصيدة
هل أكل النص...؟
هل أعزز اليفاعة...؟
هل أسميكِ أيتها المكتسحة...؟
أم أشرد في ثبج المعنى...؟
وهو يترسم ظله،
إلى لغة المتاه
للبحر شكل الأيقونة
وهي تشرق إلى جبل الرفاه...
إني أتوسل زفرة الريح
وهي تعلو في تراشق
التشابه والمجاز...
   3-العنصر الوجداني:وقد اتضح في إبراز الأديب شكيّل لعواطفه،من خلال التأملات التي بثها في نصوصه.
 4- العنصر العقلي:وقد بدا جلياً من خلال مجموعة من النصوص التي غلبت عليها المعاني،والأفكار التي تصل في بعض الأحيان إلى حد  الغموض...  
              ولعل ما يسترعي الانتباه في كتابات الأديب عبد الحميد شكيّل هو أنه يستحضر الماء في كثير من أعماله الإبداعية،وهذا ما يُلاحظه القارئ بسهولة في نصوصه الإبداعية،وهذا ما تبدى لزمرة من الباحثين،من بينهم الناقد المعروف عبد الملك مرتاض ،الذي يؤكد على أن شكيّل مولع دائماً بذكر الماء،وينبه الأديب والباحث إدريس بوديبة إلى أن الشاعر عبد الحميد شكيّل حاول«في مسيرته الإبداعية تكريس ثقافة الماء كمنظور متحرك لا يستقر نزوله،أو صعوده في الأرض،أو في السماء،فهو الموضوعة الفاعلة في رحلة الوجود،والعدم،وكأن الشاعر هو قلقامش البطل الأسطوري في رحلته إلى غابة الأرز،حيث كان لدى كل مسافة يقطعها يحفر بئراً يغتسل منها،ثم يواصل رحلته التطهيرية المثيرة كقدر أزلي لا يحيد عنه.إن الماء،والبحر،والمطر،والغيم،والهطل،والغيث،والرذاذ..أسماء للتفاعل،ودفاعات نفسية يتعلق بها الشاعر ليعود إلى أعقابه مواجهاً نقطة البداية،حيث الخيبة،والإحباط،وسط محيط مسيج بالإرباكات،والأحلام المقموعة،والمسحوقة...».   
               إن الاقتراب من عوالم الأديب عبد الحميد شكيّل،ليس بالأمر السهل،والهين،فقراءة أي عمل من الأعمال الإبداعية تظل دائماً قراءة نسبية،فرؤية الإنسان تبقى قصيرة،وكما يقول:ك،غ،يونغ:«خبرتي ما هي إلا نقطة في بحر،ومعرفتي ليست أوسع من مجال الرؤية في مجهر،وعيني ما هي إلا مرآة تعكس زاوية صغيرة من العالم».
                 ويظل النص الإبداعي نصاً مغلقاً يحتاج إلى جملة من الأدوات الإجرائية الدقيقة التي تساهم في فتح مغاليقه،ويسعى الباحث دائماً إلى كشف النقاب عن المعنى الغائب،فيوظف كل ما من شأنه أن يصل به إلى العمق، ولا يختلف اثنان في أن تعددية النظريات،والمناهج يعني تعدد القراءات،وكل حوار بين القارئ والنص يتسم دائماً بالانفتاح،والزئبقية،وهو حوار مفتوح،وغير منجز إننا عندما نقرأ«النص الإبداعي،لا نقرأ إلا ذواتنا،نكشف عن الخبيئ فينا،وندرك عجزنا عن صياغة فكرة طالما حلمنا بإنجازها،ولما كان الإبداع يخاطب الروح،فقد كانت كل محاولة لتأسيس نظرية علمية يائسة.لسنا بهذا نقول باستئصال شأفة المناهج والمقاربات،وإنما لنؤكد أن الاعتماد الكلي والمطلق عليها لفك شفرات النص لا يعدو أن يكون اصطياداً في الماء العكر.
       النص الإبداعي ليس هو النص البراغماتي مثل الخبر الصحفي،أو النص العلمي الذي لا يخرج عن أحادية الشرح،والتفسير.النص الإبداعي يتعالى عن مثل هذا التصنيف.إنه مثل الذات البشرية في تعقيدها،وهو كالرحم الذي يحتضن جميع العلوم،والفنون،والمعارف،وهو مادة عصية عن الفهم الشمولي،والإدراك الحقيقي.من ثمة،سيظل فعل الإبداع مستعصياً عن الفهم البشري،من حيث إن معنى النص محايث بشكل أبدي في البنيات اللفظية،ومتوفر حدسياً للقراء في عصور وأماكن مختلفة،يدركون من خلالها صدى آمالهم...» )2(.
             يشتمل ديوان:«مراودات النهر»،على مجموعة من النصوص الإبداعية،هي: أوطان قصية،خطط البياض،لا أثق إلا بحواسي،كتاب النار،رؤى متخيلة،إفادات،مساقط الماء،من أوراق ابن زريق البغدادي.     
            تكشف مجموعة من نصوص ديوان:«مراودات النهر»عن جملة من النزعات الفكرية المتنوعة في رؤيتها للكون،والوجود،من بينها:نزعة اغترابية،ونزعة واقعية،وقد تجلت النزعة الاغترابية في مجموعة من النصوص،وفي استحضار الشاعر لبعض الشخصيات التاريخية،والأسطورية،والأدبية،مثل شخصية ابن زريق البغدادي،الذي قيل فيه ،هو:«أبو علي الحسن ابن زريق الكاتب الكوفي،من ساكني الكرخ(الجانب الغربي من بغداد)،كان كاتباً في ديوان الرسائل.ويبدو أن حاله رقّت فخطر له أن يذهب إلى الأندلس مُتكسباً بشعره...،ويُقال إن ابن زريق مدح ملك الأندلس،ولا سبيل إلى معرفة اسمه(بقصيدة لم تصل إلينا)فأجازه بجائزة ضئيلة.فعاد ابن زريق آسفاً إلى الخان الذي كان ينزل فيه،ونظم القصيدة العينية المشهورة التي مطلعها:
لا تعذليه فإنّ العذْل يُولعُهُ   قد قُلت حقاً،ولكن ليس يسمعه
             وقيل أيضاً:إن صاحب الأندلس كان قد أراد امتحان نفس ابن زريق بالجائزة الضئيلة،فطلب ابن زريق-بعد بضعة أيام-فوجده في الخان ميتاً،والقصيدة عند رأسه...
                وقد اهتمّ الأدباء بهذه القصيدة اهتماماً كبيراً:عارضها أحمد بن جعفر الواسطي،وأبو بكر العيدي،وخمسّها أحمد بن ناصر الباعوني،وشرحها علي بن عبد الله العلوي،وولي الدين يكن.. » )3(.
             لقد وظف الأستاذ عبد الحميد شكيّل شخصية ابن زريق البغدادي،انسجاماً مع النزعة الاغترابية التي تجلت في الديوان،كما برزت نزعة الحنين كذلك إلى  الطفولة، فالغربة، تتضح بشكل جلي في مجموعة من نصوص الديوان،والجدير بالذكر في هذا الصدد أن الغربة تنقسم إلى عدة أقسام، فهناك غربة القهر ،وغربةُ الذات،والغريب هو من كان بعيداً عن وطنه، وأهله،والمُغترب من قصد الغربة.
       وهي إما مادية،وتتجلى في البعد عن الوطن، والأهل،وإما معنوية وتظهر في الخروج عن مبادئ الناس وأعرافهم،ومنها غربة القهر،في حين أن غربة الذات تظهر في حنين الشاعر إلى ماضيه،وتغيرات الزمن، وتأثيرها عليه، وخروجه عن القبيلة،وابتعاده عن القيم الروحية التي يؤمن بها المجتمع،كما ظهر هذا الأمر مع الشعراء الصعاليك في المجتمع الجاهلي.
             والغربة من وجهة أدبية، تعد من أغراض الشاعر الوجدانية، التي يُعبر من خلالها عن أرزائه، ومحنه، وأحاسيسه المؤلمة،كما يذهب البعض إلى أن وصف الأطلال هو جزء من الغربة،وللغربة  جملة من العوامل الطبيعية،والاجتماعية،والنفسية، والاقتصادية)4(.   
           وإذا تحدثنا عن الغربة من زاوية نفسية، فهي عاطفة تتملك المرء، وتستولي عليه،ولاسيما على الفنانين، والمبدعين،حيث إنهم يعيشون في قلق، وكآبة ،نظراً لشعورهم بالبعد عن من يحبون،أو يرغبون فيه،وقد تتجلى ظاهرة الغربة،أو عاطفة الغربة في شكلين اثنين:
أ-حالة الابتعاد عن مراتع الصبا،وملاعب الفتوة،وديار الأحبة الذين يعزون على النفس،حيث يُعبر الفنان أو الأديب إزاء هذه الوضعية عن غربته، فتبرز مشاعره عبر صور، وأخيلة تتباين من حيث الجودة ،والعمق حسب توجهات الأديب، أو الفنان، وحسب اختلاف شخصيته المبتكرة.
ب- الحالة الثانية وهي في حالة شعور الفنان، أو الأديب بأن العالم كله هو سجن كبير أقحم فيه المرء مُرغماً،فتم تكبيله بقيوده،وتم غمره بشرور، وآلام، وأحزان،حيث يحس الأديب، أو الفنان، بأنه غريب بين مواطنيه وأهله،ويظل ذلك الأديب يتوق إلى عالم آخر أفضل من العالم الذي يعيش فيه،ويبقى يؤمن بوجود عالم أفضل من هذا العالم،حتى يتمكن من تحقيق رغباته الظمأى على الأرض،وقد برز هذا النوع من الغربة وشاع بشكل واضح في آثار الرومانسيين،وبلغ أوضح ملامحه في أشعار المتصوفين،من أمثال:الحلاج،وابن الفارض،وابن عربي،وكل من احتذى حذوهم  من القُدامى، والمُحدثين)5(. 
             كما تقترب الغربة من مفهوم الاغتراب،فالغربة، أو الاغتراب، يشتركان في الدلالة،من حيث إن المعنى يلتقي في«الانتقال المكاني، أو الزواج في غير الأقارب،وإذا تتبعنا اللفظ(الاغتراب)  في معاجمنا العربية سنجده لايخرج عن هذا المعنى،إذ يشير ابن منظور في لسان العرب إلى أن الاغتراب، والتغريب:النزوح عن الوطن،ورجل غريب عن وطنه، أي بعيد عنه،والجمع غرباء،والاغتراب افتعال من الغربة،وهذا المعنى نفسه جاء في عدة معاجم.
           وهكذا كان الإحساس بالظاهرة موجوداً،وإن كان في أبسط مفاهيمه،أما الاغتراب في تعريفه العام فيعني الانفصال، وعدم الانتماء،ويُعرَّف أيضاً بأنه وعي الفرد بالصراع القائم بين ذاته،والبيئة المحيطة به،والمحبطة له،وبصورة تتجسد في الشعور بعدم الانتماء، والسخط، والقلق،ولذلك يمكن القول إن الاغتراب ظاهرة إنسانية وُجدت في مختلف أنماط الحياة الاجتماعية،وفي كل الثقافات التي كان للإنسان دور كبير في بنائها،فحيث يكون الإنسان يوجد الاغتراب،وإن اختلفت درجته»)6(. 
           وترى الباحثة فاطمة طحطح  أن المعنى اللغوي ،والمعنى الاصطلاحي للاغتراب واحد، والغربة والاغتراب كلها في اللغة بمعنى واحد، وهو الذهاب والتنحي عن الناس،وعن الاغتراب في الإسلام،يستشهد الباحث فتح الله خليف بحديث الرسول-صلى الله عليه وسلم-: (بدأ الإسلام غريباً،وسيعود غريباً كما بدأ،فطوبى للغرباء)،والاغتراب في الإسلام عند هذا الباحث هو على درجات منها اغتراب بين الناس،وهو أدنى درجات الاغتراب،و أما أعلى درجات الاغتراب وأشدها وحشة ،فهو اغتراب العلماء بين المؤمنين،فالعلماء هم أشد الناس غربة،فالمعتزلة بين الناس غرباء،والخوارج كذلك،وفلاسفة المسلمين يعدهم الكثير من الدارسين غرباء،نتيجةً لما تعرضوا إليه من سجن، وتعذيب، وإحراق لكتبهم.
            وإذا تأملنا في منظور الفلاسفة الغربيين للاغتراب، نرى أن دلالاته تختلف بحسب توجهات التيارات الفكرية، ومذاهبها،فهيجل يذهب إلى أن الاغتراب كامن في صميم بنية الحياة الكلية،وماركس يرى الاغتراب في حالات اغتراب الإنسان عن عمله،وعن زملائه،ويفهمه(الاغتراب) أتباع المذهب الوجودي على أنه البعد عن الوجود العميق للإنسان،والاغتراب عن المجتمع مع الوجود داخله،هو مايقصده ابن باجة،الفيلسوف الأندلسي عندما شرح معنى(الغريب)في كتابه: (تدبير المتوحد)،وهذه الفكرة لقيت أصداءً واسعة،ونمت بشكل عميق عند المتصوفين،وهو بالنسبة إليهم ظاهرة صحية،فهم فئة من أهل الصلاح، والتقوى)7(.   
             ويُمكن القول إن الغربة أو الاغتراب، هو حالة نفسية تصور مدى انعدام السلطة والانخلاع،والانفصال عن الذات...،والأشياء، أو التذمر، والعداء، والعزلة،وانعدام وجود أغراض معينة في واقع الحياة والإحباط،و ما يُمكن ملاحظته من خلال هذه المفاهيم هو وجود حالة شعورية تقبع داخل النفس الشجية،كما أن الغربة، أو الاغتراب هو حالة مغيبة، ومخفية يلجأ إليها الشاعر حين يُريد أن يبوح لنا عن تدهور عمله الأدبي،وفقدانه لإبداعه لأسباب معينة،ومن ثمة انعدام سلطته الأدبية عموماً،وهذا ما يؤدي إلى زوال كيانه والتلاشي بعد أن كان مثالاً يُحتذى، أو أنموذجاً يُضرب)8(.  
  ولاريب في أن أسباب الاغتراب، وعوامله كثيرة ومتنوعة،ومن أهمها:
1-العاهة الخلقية: حيث إنها تساهم في اغتراب الذات المبدعة،كالعمى مثلاً.
2-العوامل الاقتصادية: إذ يعد الجانب المادي من الجوانب التي تكتسي أهمية كبيرة في حياة الأديب،والكثير من الأدباء شعروا بالاغتراب بسبب أوضاعهم الاقتصادية.
3-حياة الأديب نفسه: فقد يتعرض الأديب لحالات اجتماعية صعبة ،ومرهقة،مما يدفعه  إلى الاغتراب،ويجعله  في حالتي قلق، وخوف دائمين.
4-إهمال الشاعر من قبل المجتمع عامة: فهذا الأمر من شأنه أن يؤدي به إلى الاغتراب)9(.
         يقول الأستاذ عبد الحميد شكيّل في نص معنون ب: «ورقة الأسئلة الأولى»،تتضح من خلالها(الورقة) ذات الشاعر المؤرقة،والمغتربة،وهو يتحدث على لسان ابن زريق البغدادي:
 هل أقولُ:
لماذا تجيءُ الطواويسُ مثخنة بالغبار...؟
ولماذا تومضُ عتمات الروح...؟
وأنا أتسلقُ جبل الغواية،
مكللاً بفداحة الأيام...
ولماذا أذهبُ صوب أراضيكِ...؟
أنتِ الخارجةًُ من طنين اللغة،
وفخار العشق المعرَّش على تلة القلبِ...؟
لماذا كلما ولجتُ بابكِ
لفحتني مجامرُ الوجدِ؟
وقذفتْ بي إلى بحارٍ من شعث الهجس
الماثل في أسئلة الصوفية
وهم يكرعون خمر المعنى...
                أما الحنين فقد ظهر كذلك في جملة من النصوص الإبداعية التي يتجلى فيها حنين الشاعر العارم إلى الطفولة،وأيام الزمن الجميل،فهو يحن منذ الصفحات الأولى من الديوان،حيث إنه يدبج هذا الإهداء في مستهله : «إلى أمي وأبي،وإخواني،وأخواتي،وآل شكيّل الذين تقاسمنا-معاً-قساوة الحياة،وشظف العيش في جبال أولاد عطية،وبراريها المفتوحة على:البحر،وغابات البلوط النشم،وأزهار القندول».
           و الجدير بالذكر أن الحنين  ينصرف في معناه اللغوي إلى الفعل حنَّ حنيناً إليه:اشتاق،وتحان أي اشتاق،واستحن الشوق فلاناً أي استطربه،والحنان من يحن إلى الشيء،أي يتوق إليه.
          أما في دلالته الاصطلاحية فهو مصطلح أدبي راج بشكل كبير مع الشعراء الذين ابتعدوا عن أوطانهم،وتغربوا عليها،فاعتراهم الشوق الشديد إلى تلك الأوطان التي شاءت الظروف، والأقدار أن يبتعدوا عنها،فظلوا يتغنون بأوطانهم،ويتحدثون في كتاباتهم، وأشعارهم عن جمالها ،وهم بعيدون عنها،ولايكون شعر الحنين إلى الأوطان إذا كان المرء في وطنه،إلا إذا كان يحس بغربة نفسية وهو في الداخل،وقد تميز شعر الحنين في الوطن العربي بالرقة، والرهافة،والوجدانية، والصدق،ولاسيما مع شعراء الفتوح،والشعراء الذين أبعدوا عن الوطن رغماً عنهم،وبرز هذا التوجه بوضوح في العصر الحديث مع شعراء المهجر الذين شعروا بحنين جارف إلى أرضهم في الشام ولبنان)10(.  
            إن الحنين بمفهومه البسيط هو«حزن وذبول يغشيان عدداً من الناس في حالة ابتعادهم عن الوطن،ويُفجران في نفس الفنان، أو الشاعر إنتاجاً وجدانياً رهيفاً،كما يتجلى ذلك في شعر المهجريين،وهو توق إلى أمر،أو مثل أعلى غامض الملامح يبرز في النفس الحساسة،فيبتعث فيها ألماً لعجزها عن تحقيق أمنيتها،وينجم عن هذا الشعور اعتقاد بأن بلوغ الغاية لايتأتى إلا في مجتمع فاضل،أو في عالم آخر،وبرز هذا النوع من التوق الماورائي في كثير من آثار الفنانين،وبخاصة لدى الرومانسيين»)11(.  
              ولعل الحنين هو رحلة انتقال بالذاكرة، وبالذائقة الفنية من زمان ومكان راهنين، إلى زمان ومكان ماضيين،ويتم هذا الانتقال على عدة مستويات سواءً في المطلق، أو في التجريد،أو في المتخيل،فللمطلق سلطة على الشعر وعلى الشاعر،تؤدي بهما إلى التحول من معطى يتقادم إلى معطى لايريد الاعتراف بهذا التقادم،إذ أنهما تحادث سرمدي،ومن حيث تظهر سلطة التجريد في رفض ما يكون لصالح ما كان رفضاً غير مبرر إلا بهوى النفس،فإن لسلطة المتخيل نكهة للاستمتاع بعيش واقع كان موجوداً،إضافة إلى استهجان الاستمرار في عيش واقع موجود،وتظل سلطة التجريد والمتخيل على الشعر والشاعر أساسية،لأنها تُساهم في تحويل جدلية الزمان والمكان إلى طاقة استرجاعية يتم من خلالها التأمل.
           وبالمقارنة بين الحنين و الاغتراب،فالحنين هو فيوض في الوجدان الذاتي يُقارن ماوقع في الماضي،بما سيحدث في المستقبل،فيتبرم المقارن الذي يكون شاعراً، أو فناناً براهنية الراهن،ويُفضل عليها الماضي،في حين أن الاغتراب هو إحساس بعدم الانسجام مع الأنا الفردي، والأنا الجمعي كليهما،كما أن للحنين دافع نفسي واحد فقط ،وهو الارتباط بالسالف الرغيد من الزمان، والمكان،وعن طريقه يتم التذكر، والمقارنة مع قساوة الراهن،أما الاغتراب فله  دوافع متعددة يجمعها ذلك الارتباط بالماضي مكاناً ،وزماناً،سواء أحضر الراهن في الذاكرة أم غاب)12(.  .وعلى الرغم من بعض الفوارق البسيطة بين الاغتراب، والحنين ،إلا أن الدلالات المعنوية تظهر وكأنها متلازمة في كل شيئ، فكراً، وشعوراً، وأدباً،فالمرء عندما يحس بالغربة،ويشعر بتحوله عن المكان الأصلي،سرعان ما يبدأ حنينة الجارف إلى ديار الصبى،فالبداية تنطلق مع الغربة أو الاغتراب،ثم تنتقل إلى حنين، وشوق.
          يقول الأستاذ عبد الحميد شكيل في ورقة الماء التي تندرج ضمن أوراق ابن زريق البغدادي:
أمشي
إلى وطن الماء والسنبلة
أحتسي وجعي المعتق،كيما أفيق
النهار يناجزني في ارتكاس المنام
ويحشدني طلللاً،كي أصادم نقع الطريق
 وفي ورقة الورود،وورقة الطريق يقول متحدثاً بلسان ابن زريق البغدادي:
الورودُ،وهي تغادر سماء أكمامها:
ترى إلى البحر العميم...
 وهو يتخفف من وعثاء الزبد
ناثراً ظله على شرفات الزرقة
وهي تتغانج في احتدام المابين
الطريق إلى موعد آزف..
ترى كيف يتقد الخطو..
كيف تتداعى الحواس..
وهي ترنو إلى المسافات
شاخصة بافتتان ماجد
إلى جسد العتمة..
 وهو ينسل من مقام الغبطة...
              وتتجلى الغربة والاغتراب في مجموعة من قصائد الشاعر عبد الحميد شكيل،ويبدو الشاعر في بعض المقاطع ،وكأنه يحمل على كاهله الكثير من الهموم،والأوجاع المتصلة بأمور شتى،منها مجموعة من التجارب تجلت في مسارات روح الشاعر التي هامت عشقاً في منعرجات الحياة،وهي تتأمل فيما يجري حولها من تحولات في القيم،ومفارقات،وأوضاع اجتماعية،فالأديب عبد الحميد شكيل يؤكد لنا من خلال ديوان: «مراودات النهر»أن الإبداع ليس غواية من الشيطان،وليس ضرباً من السحر،أو مساً من الجن،بل هو عبارة عن تأملات تخيلية في الذات والكون،وهو رؤية في الأنساق الثقافية،يقول الأستاذ عبد الحميد شكيل في نص موسوم ب: «إفادات»:
هل تقول القصيدة شكلها..؟
إلى أين نمضي يا صاحبي:
-الدروب استوت..
-الخطوات التوت..
المياه التي عودتنا على تدفقها:
جفت منابعها
واختفت...
لم نعد نعرف أسماءنا
التي في كتب..
لم نعد نقرأ أوراقنا..
التي في السعب
لم يعد يبهجنا القول المردد
لم تعُد تفحمنا-ببلاغتها-
تلك الخطب
هل أنت في دمنا لحنٌ نبيلٌ
أم موج يمور في مرايا الصخب..
هل أنت الحصان الدليل،
يصهل في وعينا المجدب،
ويخب..؟
هل أنت المرايا،
إذ تخرج من صمتها مسربلة:
بالحنين...
وبالأنين..
والقول المستلب..؟
  الهوامش:
(1)  ينظر:د.عبد الملك مرتاض:معجم الشعراء الجزائريين في القرن العشرين،منشورات دار هومة للطباعة والنشر والتوزيع،الجزائر،2007م،ص:501 وما بعدها.
(2)لحسن أحمامة:قراءة النص بحث في شرط تذوق المحكي،منشورات دار الثقافة،الدار البيضاء،المغرب،ط: 01 ،1999م،ص:11.
(3)د.عمر فروخ:تاريخ الأدب العربي،ج:3،منشورات دار العلم للملايين،بيروت،لبنان،ص:91.
(4) محمد التونجي:المعجم المفصل في الأدب،ج:2،،دار الكتب العلمية،ج:01،ط:01، بيروت، لبنان،1993م،ص:669.
(5)جبور عبد النور:المعجم الأدبي، دار العلم للملايين،بيروت،لبنان،الطبعة الثانية،1984م،ص:186.
(6)  فاطمة حميد السويدي:الاغتراب في الشعر الأموي ،منشورات مكتبة مدبولي،ط:01 ،1997 م،ص:3. 
(7)  فاطمة طحطح:الغربة والحنين في الشعر الأندلسي ، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس، الرباط،المغرب،1993م،ص:33 وما بعدها.   
(8) قيس النوري:الاغتراب اصطلاحاً ومفهوماً وواقعاً ، مجلة عالم الفكر،مجلة دورية محكمة تصدر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت ،المجلد العاشر،العدد الأول،1979م،ص:13.
(9)محمد عويد محمد ساير الطربولي:المكان في الشعر الأندلسي من عصر المرابطين حتى نهاية الحكم العربي ، منشورات مكتبة الثقافة الدينية،القاهرة،مصر،2005م ،  ص:255.
(10)محمد التونجي:المعجم المفصل في الأدب،ج:1،ص:385.   
(11) جبور عبد النور:المعجم الأدبي،ص:100.
(12)يُنظرمحمد السرغيني:تقديم كتاب الغربة والحنين في الشعر الأندلسي لفاطمة طحطح،ص:7-8.     
 

ليست هناك تعليقات: