بقلم:الدكتور محمد سيف الإسلام بوفـلاقــة
تحتاج النظرية الأدبية إلى مزيد من النقاش العلمي الرصين ، والمساءلة العلمية الجادة، والعميقة ،فقد عُرفت بأنها « مجموعة من الآراء والأفكار القوية والمتسقة والعميقة والمترابطة،والمستندة إلى نظرية في المعرفة أو فلسفة محددة،والتي تهتم بالبحث في نشأة الأدب وطبيعته ووظيفته،وهي تدرس الظاهرة الأدبية بعامة من هذه الزوايا في سبيل استنباط وتأصيل مفاهيم عامة تبين حقيقة الأدب وآثاره،لذا فإن كثيراً من الآراء التي تدور حول الأدب أو جانب منه لا ترقى إلى مستوى النظرية لأنها لا تستند إلى فلسفة محددة أو تفتقد إلى القوة والاتساق،غير أن العمق والقوة والاتساق والاستناد إلى فلسفة أو نظرية في المعرفة لا يعني بحال أن أية نظرية أدبية خالية من الثغرات أو نقاط الضعف،فكل نشاط ثقافي مرتبط بمرحلته الاجتماعية والحضارية،وكل نشاط في نظرية الأدب مرتبط أيضاً بالوضع التاريخي والأدبي الذي استند إليه في استنباط آرائه وأفكاره»(ينظر:د.شكري عزيز الماضي:في نظرية الأدب،دار المنتخب العربي للدراسات والنشر والتوزيع،بيروت،لبنان،ط:01، 1414هـ/1993م،ص:12-13).ويؤكد الدكتور شكري عزيز الماضي على أن مهام نظرية الأدب تتمثل في البحث عن نشأته وطبيعته ووظيفته،أي أن اهتمامها يرتكز على مقومات الأدب كحقيقة عامة في أي زمان أو مكان وفي أية لغة كتب بها،فالبحث في نشأة الأدب يعني بيان العلاقة القائمة بين الأديب والعمل الأدبي،والبحث في طبيعة الأدب يعني بيان جوهر الأعمال الأدبية،أي خصائصها وسماتها العامة،والتركيز على وظيفة الأدب يعني بيان العلاقة بين الأدب وجمهور القراء،أي بيان أثر الأدب في المتلقين.
ومن جهة أخرى يشير الدكتور محمد التونجي في توصيفه لنظرية الأدب إلى أن كتاب أرسطو«فن الشعر» يعتبر باكورة دراسات نظرية الأدب،وهي اليوم(نظرية الأدب)من الفنون الأدبية النقدية الحديثة،تدرس أصول الأدب وفنونه ومذاهبه،وتضع القواعد المناسبة لدراسة الأدب،وتعالج المفاهيم الجمالية،وهي بذلك تتميز عن النقد في أنه يدرس النصوص دراسة فنية،ويُصدر عليها الأحكام،بينما نظرية الأدب تقنن الأسس النظرية لدراسة الأدب.
ويذهب الدكتور محمد العمري إلى أن نظرية الأدب تدخل في إطار« تأمل الذات ومساءلة الهوية،وهذه عملية تمارسها المباحث العلمية عند تحقيق قدر من النضج نتيجة تراكم وصفي وتأويلي لمختلف مظاهر تجلي الظاهرة،ومجالها البحث في طبيعة الموضوع وتخومه وآليات اشتغاله،ومن المفارقات أن هذا النضج الذي يدفع إلى تأمل هوية الظاهرة قد يؤدي كما هو الشأن بالنسبة للأدب إلى التشكيك في وجود هذه الهوية،إن لم يكن على مستوى الوظيفة فعلى الأقل على مستوى البنية المنتجة لها،وهذا ما يفسر الجنوح في العصر الحاضر إلى استعمال كلمات أخرى مثل:الخطاب والنص والكتابة لمعالجة المادة المدرجة عادة ضمن خانة الأدب»(ينظر:د.محمد العمري: نظرية الأدب في القرن العشرين،دار إفريقيا الشرق،الدر البيضاء،المغرب،ط:02، 2005م،ص:3).
وما يزال الإشكال قائماً حول إمكانية التنظير للنص الأدبي،إذ أنه يتميز بالانفتاح،والاتساع،والزئبقية،وهذا ما جعل أغلب الدارسين يؤكدون على أن النص الأدبي أكبر،وأوسع من حصره في نظرية محددة،فهو بنية مفتوحة لا يتسنى للدارس الإمساك بها، وتقييدها،فكبار النقاد المعاصرين يرون أن النص الأدبي لا يُمكن التنظير له،نظراً لعدم اقتصاره على عناصر محددة،وحتى وإن قصرناه على عناصر محددة فالتفسير،والتأويل يختلف من دارس إلى آخر،فهو ليس حكراً على العناصر اللغوية فحسب،بل يمتد إلى المستوى النحوي،والصرفي،والصوتي،والأسلوبي،والدلالي،وصولاً إلى المستوى التداولي الذي يرتكز على سياقات تلقي النص،وظروف هذا التلقي،إضافة إلى السياقات النفسية،والاجتماعية،والثقافية التي يحدث فيها التلقي...
ويمثل كتاب:«نظرية النص الأدبي» للمفكر والعلاّمة الجزائري الدكتور عبد الملك مرتاض نموذجاً للدراسات المنهجية المتميزة،والمعمقة في هذا المجال،فهو يعد من أهم الكتب التي صدرت في موضوع «نظرية النص الأدبي»،حيث إنه يُقدم لنا عبر أكثر من أربعمائة وعشرين صفحة مسحاً شاملاً للكثير من القضايا المركزية التي تتعلق بنظرية النص الأدبي،كما يتطرق إلى جملة من المفاهيم، والإشكاليات التي تتصل بالنص الأدبي، وشواغل التأسيس لنظرية له،ويسعى إلى ربطها بالتراث العربي الأصيل،ويُدافع فيه دفاعاً مُستميتاً عن جهود نقادنا العرب القُدامى،ولا نعجب من ذلك فالدكتور عبد الملك مرتاض هو صاحب مقولة:« التراث العربي الأصيل حداثة متوهجة».
ويأتي صدور هذا الكتاب في إطار سلسلة من الكتب التي أصدرها المؤلف مؤخراً ،واهتم فيها بالتنظير لجملة من القضايا الأدبية، والمعرفية التي تندرج ضمن مشروعه النقدي الذي يتسم بالثراء، والتنوع،فالدكتور عبد الملك مرتاض أحد كبار النقاد العرب المعاصرين يتميز بقراءاته العميقة والنافذة للتراث العربي،إضافة إلى متابعته وإحاطته بقضايا الحداثة والمعاصرة،فهو يجمع بين الأصالة والمعاصرة،ويعتبر جسر تواصل بين التطبيق والتنظير،وقد أغنى المكتبة العربية بمؤلفاته ودراساته المتميزة التي تربو عن سبعين مؤلفاً في شتى الحقول المعرفية والثقافية،ومن مؤلفاته التي اهتم فيها بالتنظير نذكر: «في نظرية الرواية»،و«في نظرية النقد»،و«نظرية القراءة»،و«نظرية البلاغة».
ومن أعماله الهامة التي قام فيها بالتطبيق، والتحليل نشير إلى كتاب: « شعريّة القصيدة... قصيدة القراءة، تحليل مركّب لقصيدة أشجان يمانية»،وكتاب: « تحليل الخطاب السّرديّ، تحليل سيمائيّ مركّب لرواية «زقاق المدقّ»، لنجيب محفوظ»،وكتاب« ألِف- ياء تحليل سيمَائِيّ لقصيدة [ أين ليلاي]، لمحمد العيد».
النص الأدبي:إشكالية الماهية؛زئبقية المفهوم
يستهل المؤلف كتابه بمقدمة مطولة تحت عنوان: «النص الأدبي:إشكالية الماهية؛زئبقية المفهوم»،وقد كشفت هذه المقدمة عن وعي المؤلف العميق بموضوعه،حيث يطرح جملة من الأسئلة الهامة التي لا يمكن أن يتجاوزها الدارس لهذا الموضوع،من بينها:ما النص؟،وهل يمكن تحديد ماهية النص؟،فنضع له علماً يحكمه ونظرية تضبطه،وهل يمكن التحكم فيما لا يتحكم فيه؟،ومن خلال السؤال الأخير، وقول المؤلف ما لا يتحكم فيه ندرك بأنه يجزم بعدم إمكانية وضع علم للنص الأدبي،ثم إن الباحث يطرح سؤالاً على نقيض السؤال السالف،فيقول:كيف لا يمكن التحكم فيما ينبغي التحكم فيه؟ ولكن كيف؟ وبأي أداة؟ وبأي منهج؟ وبأي إجراء؟ وهل يمكن فعل شيء ما يقع الاتفاق عليه نهائياً بين المنظرين أمام هذا اللغز العبقري البديع؟
ومن خلال هذه الأسئلة يمكن أن نستشف أن المؤلف ينتصر للتنظير للنص الأدبي،ويجزم المؤلف في هذه القضية بقوله:«عبثاً يحاول الذين يُعلمنُون النص أن يتخذوا لكتابته،أو لقراءته علماً صارماً كل الصرامة به يُحكم،ومعياراً دقيقاً كلّ الدقة إليه يُحتكم...لا علم للنصّ،فيما يبدو...وإنّما النصّ فنّ،من قبيل الفنون العبقريات الحسان،فبأي أداة يمكن علمنة ما لا يُجدي فيه البرهان،علمنة النصّ تشويه لخلقته،وتبشيع لصورته،وتقبيح لبهائه،بل تدمير لكيانه...محاولة العلمنة زعم شكلاني جاء من أقصى بلاد الرّوس،ولم يُفض إلا إلى نقيض القصد...» )1(.
ومن الأسئلة الهامة التي طرحها كيفية قراءة النص،وهو سؤال جدير بالاهتمام، ويشير إلى أن النص ربما قد يُراعى في قراءاته الشمولية،فإذا لا هو شكل، ولا هو مضمون ولكنه«نسيج سحري متكامل التركيب،محبوك النسيج،وربما رُوعي فيه انتفاء التجنيس:فإذا لا هو شعر، ولا هو نثر،ولكنه نص أدبي مسطور،وربما أمكننا المُنطلق مما يُطلق عليه الشكل نحو المضمون،أو مما يُطلق عليه المضمون نحو الشكل...في اندماج وانسجام،وفي ذوبان واتّساق.وربما أمكن تنكيب قراءة النص عن نقد النص:الذي هو فن لإصدار الحُكم،كما كان يرى قدماء الإغريق،فتحلّ القراءة محلّ النقد،وتغيب الأحكام، وتحضر القراءة لتُمسي إبداعاً يُكتب عن إبداع،فيصير النص قادراً على الإخصاب،ويشتدّ من حوله حوار النصوص،فيُفضي نصُّ إلى نص ثانٍ،نص ثان، ونصٌّ ثالث إلى نص رابع،فنُمسي أمام ملحمة يمكن أن نُطلق عليها «النصنصة المتسلسلة»... وتبلغ فعالية اللّغة في هذا المستوى من الكتابة ذروتها العليا ودرجتها القصوى»)2(.
ويؤكد المؤلف على أن النص يُمثل مؤسسة قائمة بذاتها لكل من يقرؤه ليؤوله أو ليستعمله بمعزل عن قصدية المؤلف، وقصدية التأليف،كما أن النص يُعطي كل قارئ ما لا ُيعطيه للقارئ الآخر،فالنص هو الواحد المتعدد،وهو القديم المتجدد،وكل قراءة للنص تتجدد وتتعدد،فالنص الأدبي جوهر قائم بذاته،والدراسات التي تصدر عنه تتعدد وتتنوع،ويظل هو واحد، والتحليلات متغيرة، وهو ثابت،وعن العناية بالنص الأدبي، وتركيز الدراسات عليه في الوطن العربي يشير إلى أن هذا الموضوع لم ينل حظاً وافراً من العناية في كتابات الدارسين العرب،وهذا ما عبر عنه بقوله:«وإذا كانت عناية الدارسين الغربيين لم تفتأ تتجدد وتتوسع،فنراها تتبارى في سبر أغوار النص الأدبي،وتتنافس في الذهاب إلى أبعد الحدود الممكنة في تحليله،والتنائي به عن الإجراءات التقليدية التي سادت قروناً طوالاً،والتي كانت تقضي بفصل الشعر عن النثر الأدبيّ،وتخصيص موضوعات للشعر، وموضوعات أُخر للنثر...فإن الدّارسين العرب المحدثين،إذا استثنينا دراسات قليلة كعمل إلياس خوري في محاولته «دراسات في نقد الشعر» ،بإجراءات بنوية، وكمحاولة حسين الواد الذي درس فيها نص «رسالة الغفران» لأبي العلاء المعري تحت عنوان: «البنية القصصية في رسالة الغفران »،وكعمل محمد مفتاح في تحليل قصيدة ابن عبدون الأندلسي الرّائية، وكعمل يمنى العيد في«معرفة النص» ،وكعمل خالدة سعيد في تحليل طائفة من الأعمال الأدبية في كتابها «حركية الإبداع»،وكعمل صلاح فضل في «شفرات النص»،وسوى هؤلاء ممن نعتذر عن عدم ذكرهم:لم يُعنوا كثيراً بتحليل النصوص الأدبية العربية فيكشفوا عن خفاياها الفنيّة، ويستكنهوا أغوارها الجمالية، ويتبحروا في ممارستهم إلى الحدّ الذي يبلغ من النصّ المطروح للتحليل بعض غايته»)3(.
تأصيل لـماهية الـمفاهيم
من خلال الفصل الأول يسعى المؤلف إلى تجلية المفاهيم،والمصطلحات التي تتصل بموضوعه،فقدم رصداً شاملاً للمفاهيم الثلاثة التي حواها عنوان الكتاب:«نظرية،نص،أدب»،وقام بمتابعتها تاريخياً،ومعرفياً، في الثقافتين العربية والأجنبية،إذ يرى أن هذه المفاهيم الثلاثة على الرغم من وضوحها في ذهن الناس،إلا أن البحث في ماهيتها قد يكون مفيداً من الوجهتين المعرفية،والتعليمية،وفي بحثه عن مفهوم النظرية يشير إلى أن هذا المفهوم من المفاهيم الجديدة في الفلسفة الحديثة،ولاسيما في لغتنا العربية،وقد عرف العرب هذا المفهوم تحت مصطلح«النظر»،وهو يعني الفكر الذي يُطلب به علم أو غلبة ظن، وقد ورد هذا المصطلح بكثرة في الكتابات العربية القديمة،ولاسيما فيما يتعلق بالمعرفة، وعلم الكلام، وقد خلص إلى أن مصطلح«نظرية» لم يُستعمل لدى أي واحد من المفكرين العرب القدماء،وفي المفاهيم الفلسفية الغربية يقصد بالنظرية«مجموعة من الموضوعات القابلة للبرهنة، والقوانين المنتظمة التي تخضع للفحص التجريبيّ،وتكون غايتها وضع حقيقة لنظام علمي»)4(.
ويرى المؤلف أن من أدق ما كُتب عن مفهوم النصّ ما كتبه الناقد الفرنسي رولان بارط الذي أوضح أن النص يتميز عن العمل الأدبي من حيث إن العمل الأدبي يكون قابلاً لأن يُمسك به في اليد،في حين أن النص يوجد في اللغة،وفي بحثه عن مفهوم« أدبي» و« أدبية» أشار إلى أن هذا المصطلح ظل غامضاً عبر العصور،بحيث يستطيع كل دارس تفسيره حسب ما يراه،وهذا ما عقّد المسألة،وجعل كل تيار نقدي يفسر أدبية الأدب انطلاقاً من هواه.
وفي الفصل الثاني،والذي عنونه المؤلف ب: « ماهية الفنّ ووظيفته في النصّ الأدبي» ناقش جملة من القضايا التي تتصل بالفن والجمال في النص الأدبي،حيث يرى أن إشكالية الفن والجمال في النص الأدبي لم يمنحها النقاد العرب المعاصرون حقها من العناية والاهتمام،وذلك لأن الحداثة العربية لم تبلغ في السابق المستوى الذي بلغته في هذه السنوات من العمق المعرفي،والنضوج الفكري،ويشير إلى أن ماهية الفن حديثاً تعني كل نتاج جمالي بواسطة إبداع كائن واع،والفن هو مضاد للعلم،بالنظر إلى أن الفن يمكن تذوقه بالذوق الوجداني،والعلم يُدرك بالعقل،ويُبرهن عليه بالبراهين والأدلة.
إشكالية العلاقة بين الكتابة والنص،والنص والعمل الأدبي:
يعالج الدكتور عبد الملك مرتاض في الفصل الثالث جملة من القضايا الهامة،ويتعرض لمجموعة من الإشكاليات التي تنضوي تحت لواء نظرية النص الأدبي،ومن أهم هذه الإشكاليات العلاقة بين النص ومبدعه،فقد أشار إلى غيابها في النقد التقليدي،حيث لم تكن تطرح أسئلة عن هذه العلاقة،وهذا ما دأب عليه الفكر النقدي منذ أرسطو، وفي القرن العشرين ظهرت آراء جديدة ذهبت إلى أن الكاتب ليس هو كاتب النص الأصلي، وإنما هو كاتب ضمني، وقد طرح الباحث مجموعة من الأسئلة الهامة ،وعرض في سياق جوابه عنها لمختلف الرؤى التي قُدمت عن هذه الإشكالية،حيث يقول:«ما علاقة النصّ بمبدعه؟أهي علاقة أبوة ببنوة فنزعم أن النص أولى له أن يعتزي إلى مؤلفه كما كان يذهب إلى ذلك كبير كتّاب العربية أبو عثمان الجاحظ،أم لا صلة للنص بصاحبه إطلاقاً كما يزعم نقاد المدرسة النقدية الجديدة في فرنسا خصوصاً،أمثال ما لارمي، وفاليري اللذين كانا يريان أن الأديب،بالقياس إلى ما يكتب،هو مجرد تفصيل لا غناء فيه،ثم خلف من بعدهما خلّفٌ أمثال رولان بارط، وميشال فوكو، وطودوروف، وجيرار جينات...فذهبوا إلى أبعد من ذلك في التطرُّف حين نادوا بموت المؤلف نفسه، واستراحوا؟ولم يُنادوا في الحقيقة، إلا بموت الإنسان نفسه، ومعه موت التاريخ الحضاريّ للإنسانية كلّها. ولكن هل يجوز أن نأخذ بهذه الآراء حرفياً، ونتقبلها قدَراً نازلاً من السماء لا يُرد؟إنا نرى إن هي إلا آراء وردت في سياق تاريخي يقوم على هوى معين، ويجب أن تظل قابعة فيه، ولا تشرئب إلى آفاق رحيبة لتتمكّن فيها فتتسع وتنمو»)5(.
ومن القضايا الهامة التي ناقشها الباحث في فصله هذا« تداخل العلاقة بين النص والعمل الأدبي»،فهذه الإشكالية لم يسبق أن نُوقشت مناقشة تشفي غليل الدارسين، ويعترف المؤلف بأن الفصل بين هذين المفهومين هو أمر صعب، والخوض فيه لا يخلو من مغامرة علمية،وقد أوضح رؤية رولان بارط الذي أشار إلى أنه لا ينبغي أن يقع اللبس بين النص من وجهة، والعمل الأدبي من وجهة أخرى،فالعمل الأدبي يبرز اختلافه عن النص من حيث إنه نتاج كامل، ومتكامل،في حين أن النص هو حقل منهجي،ومن جانب آخر تتجلى صعوبة الفصل نظراً لترادفهما ترادفاً مُطلقاً،وتقاربهما إلى حد الانطباق،وقد نظر موريس بلانشو نظرة أخرى إلى مفهوم:« العمل الأدبي»،وهذا دليل على أن هذا المفهوم هو مفهوم زئبقي،فيقرر بلانشو أن :« يكتب كتاباً،غير أن الكتاب ليس بعد هو العمل الأدبي،ذلك بأن هذا العمل الأدبي لا يكون كذلك إلا حين ينطق عن نفسه بنفسه، وفي عنف البداية الخالصة له،فإن لفظ الكينونة،يغتدي حدثاً ممكن الوقوع حين يغتدي العمل الأدبي أُنس الشخص الذي يكتبه، والشخص الذي يقرؤه» ،أي كأنه يُقرر أن العمل الأدبي هو الكتاب العظيم القيمة فقط.
ومن أهم القضايا التي تعرض لها المؤلف في فصله الرابع المعنون ب: «النص والسيمائيات الأدبية» معضلة الازدواجية في هذا المصطلح،كما ناقش باستفاضة اضطراب الدارسين في تمثُل هذا المفهوم،ومن أهم ما توصل إليه في هذا الموضوع أن:«السيمائيات و-بالقياس إلى السيمائية- وبما هي متمحضة لمعالجة خصوصيات الحقل-بمثابة اللّغة من اللّسان.
-ترتبط السيمائيات،أساساً،بالثقافة الأنجلو/أمريكية(لوك،وبيرس خصوصاً)،في حين يرتبط مفهوم السيمائية «السّميولوجيا»بالثقافة الفرنسية (قريماس،بارط،كرستيفا)،على الرغم من أن قريماس عنون معجمه السيمائي بمصطلح «السيموتيكا».
-يبدو أن مصطلح السيموتيكا أقدم وجوداً، وأعرق ميلاداً-1555-في الثقافة الأوربية من مصطلح«السيمائية» أو«السيميولوجيا».الذي لم يتداوله دو صوسير إلا زهاء سنة:1910م.
-إنّ مفهوم السيمائية يرتبط أساساً بعلم اللغة،باللسانيات،في حين يرتبط مفهوم«السيمائيات» بالفلسفة، والمنطق في حال، والتطبيقات الأدبية والسردية والثقافية في حال أخرى.
وكذلك ابتدأت السيمائية طيبة فلسفية،ثم لغوية ولسانياتية،ثم لم تلبث أن تشعبت إلى أجناس أدبية، وأشكال ثقافية،مع احتفاظها بوضعها اللسانياتي،حيث الآن توجد عناية شديدة تسم سلوك المحللين والمتعاملين مع النصوص الأدبية من المعاصرين الذين تلقفوا مفهوم السيمائية فجاءوا به إلى النص الأدبي ليقرؤوه في ضوئه،بشيء كثير من القدرة الفكرية والبراعة المنهجية فاقت كلّ الاهتمامات الأُخر التي يُبديها أصحاب الحقول الأخر من العلوم»)6(.
نظرية التناص عند العرب وفي النقد الغربي المعاصر:
لقد قدم الدكتور عبد الملك مرتاض دراسة ممتعة عن نظرية التناص،فمن خلال الفصل الخامس تحدث باستفاضة عن«مسارات مفهوم التناص عند العرب»،ورصد في الفصل السادس تجليات هذه النظرية في النقد الغربي المعاصر،والتناص« كما يبرهن على ذلك اشتقاق المصطلح نفسه،هو تبادل التأثير والعلاقات بين نصّ أدبيّ راهن،ونصوص أدبية اُخر سابقة. وكان الفكر النقديّ العربيّ عرف هذه الفكرة معرفة معمّقة تحت مصطلح السرقات الشعرية» .
يشير المؤلف إلى أن ابن طباطبا العلوي هو صاحب مشروع نظري متكامل لنظرية التناص،وكان له وعي معرفي كبير بهذه المسألة،وهو على رأس من تعرضوا لها،وقد عرض الباحث بإسهاب لتأسيسات ابن طباطبا لنظرية التناص،وقد قام بمقارنة تأسيساته مع ما توصلت إليه الباحثة جوليا كريستيفا،إذ يقول في هذا الشأن:« وإذا كانت جوليا كريستيفا،ترى أن التناص هو نص مأخوذ من نصوص أخر،كما لا تُقدم أي مثال،فإن ابن طباطبا يقدم ثلاثة أمثلة لتمكّنه من موضوعه،وقدرته على تمثُّل الإشكالية المطروحة في ذهنه». وقد استعرض المؤلف عند مناقشته لنظرية التناص تأسيسات ابن رشيق، وسلط الضوء على حازم القرطاجني،وابن خلدون وإسهاماتهما في نظرية التناص،وبعد استعراضه لإسهامات النقاد العرب القُدامى،ينتقل لإسهامات النقاد العرب المعاصرين،ويشير إلى أن من أحسن الكتب التي كُتبت عن نظرية التناص،كتاب:«الخطيئة والتكفير» للباحث والمفكر السعودي الدكتور عبد الله محمد الغذامي الذي صدر عام:1985م،على الرغم من أن المؤلف لم يستعمل فيه مصطلح «التناص» صراحة، ولكنه أورده تحت مصطلح:«تداخل النصوص»،ومن أهم الذين عالجوا المسألة التناصية بوعي معرفي الدكتور صبري حافظ،وهو من أوائل النقاد العرب الذين اصطنعوا هذا المصطلح تحت مسماه الذي هو جار عليه الآن،إضافة إلى الدكتور محمد مفتاح،وبشير القمري،وسامي سويدان،وعبد الملك مرتاض.
وفي النقد الغربي المعاصر ظهر هذا المصطلح لأول مرة سنة:1958م،كما أرخ لذلك معجم«روبير الصغير الجديد»،وقد أحدث اختلافات بين النقاد الغربيين،إذ يرى الكثير من النقاد أن جميع ما يكتبه الكتّاب هو مكرر،وترى جوليا كريستيفا أن النص المكتوب هو ليس إلا اجتراراً لنصوص أخرى غير معروفة،أو نصوص مجهولة على حد تعبير رولان بارط،وقد أوضح الدكتور مرتاض أن: «التناص في تنظيراته المعاصرة،وهي محدودة جداً،وفيما يرى أصحابه على الأقلّ،جاوز الأسس البسيطة-التي لا تستند في أمرها لا إلى خلفيات فلسفية، ولا إلى أسس معرفية،ولا إلى نظريات منطقية ورياضياتية-إلى مجال أرحب، وفضاء أوسع، وذلك على الرغم من إحساس القارئ العاديّ وحتى المحترف بأن النقاد الجدد أنفسهم يُقرّون على نحو أو على آخر،بغموض هذا المفهوم حيث كان لاحظ قريماس، وكورتيس أن انعدام الدّقة والوضوح في هذا المفهوم أفضى إلى استخلاص نتائج كلية من مقدمات جزئية،كما كان أقرّ بغموضه من قدماء النقّاد العرب ابن رشيق حين قرّر، وهو يتحدث عن السَّرق بأنّ فيه أشياء غامضة،بل أمسى هذا المفهوم مفتوحاً لاجتهادات واسعة،وهو يستقطب أموراً ومنطلقات مختلفة لفهم دينامية المجتمع، والثقافة، والأدب، وسائر الصناعات، وفهم أنظمتها المتلاحمة»)7(.
وخصص المؤلف الفصل السابع للحديث عن الحيز الأدبي ،وسلط الضوء من خلاله على الحيز الأدبي والقراءة، والحيز الأدبي والتجربة،والحيز الأدبي واللغة،والحيز والممارسة النقدية العربية، وقد خلص المؤلف في ختام هذا الفصل إلى أن:«الحيز الأدبي لا ينبغي حصره في سيرة كاتب واحد، وكتابته،بل يجب أن يعمّم على رسالة الكتابة الأدبية في المجتمع،فالأمر هنا ليس من باب قول بعض السُّذج:لم يترك الأوّل للآخر ما يقول... فالحيز مفتوح للكتابة،والحياة متجددة،والخيال متمدد لا يوصد له باب، ولا يُغلق له أفق.فليس الحيز الأدبي إذن،حيزاً مُغلقاً إذا عالجه أديب سابق،فإنه لا يجوز لغيره معالجته... بل الحيز الأدبيّ يعادل سيرة الحياة،يموت الأب،فيرثه الابن،ليمضي في أداء رسالة معينة في هذه الحياة. ولا يمكن أن يقال: إن الأب إذا عاش،فقد عاش من أجل أبنائه فلا يلتمس إنجابهم،بل المسألة قائمة على مبدأ التواصل السرمديّ،بين السابق واللاحق،بين الماضي والحاضر،لبقاء الحياة واستمرارها...ولا يقال إلا نحو ذلك في سيرة الحيز الأدبيّ للإبداع،فهذا الحيز ممتدّ ما امتدّ بقاء الحياة»)8(.
مكونات أخرى لنظرية النص الأدبي:
يؤكد المؤلف في الفصل الأخير من الكتاب على أن هناك الكثير من القضايا التي تتصل بالنص الأدبي في مسار الحداثة الغربية، ولكنها لم ترق بعد في بعض تأسيساتها إلى مستوى نظرية متكاملة،ولكنها تندرج في معظمها ضمن إطار مكونات نظرية النص الأدبي،أو ضمن مكونات نظرية السيمائية الأدبية،وحتى ضمن مكونات اللسانيات،وفعل اللغة، وفلسفة اللغة،أو الفلسفة التحليلية،ومن أهم هذه الإشكاليات:إشكالية النص المفتوح أو المغلق، و في نظر المؤلف أن النص المفتوح يحدد على أنه القابل لأن يقع الابتداء به،بمثل ما يقع الانتهاء عليه،فيكون دائرياً بناءً على هذا التصور،وما يُفهم من النص المفتوح أي أنه يترك مفتوحاً على كل تأويلات القراءة الأدبية،وأما النص المغلق فكأنه نص مكتمل لا تشبه نهايته بدايته، ولا تماثل بدايته نهايته، ومن جانب آخر قد يكون هذا النص أنزع إلى التقليدية منه إلى الجدة والحداثة،ويشير الدكتور عبد الملك مرتاض إلى أن:« قضية الانفتاح والانغلاق تخلُصُ للنصوص السردية،وكل ما هو قابل للحكي،أكثر مما تخلُص للنصّ التأمّلي،أو المجرد الذي لا يتناول شريطاً حكائياً فلا يخضع لمبدأ الانفتاح والانغلاق،في حين أن النصّ السرديّ،بحكم الضرورة،هو خاضع لهذا المبدأ،فهو إما مغلق، وإما مفتوح، ولا يكون غير ذلك شأناً»)9(.
وعندما ناقش المؤلف مفهوم: «التمدلل»أشار إلى أن:
«التمدلل جاء لإحداث ثورة حقيقية في مفهوم السّمة، وفي شرعيّة نسبتها إلى السِّيمائيّة، وفي نظريات بيرس ودو صوسير عن هذا المفهوم.
-يعني مفهوم التمدلل لدى كريستيفا، وهي التي أنشأته في دلالته السِّيمائيّة،إنشاء، انطلاقاً من أعمال يلمسليف ودو صوسير أيضاً، ومما أرادت تحقيقه من وراء بلورة هذا المفهوم ،إمكان إفلات السيمائية من قبضة قوانين الدلالة الملازمة للخطاب بما هو أنظمة للتبليغ،ثم إحداث حقول أخر للتمدلل»)10(.
وقد رأى ميشال أريفي أن التمدلل يعني أن مفهوم الحدث هو بصدد الوقوع،وأن العمل لما ينته فعله،فالتمدلل يجب أن يكون مختلفاً بطبيعة الحال عن الدلالة،في حين أن رولان بارط عالج هذا المفهوم من زوايا مختلفة،كما تحدث عن الخلفيات التاريخية التي أفضت إلى إنتاج هذا المفهوم، ويرى الباحث أن هذا المفهوم لا يزال مُحتاجاً من النقاد الجدد إلى كتابة جادة وأصيلة، ومسهبة ومتنوعة، وربما إلى ندوات نقدية متخصصة لإمكان الإفادة منه في سبيل النهوض بالنظرة الرصينة إلى النصّ الأدبيّ فيما بعد الحداثة الفرنسيّة.كما تطرق المؤلف إلى مجموعة من الموضوعات التي تندرج في إطار مكونات النص الأدبي،ومن بينها:النتاجية،وبين المرجع والمرجعية،والتداولية وتحليل الخطاب.
وأخيراً يمكن القول إن كتاب:«نظرية النص الأدبي» للدكتور عبد الملك مرتاض يمثل إضافة مهمة للمكتبة العربية في ميدان دراسات النص الأدبي ،وأهم ما ميزه تلك التحاليل العميقة،والأمثلة الوفيرة،واللغة الراقية الأنيقة،وفي نظرنا أنه يمثل بداية حقيقية لازدهار الدراسات العربية الأكاديمية في هذا الميدان.
الهوامش:
(1) د.عبد الملك مرتاض:نظرية النص الأدبي،منشورات دار هومة للطباعة والنشر والتوزيع،الجزائر،2007م،ص:07.
(2) د.عبد الملك مرتاض:نظرية النص الأدبي،ص:9 وما بعدها.
(3)د.عبد الملك مرتاض:المصدر نفسه،ص:14.
(4)المصدر نفسه،ص:35.
(5)المصدر نفسه،ص:110.
(6)المصدر نفسه،ص:165.
(7)المصدر نفسه،ص:345.
(8)المصدر نفسه،ص:353.
(9) المصدر نفسه،ص:365.
(10)المصدر نفسه،ص:420.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق