2018/06/06

الكاتب السوداني أحمد يعقوب يحاور القاص العراقي علي السباعي

الكاتب السوداني أحمد يعقوب يحاور القاص العراقي علي السباعي
 

عندما يلتقي النيل بالفرات ، كوش تستضيف سومر في حوارٍ استثنائي
سومر وبابل هي الارث الذي يتّكئُ عليه انها القرطاس كما تمثله نصوصه والفرات يشكل هنا الحبر المقدس حيث ينثال عذباً فراتاً،علي السباعي يمثل جيلاً بأكمله عاش الثورة والحروبات في زمنٍ نُكأ فيه الجرح،علي الذي يرى أن الفروسية في الأدب هو أن تسلح القارئ لا أن تقاتل نيابة عنه ، التقيته في ذات فضاء سبراني هيأته وسائل التواصل فكان التقاء النيل بالفرات وكان حوار حضارتين عظيمتين كوش وسومر، له بصمتهُ الخاصة على خريطة القصة الحديثة في الوطن العربي، يكتب قصصه بصدق الإحساس وخفة الحلم، ينصتُ لصمت الموت، لنبض الحياة…، بنزعة إنسانية صادقة بداخله، قصصهُ تعلن الثورة والتمرّد على سائد الأنماط والأشكال يتدفق السرد بعناقيد من رموز أسطورية ودينيه وتواشيح صوفية وفي قمة النقاء اوليس العراق مقام اولياء الله الحسن والحسين. علي السباعي متخمٌ بالجوائز تقديراً لجهوده الكبيرة في عالم القصة القصيرة بالوطن العربي .
حاوره: أحمد يعقوب
حدثنا عن بدايات الكتابة و كتابة القصة بشكل خاص؟
رحلتي بدأت مع دروس الإنشاء حين كنت تلميذاً في الصف الخامس الابتدائي اندلعت الحرب العراقية الإيرانية يوم 22/9/1980 م ، طلب منا معلم اللغة العربية الذي يسطر لنا موضوع الإنشاء بخط يده اليسرى الجميل والأنيق فوق خشب السبورة السوداء : ( رسالة إلى أبي المقاتل في الجبهة الشرقية ) ، كتبت لوالدي الجندي في منطقة ( سربيل زهاب  ( الإيرانية ، نلت عليه المرتبة الأول في مسابقة الخطابة بمدينتي ، والثالث على مستوى تربيات العراق ، نمت فسيلتي بالقراءة داخل أروقة المكتبة المدرسية ، نهلت من نبعها فأينعت نخلتي وكبرت بقراءاتي المكثفة حتى أشتد جذعي باسقاً بالمطالعة مما زاد شغفي بحب الأدب ونهمي في قراءة الكتب

اذاً إكتشفت ذاتك وعرفت من أنت لحظة تحاورك مع الكتب وقراءتها؟
يومها بلغ الظلم أوجّه وطغى في البلاد على العباد بسبب استبداد سلطة جائرة حكمتنا بالحديد والنار ، يعود الفضل لقراءاتي الكثيرة والمتنوعة التي جعلت مني أرضاً خصبةً وحاضنة مثالية لما هو آت : أن أكون رائياً . إبانها تعددت محطات متعتي في القراءة التي تحولت إلى عذابات لا تنتهي بسبب قراءة قصائد الشعر التي تحض على الثورة ، قرأت قصائد ثورية كبيرة كثيرة أيقظت ثورتي الداخلية . ساعة قرأت الشاعر العربي الكبير ( إبراهيم طوقان ) ، واجهت عدوي ، واجهته لأول مرة ، لأول مرة أواجه خوفي ، رأيت خوفي ، رأيته شخصياً ، ووقفت معه وجهاً لوجه ،
كانت الكتابة لحظة ثورتك وانتصارك على الخوف الداخلي أولاً ثم مواجهة الجبروت السلطوي ثانياً؟
بعد أن قرأت أبو القاسم ألشابي انتصرت على خوفي انتصاراً نهائياً بكتابة أول قصيدة عمودية لي في حياتي هجوت فيها السلطة القامعة للشعب ، هزمت عدوي ثم خوفي حين هجوت الدكتاتور البغيض بعد أن عثرت على :- ( علي السباعي ) الشجاع بداخلي أثمرت نخلتي رطباً حلواً حال تساقطه غادرت ( علي السباعي ) المتشظي والخائب والخائف ، أصبحت نخلة محملة بالقصائد ، حملت قصيدتي مزهواً زاهياً بما قرضت من شعر لأعرضها على والدي الذي أرتعب خوفاً علي وهو يقرأ ما نظمت من أبيات شعرية
كيف استقبلها هل كان خائفاً من بطش الطاغوت بك؟
كان يتذوق رطب نخلتي الجني قارئاً قصيدتي وينظر إلي ويقرأ ، أرى خوفه علي مرسوماً في عينيه ووجهه وفي كل تفصيل صدر منه حتى اللحظة منطبعة بخلدي ؛ يقرأ وينظر ألي ، سألني بعد أن أكمل قراءتها والخوف يأكله علي : ( هل أنت من نظم هذه القصيدة العمودية بني علي ؟ ) ، أجبته : ( نعم ) . ضمني إلى روحه ، وخبأ القصيدة عني حتى يومي هذا ، نظرت صوب ما يعصف بنا ، لم أدر ظهري له ، لم أهز كتفي بمرارة له وأمضي ، وقفت نخلة تهز جذعها خطوب الدهر ونوائبه ، فيتساقط شعري جنيا ، كتبت قصائدي التي توالت بتوالي الخطوب وقراءاتي حتى تعرفت على السرد الرفيع عندما تذوقت طعم قصص الشجاعة نوال السعداوي ، كنت وإنا أقرأ نوال السعداوي أتزود بالشجاعة ، أحس البؤس وأراه ، أرى بؤسنا اليومي وألمسه بروحي قبل عيني ، فمشاهدة البؤس اليومي أمر صعب على مشاعر وأحاسيس شاب بعمري عايش بؤس حرب الثمانينيات .

ولكن نوال كانت تواجه بكتاباتها شرقاً تراه مستبداً اختزل كينونة المرأة في الجسد أولاً ثم كانت تحارب في جبهات كثيرة من أجل تغيير ذاك الواقع هل ألهمتك ؟
بسبب غواية كلمات نوال السعداوي عشقت السرد ، تولهت بالحكي ، جننت بالقص ، عشت أعماق واقعنا ألموار بالبلاءات ، المصطلم ، المضطرب ، المتفجر ، الضاغط ، القاتل ، الخائن ، المميت ، المرعب ، والمهلك . واقعنا لم يك جميلاً أبداً كانت حرب ألثمان سنوات جحيماً لف طفولتي والعراق ، قدرنا أن نخوض حرباً لم نشعلها ، عشنا أياما من نار ورصاص ودم ، شاهدت الموت مع طلوع الشمس حتى غروبها ، رأيته يحل علينا صباح مساء مع جثامين الشبان الهالكين في معارك الحرب العراقية الإيرانية حيث تتوافد جثثهم على مدننا . أرى الثكالى والأرامل واليتامى والجرحى يبكون ما فقدوه . آه . كانت حياتنا محزنة أشعلت فتيل جذوتي القصصية ،
ماهي أول قصة قصيرة كتبتها؟ صف لي مشاعرك وانت تستقبل مولودك الاول بعد المخاض العسير؟
أول قصة قصيرة في حياتي يوم 24 نيسان 1984 م ، جاءت القصة تحت مسمى : ( عربدة عقب سيجارة الضابط العراقي ) . جاءت نتيجة مروري بحادثة فجرت ينبوع قريحتي في كتابة القصة ، كنت في الرابعة عشر من عمري وقت كتابتها . اكتملت عندي أول قصة قصيرة لي ، حملت في ثناياها وبين سطورها براءة وعنفوان الشباب ، كتبتها بمشاعر مرهفة وإحساس صادق ، كتبتها ، كتبت أول قصة ، لأن القصة هي الفن الأنسب للتعبير عن الأحداث اليومية التي ترافق حياتنا وما ينجم عنها لما تمتاز به القصة من تكثيف واختزال وقدرة فائقة على التقاط اللحظة وتدوينها ، وتصاعدت كتابتها عندي متنوعة في إيقاعاتها وكل القصص التي كتبتها أثناء الحرب وبعدها أصبحت كتابتها وسيلة ناجعة لرد الظلم وحفظ ماء الوجه ولإعادة الاعتبار لكرامتنا التي هدرت مراراً وتكراراً . الآن . أعيش في اللغة ، وأسكن القصة .
الكتابة كفعل احتجاج وممارسة ثورية ماذا تعني لك ؟
القص عالم مستقل ، فضاء لوحده ، عالم مليء بالعجيب والغريب ، عالم مؤلم أسود ، عالم صادم أحمر ، القصة تقوم بعدة مهام ووظائف ، وكتابتها شكلت لي صمام أمان لتنفيس عن مكنوناتي الداخلية وما يعتمل فيها من ثورة ضد الطغيان ، وما تخبأه نفوس الناس من اضطرابات وأضطرامات وأحتدامات ومسرات وأوجاع ، الكتابة ضد الفوضى والعبث ، حياة ضد الموت ، صهوة يمتطيها الأحرار صوب النور والحق والجمال . الكتابة شيء تعيس في حياتي لأنها أفسدتها ، الكتابة أغراء ، إغراؤها إن تتورط في حبها بعد أن تقع بشباكها ، تعشقها ، تتوله بها كونها مغوية
اه اجابتك هذه تصوّر لي الكتابة كإمرأة مثيرة تمارس فن الايقاع بعشاقها ؟
هي مثيرة وإثارتها متعة ، ومتعتها الإحساس الداخلي الذي يتسرب إلي لحظة نسجي لعوالمها أجوس أرضها البكر مكمن عذريتها بفعل الحكي . أكتب لأحقق إنسانيتي ، لأميز بين الضجيج والهدوء ، لأتعلم كتابة القصص والقصة القصيرة هي : الحب والشغف ، حب وشغف عظيمين لتعبير عن شعلتي الداخلية ، لأن الكتابة من الشعلة الداخلية عن الناس تجعلني أستمر بالعيش بحماس وجلد متحملاً مآسيها ، وحدها شعلة الإبداع داخلي تمنحني الدفء وتعطي لحياتي طعماً ومعنى . القصة هويتي وسر وجودي . بكلمة واحدة : أكتب لأكون . أكتب عن الذي لا يقرأ . لأشارك القارئ فيما أغزله من قصص ، لأعلي من شأنه ، لأهيئه لثورة ، ذلك ما ذهبت إليه ولم أفلح حيث تعلمت الدرس الأقسى في حياتي أن الفروسية في الأدب هو أن تسلح القارئ لا أن تقاتل نيابة عنه .
العراق بلد الحضارات حيث سومر وبابل وهناك أيضا المدن السومرية القديمة ( أور، نيبور ، لارسا ، كيش )هل باستطاعتنا القول إن هذا الإرث الضخم هو سندك للكتابة ؟
ولدت الساعة التاسعة والنصف صباح يوم الخميس 10 حزيران 1970 م ، جنوب بلاد الرافدين في مدينة الناصرية جنوب مدينة أور الأثرية ، أرض أولى الحضارات ، وأول التاريخ نشأة وتكويناً وترعرعاً ، جنوب العراق ، جنوب نهري دجلة والفرات وجنوب الأهوار بدأت الكتابة مع أجدادي السومريين اللذين استمرت حضارتهم عدة قرون بدءاً من الألف الرابع قبل الميلاد حتى اختفوا من التاريخ في نهاية الألفية الثالثة قبل الميلاد ، أي حوالي سنة 3600 قبل الميلاد ،
حدثني قليلاً عن كتاباتهم المسمارية ،وقل لي هل كان القرءان ايضاً بلغته الفخمة ميراثاً نهلت منه؟
ظهرت كتاباتهم بشكل خطوط شبيهة بالمسامير ، وجاء اختراعها لدوافع عملية ( التجارة والإدارة وشؤون الدولة ) ، حضارتنا السومرية نظام اجتماعي يعين الإنسان على الزيادة في إنتاجه الثقافي . اليوم أكتب وأنا أتكئ على أرث حضاري وثقافي ضخم وفخم وعميق الجذور ، أكتب قصصي التي تنهل من حضارتنا العريقة الضاربة جذورها في أعماق فجر الحضارات ، درجت أوظف داخل متوني الحكائية ما تناقلته ألواحها الطينية معتمداً على لغة القرآن الكريم الفخمة ، كون ثقافتنا الممتدة من الألف الرابع كانت ولازالت تحريراً للإنسان وتقويماً له ، ما أكتبه ينشد ما أنشدته حضارات أسلافي الذين وضعوا لنا القوانين والأفكار المنظمة لحياتنا بكلمات كتبتها أنامل مبدعيها الأوائل بحروف من نور فوق ألواحها الطينية السمر التي علمت البشرية كتابة الحرف الأول لإسعاده .
نصوصك تشترك في ما هو أسطوري وغرائبي وما توظفه في القصة أهو البصر أم أن رهانك على البصيرة ؟
أعمد في كتابتي للقصة القصيرة على ما أراه كوني سومري وأرى ما رآه كلكامش : ( أنا الذي رأى كل شيء . . . ) أستمد موضوعاتي الخام في كتابة القصة مما أراه ، وما أراه يسلب لبي ويأسرني ويعذبني ولا أبرأ منه حتى أكتبه . حال نشر القصة يكون رهاني على الخلفية الموجودة عند الإنسان والتي يستطيع من خلالها أن يهتدي إلى الطريق السليم ، فهدف كتابة القصة القصيرة إنارة بصيرة الآخرين ، فنحن درجنا على القول بأن الله سبحانه وتعالى قد نور بصيرة فلان يعني أن تصرفاته تصرفات سليمة وجيدة بسبب خلفيته ، ووظيفة الآداب عموماً أن تجعل تصرفات المرء سليمة . إذاً بصيرته سليمة ، مضمونه الداخلي : عقله مستقيم ، وقلبه واع ومنفتح على الله عز وجل . وأنا أكره أن يقال على الناس عمي البصائر أي أنهم لا يرون .
كيف تقارب لنا تجربة الموت كما عشتها كاتبا وخاصة أن الموت هو اليقين الوحيد في الحياة ؟
نحن كتاب القصة نخيل نحمل حزن الناس ، وحزني على الناس المظلومين لا يدانيه حزن حتى سافرت إلى العاصمة بغداد في 27/11/2005 م ، لتسلم مجموعتي القصصية الثالثة ( زليخات يوسف ) الصادرة عن دار الشؤون الثقافية العامة ، كانت الحرب الطائفية قد استعرت وطار شواظها ببغداد ومحيطها من مدن عراقية وقصبات استأجرت سيارة أجرة تقلنا إلى دار آفاق عربية في الأعظمية ، سارت بنا السيارة في شوارع الأعظمية ، كانت السيارات الهاربة من جحيم الذبح تسير عكس اتجاه السير ، تشير إلينا وتومئ بالعودة ، رجوت السائق وتوسلت إليه أن يعود بنا أدراجنا ، رفض العودة ، وأكمل سيره بشكل سافر ومتحد وسريع جداً حتى وصلنا شارع الأخطل وعند شارع الأخطل وقف الذباحون ، حياهم سائق سيارة الأجرة قائلاً : حيا الله المجاهدين ، أجابه أميرهم : حيا الله أبا عبد الرحمن ، سأله أميرهم : هل جلبت لنا معك كلاباً لنذبحها ؟ أجابهم : نعم . تألمت في سري ( . . . كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ . . . ) ، أمرونا بالترجل من السيارة ، أمرونا بأن نقف في النسق مطأطئي الرؤوس وصامتين ، واقتادونا في صف طويل داخل شارع الأخطل في الأعظمية ، وقفنا ضمن نسق طويل من العراقيين الذين ينتظرون دورهم بالذبح ليذبحوا ، جعلت أخي الذي يصغرني خلفي ، وطلبت منه أن يردد خلفي ما أٌقرأ ، ورحت أقرأ آية الكرسي بصوت عال وأعدت قراءتها خمس مرات ورددت الشهادة بصوت جهوري ثابت وعال ، واستسلمنا للأمر ، لأنني مؤمن بقضاء الله وقدره ( . . . وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُّؤَجَّلًا ۗ . . . ) ، ذبح على الهوية أمامنا ستة وثلاثون عراقياً وبأياد عراقية ، كنت قد أخفيت هوية الأحوال المدنية " الجنسية العراقية " كون أسمي فيها ( علي عبد الحسين صالح السباعي ) ، وأظهرت هوية إتحاد الأدباء والكتاب العراقيين ، وصل الذباح وبيده سكينه الطويلة الضخمة إلى الرجل الكهل الذي وصله دور الذبح يقف أمامي في الصف كان تسلسله السابع والثلاثين بال الرجل الكهل على سرواله وسلح ، ضرب الذباح العراقي بيده اليمنى التي تقطر دماً على فخذه الأيمن ، قائلاً: حسافة . خسارة . والله . أن يبكي الرجل ؟ قبل أن يكمل أمره الأمير الذي حيا سائق سيارة الأجرة التي أقلتنا : يا أخي . أتركه وأولاده لحال سبيلهم . دعهم يذهبون لأجل أبيهم الكبير . يا الله . تصورنا أخي وأنا أبناء الرجل الكهل ، قال بحدة : خذوا أبيكم ، وأذهبوا بعيداً . اقتدنا الرجل الكهل الذي كان منهاراً باكياً وخرائه ممتزج ببوله يخط خلفه ، سألنا باكياً : يا أولادي أنا مسيحي وقد أسلمت على يديك يا أيها الشجاع وأنت كنت ترتل القرآن ، ضحكت ملء روحي المنهارة أنما المسلم " الشيعي " ، قائلاً له بدعابة ساخرة : لو لم تك يا أبتاه قد تبرزت وبلت على نفسك لما خرجنا سالمين من الذبح بأنصال سكاكينهم الحادة حتى لو كنت قرأت القرآن كله !!! بعد أن نجاني الله سبحانه وتعالى من حادثة الذبح ونجاتي من الموت " الذبح " المحقق لأكون شاهداً ، أن أرى مثلما رأى كلكامش الألم والشر والخيانة . آه . صرن مقومات حياتنا . كل ما مررت به جعلني إنساناً محطماً من الداخل ، عرفت لحظة نجاتي أن الإنسان سيء ، فكتبت رواية عن تلك الحادثة المريرة المريعة .
الفرات يبدو حضوره قوياً في طيات نصوصك ما سر عشقك لهذا النهر؟
( . . .
هَٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ . . . ) ، الفرات العريق كان ولازال خلي الوفي ، صديقي ، جعلته لي صديقاً صدوقاً ، أجده في حالات يأسي الكثيرة وإحباطاتي المتواصلة مستودعاً لأسراري حين أجلس قبالته أحدثه ، تأتني موجاته السمر لامعة بفرحة اللقاء ، أبوح لها عما أنا فيه وما يختلج في صدري من بؤس وإحباط وعذاب وألم في داخلي الذي تجتمع فيه ثلاث عوالم في آن واحد : محبط وحالم وساخر ناقم ، فترتد إلي موجاته التي تحمل لون الطين ، لوني ، تأتني حانية دافئة عذبة محملة بالمودة والحلول الناجعة لما أنا فيه من قنوط . نهر الفرات يمثل ل : ( علي السباعي ) الطهر ، الصدق ، الدفء ، الولادة ، الحياة ، الاستمرار على التواصل والكتابة ، والعزيمة في مقارعة خطوب الحياة .
أليست كتابة الرواية تتيح لك التصرف في البناء السردي وتعطي القدرة لنصوصك على التأويل ؟
ج 8 / منحني عالم الرواية الرحب والواسع حرية كبيرة وشاسعة وواسعة في بناءاتي السردية ، وكيف أكتب حيوات الناس ، تلك الحياة القاسية على معظم الناس ، وأن معظم الناس يحصلون على نصيبهم الكافي من تلك القسوة . نعم . منحت طريقة بناء معمار الرواية نصوصي السردية القدرة على التأويل عكس عالم القصة الصعب بدربها السردي اللاحب .
تمتاز بالصوت الجهور للتمرد والثورة وأظنك تمقت كل ما هو ثابت ومتفق عليه ؟
رسالتي الحرية والكرامة والسعادة والسلام للناس في زمن تكاثرت فيه التحديات بدءاً من عصف رياح الحرب العراقية الإيرانية التي غيرت كل شيء ، وأحرقت الأخضر قبل اليابس وقبلها أنها أحرقت نفوسنا الخضر الشابة وأحالتها إلى هشيماً تذروه رياح الشر ، حيث كرست تلك الرياح أمراض الشارع العراقي الذي تعود ثقافة الشعارات وغنائم اللحظة المعاشة دون أدنى خجل من النظر إلى خساراتهم . كان جحيماً ، وكان وما حملته رياح ما بعد غزو الكويت جحيماً عشناه مسحوقين مداسين محاصرين يوأد الأطفال والنخيل ، وأعمارنا أزهارنا تداس بالأحذية العسكرية الثقيلة ، يوم كنا فيه أذلة ، خجلت . نعم . خجلت من نفسي ورحت أنظر كالمشدود في خريطة أبناء وطني ، أنظر في كل شبر ، في كل فعل ، وأكتب ، كتبت القصة لأنها لا تدير ظهرها للناس ، للحياة ، كتبتها يوم كانت الكلاشنكوفات مصوبة فوهاتها نحونا ، نحو صدورنا ، كان قدر الإنسان العراقي ، وما زال محكوماً عليه بالعيش في وطن ورث أبشع مظاهر التخلف الحضاري ، جاء الاحتلال الأمريكي للعراق ، ولم نتغير ونحن مزدوجون إحساساً وتفكيراً ، قل بربك كيف لا أتمرد ؟ تقول سيمون دي بوفوار : ( إننا لا نستطيع أن نستخرج من خط منحن خطاً مستقيماً ، ونحن لا نستطيع أن نعيش حياة صحيحة في مجتمع ليس صحيحاً ، إننا نلدغ ، دوماً ! من جديد . . . من هذا الجانب . . . أو ذاك )
في قصتك زليخات يوسف كانت القصة أنثى والصوت أنثى وكأنك تنتوي قول شيء عن الأنثى ، ماذا تشكل الأنثى بالنسبة لك ؟
ج 10 / علي السباعي سليل من قال : ( عيناك غابتا نخيل ساعة السحر / أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر / عيناك حين تبسمان تورق كالأقمار في نهر / وترقص الأضواء وهنا ساعة السحر / كأنما تنبض في غوريهما النجوم . . ) . قصتي التي أكتبها هي قصة الإنسان بالدرجة الأولى ، والقصة هي لون من ألوان التعبير عن الواقع الاجتماعي بكل تغيراته التي بدأت تظهر في واقع حياتنا الفائر بالدم والأحداث ، شعرت أن الفاسد يكون قامعاً للمرأة في مجتمعنا المحروم ، وأن القمع لا ينجب إلا قامعين ، ومحاولة مني لردم مفازات شاسعة بيني وبين زليخة التي حفرها الأجداد القامعين ، جعلت المرأة العراقية الأكثر تأثراً وتعرضاً بالخراب العراقي حتى حولت زليخة الضحية إلى حلم من خلال أسطرتها في كتاباتي القصصية كونها جزءاً من مجتمع عراقي شرقي بائس ، حاولت تجسيد المرأة العراقية ، زليخة الإنسانة ، والكتابة عنها بعمق ، هنا ، تصبح قصتي قصة الإنسانة بالدرجة الأولى ، الإنسانة التي حضرت وتجسدت بعمق وحزن في قصصي ، كتبت القصص عن الأنثى لأنني أحلم بعالم يشعر فيه الإنسان بالحرية والكرامة ، كتبتها لأنصفها ، لأنني مؤمن بالمرأة ككائن واقعي مكافئ لي ، ولها الحق المماثل في الحياة والتعبير عن كوامنه وروحه وطاقاته ، أحاول جاهداً التأسيس لعلاقة متكافئة بيني وبينها ، وبين الرجل والمرأة ، وما تشكله المرأة من رموز غنية في التعبير عن : الوطن والحب والتحرر والتفاوت الطبقي ، وغيرها من مواضيع تستحق الكتابة عنها .
فزت بجوائز كثيرة لا تحصى هل تشعر بالتخمة والامتلاء أم انك تواق للمزيد مما يقودنا إلى مفهوم الجائزة الأدبية نفسها؟
لنتفق من البداية إن للجوائز الأدبية فوائد كثر ، فهي : تشجع على الكتابة ، وتعطيها زخماً ، وتدعمها ، وتروج لها ، وتزيد من تداولها ، وتحفز على قراءتها ، وتخدم القارئ كونها تنبهه إلى كتابات جديرة بالقراءة فلولا الجائزة ما كان لينتبه إليها القارئ ، وتخدم الجوائز الأدب واللغة والإنسانية في آن واحد ، والأدب أفكار ومواقف ، وليس مجرد حبر على ورق . بالنسبة لكاتب القصة ( علي السباعي ) :- لعبت وتلعب الجوائز الأدبية دور المحفز الذي يدفعني – دفعني – قدماً ، وأسهمت في إنعاش كتابة القصة عندي . لذا أشترك فيها للفت الأنظار لقصص المنسيين الذين كتبت عنهم ومنهم واليهم ، ولأن الجوائز المكان الملائم لنمو قصصي وازدهارها حين تمسك بها أنامل القراء ليطلعوا على ما عانيناه من أنقراضات ، وليتزودوا بالتجربة الحياتية التي وردت بين سطورها ، أفضل من بقائها في ظلمات مكتبتي المثقلة بقصص الناس وهمومهم لولا الجوائز ما مستها عيون القراء النهمة للمعرفة . وكوننا عرب نبحث عن المائز لنفتخر به ، برغم ذلك ستكون هنالك ملاحظات ، ملاحظات تظل مهمة ومحفزة بالنسبة لكاتب القصة علي السباعي في كتابة قصة جديدة ناجعة . الجوائز التي حصدتها أنعشتني ، وزادت من رونقي وسطوعي الإبداعي ، وثبتت أركاني ، وأعلت بنياني القصصي ، وأن القصة مثلها مثل الشعر فن الأقلية ، والجوائز تجعل أدب الأقلية مقروءاً ، وبهذا يكون مفتاحاً أو بوابةً لفهم ثقافتنا من قبل الآخر ، ويوم ذاك سيكون أدب الأقلية رائجاً وكاسحاً مقارنة بالمجتمع البريطاني المتطور حيث بلغ عدد ما بيع من نسخ أحدى الروايات الفائزة في جائزة البوكر البريطانية نحو مليوني نسخة ، ستجد الفرق واضحاً بين مجتمعات متصالحة مع ذواتها وتملك ثقافة القراءة وتقدس الكتاب والكاتب ، وبين مجتمعاتنا النائمة المقلدة المتفاخرة العازفة عن القراءة منذ أجيال ، مجتمعاتنا التي تتهافت على كتب الأبراج والطبخ والغيبيات مقارنة بمجتمعات غربية ما برحت تشجع أطفالها على قراءة نحو ثلاثين كتاباً في السنة . مثلما يقول الشاعر الكبير نزار قباني : ( أكثر الكتب مبيعاً في الدول العربية هي كتب الطبخ وتفسير الأحلام ، وهذا دليل أننا امة تأكل وتنام . . . ) ، ثم ما يجعل للجوائز الأدبية معنى في حياتي الأدبية هو : أنني مؤمن بالقصة ودورها الفاعل في بناء عقل الإنسان ، وحبي للقصة يجعلني أراهن على أنها من سيرمم الذاكرة الجمالية للإنسان المغيب قسراً .
كيف تتعامل مع التاريخ كقاص ؟
أفضل تعريفات التاريخ ما وضعه أبن خلدون الذي يعتبر أحد المؤسسين لهذا العلم في صورته الحديثة ، حيث قال : ( إن التاريخ في باطنه هو النظر والتحقيق وتعليل الكائنات ومبادئها ، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها ) ، ولأن الأمم والشعوب حسب إدوارد سعيد هم : ( حكايات ، ومرويات ، وسرديات رسمية ، وسرديات هامشية ، ويظل يتصارع الهامش حتى يصبح هو نفسه في لحظة ما في المتن حتى تتمكن سردية أخرى من إزاحته ) . نحن نعرف التاريخ على أنه تسجيل محايد للأحداث التي حدثت في الماضي ، ووصفها ، وتفكيكها ، وربطها ببعضها البعض ، ودراستها ، وتحليلها ؛ بغية التعرف على سنن الحياة ، وحقائق التاريخ ، مما يساعد على فهم الحاضر ، والتخطيط للمستقبل ؛ بتلافي الأخطاء التي وقع فيها أسلافنا على هذه الأرض . التاريخ بالنسبة لكاتب القصة القصيرة ( علي السباعي ) ، بعد أن قضى اثنان وثلاثون عاماً في كتابة القصة ، التاريخ : كنز حقيقي ؛ يحتوي على خبرات إنسانية متراكمة . أوظف التاريخ في قصصي لأهميته التي يجنيها الإنسان عندما يقرأه ؛ أخذ الدروس والعبر من الماضي ، أن التاريخ يساعد إنسان اليوم على معرفة جذر المشاكل التي وقع فيها ، والتحولات التاريخية الكبيرة ، والواضحة ، والخفية ، ووقف نزيف الدماء حول العالم . كتب عميد الأدب العربي ( طه حسين ) مقدمة لكتاب " فصول مختارة من كتب التاريخ " التاريخ حسب رأي عميد الأدب العربي : ( يوشك أن يكون لوناً من ألوان الأدب ، لأنه يعطيك حقائق الواقع كما هي ... ) . نصيحة عميد الأدب العربي ( طه حسين ) لطلابه بكلمة واحدة : " شغل عقلك " . لذا أستلهم التاريخ في قصصي لأقترب من الحقيقة ، ولأخبر من كتبت القصص عنهم ومنهم وإليهم بنصيحة عميد الأدب العربي : " شغل عقلك " . تكمن المشكلة الكبرى في التعامل النظري مع التاريخ ، على غرار ( حدث في مثل هذا اليوم ) ؛ وكأن التاريخ سجل كبير يحتوي على الأعوام والأحداث فقط ، وقد سببت هذه النظرة السطحية للتاريخ الشلل لأمتنا ، وحرمتها من الاعتبار من أحوال من سبقونا ، ومعرفة كيفية النهوض من جديد ، وإتاحة الفرصة لمن أكتب لأجلهم ، ليستخلصوا الخبرات التاريخية من دراسة الأحداث التي وقعت في الماضي والسياقات التي ارتبطت بكل حدث منها .
إحدى حواراتك قلت أن :- (التفاصيل اليومية لما خلفته الحروب على أناس الهامش في بلادي هي التربة الخصبة التي نشأت فيها ومنها تغذت قصصي، إذ تقع أغلب أعمالي القصصية في قعر حياتنا الساخن، قعر عشت نهاراته ولياليه بكل تفاصيلها علني أجد تفصيلاً كئيباً، تفصيلاً مثيراً، تفصيلاً مطمئناً، تفصيلاً مغرياً، ) يا حبذا لو سلطت الضوء قليلا على هذه التجربة ؟
مرَّ اثنان وثلاثون خريفاً على كتابتي للقصة القصيرة ، كنت شاهداً حياً أدون المقصي والمهشم والمنسي والموءود في دروب حياتنا بكل وباءاتها الماحقة لإنسانيتنا ، وأخذت عهداً على نفسي بأنني يجب أن أكتب الحياة العراقية بمشاكلها وسعاداتها ، دون تزويق أكتب القصة ، وكما يقول عبقري القصة أنطوان تشيخوف بأنها : ( القطفة من الحياة ) ، كون هذه القطفة القصة من الحياة فتحت عيني على سعتهما وجعلتني أرى العالم من حولي ، عالم الأوهام والأكاذيب التي تسير الكثيرين من الناس الذين عرفتهم ، القصة جعلتني أضيء ما تبقى من حياتي من أجل أن أكتب قصصاً أجنب فيها الناس الأوهام والأكاذيب ليعيشوا بتفاؤل .
كيف تتعامل مع الزمكان في القصة وفي الآن نفسه تستدعي المخيلة التاريخية بأريحية وتوظفها في أعمالك القصصية ؟
كل ما سأذكره يتيح لي توظيف التاريخ وبأريحية في قصصي ، كون الفكرة عن الزمن مندمجة دائماً بفكرة المكان فيما يسمى ب: ( الزمكانية ) كصورتين متداخلة إحداهما بالأخرى بعلاقة تحايثية ومن ثم بوجودهما المتصل أصلاً بوجود الكون والأشياء كإحدى ركائزه الأساسية . بيد إن الزمن والمكان يعملان معاً ويؤديان وظيفة ديناميكية كوحدة متصلة في القصة ، إذ لا يمكن تصور حدث ما ، دون التخيل لمكان حدوثه المحتمل أو الفعلي أو استيعاب زمن منفلت عن أطره المكانية . إن المكان ينقسم فنياً على بعدين : واقعي وسردي ، إي المكان الفعلي للحدث ومكان تصويره وصفياً ، وهما بالطبع صورتان لواقع واحد ، الأولى جامدة " فوتوغرافية " ، والأخرى جمالية " حسية " ، وبالنسبة للزمان إذ إن تقنية النظام ألزماني تخضع عادة لمهارة القاص وقدرة الإدارة والتلاعب فنياً بمفرداته عبر تقنيات السرد الحديث كالقطع ، وهو عملية اختزال الزمان ومن ثم القفز والتداعي أو الإنثيال الحر ، والرجوع فيما يسمى (( الفلاش باك )) أو الاستباق وغيرها من التقنيات الأخرى . وتقنيات القص الحديث وإمكانياته الهائلة كفن قائم بذاته ، وثمة في الواقع زمنان ، زمن الحكاية وزمن السرد ، فزمن الحكاية منطقي يسير وفق تسلسله الطبيعي من الماضي نحو الحاضر إلى المستقبل ، أما زمن السرد فهو مختلف تماماً وحيوي ومدهش ومفاجئ لأنه متحرر من جهود تلك القيم الواقعية بل يطفو فوقها ، وفي ذلك تكمن إحدى أهم الأسرار في جماليات القص وسحره وذاك بالحقيقة ما يميز قصة عن أخرى وقاصاً عن آخر عبر المقدرة في محاولة التحكم ومدى التوفيق بقيادة الخيط الزمني الدقيق وربطه بخيط المكان في النسيج الداخلي ( البناء ) وشد جميع الخيوط الزمكانية المتلونة بشعور القاص نحو الخاتمة بالتخليق لأشخاص وأحداث تنبض بالحياة لتتشكل في النهاية من خلال القصة لوحة ذهنية رائعة .
رغم وجودك في الناصرية فأنت تتحدث عن اغتراب دائم حدثنا قليلا عن هذا الاغتراب ؟
أن تكتب : أن تكون وحيداً . ولدت أغلب كتاباتي تعبيراً عن العزلة التي عشتها ولازلت أعيشها . إذ تجدني أعيش الناس في الشوارع الخلفية لمدينة الناصرية لأكتبهم ولأحكي عنهم القصص ، أعيش غربتهم وغربتي وسط هذا البؤس الذي يحاصرنا ، وأحقق توازني الذاتي بما أكتبه من قصص بصوت عال صادح غريد خارج جوقة المطبلين للقبح والخراب والظلم ، ومن يكتب بصوت عال يبقى وحيداً ، والسعي إلى الكتابة ، كتابة القصة غربة ما بعدها غربة في مجتمع يؤمن بالخرافات ، هو تحدي العزلة ، تحدي قلق العزلة في مدها وجزرها ، والكتابة الإبداعية إنعاش لواقعنا المزري . وككاتب قصة أعيش بين مد الألم الذي يعصف بنا وجزر العزلة التي تحيط بي محاولة مني لاستثمارها إبداعياً ليخضوضر نخيلنا ثانية بعد يباس وبجمال أخاذ .

ليست هناك تعليقات: