بقلم: عبدالعزيز دياب
أوان القتل
أنا قاتل....
نعم . أنا قاتل، هوايتي القتل لكنني طبال،
والضرب على بطون الطبول مهنتي الأصلية، يصيبني الملل كثيراً لأن الأفراح شحيحة،
فوجدتني أقتل، شعرت بذاتي وانضبطت بعدها نقراتي على الطبول.
لا أتذكر أول مرة قتلت فيها....
أدرك جيداً
أنني لا أحتاج أسبابا للقتل، أنا اقتل فقط، أقتل فتتوهج نقراتي على بطن طبلتي،
اقتل فتصبح كفى ساحرة، تكون ساحرة وهى تنقر على بطن طبلتي لأنها تقتل، تقتل بمهارة
وخفة نقرة مباغتة، نقرة واحدة تشيع جملة موسيقية وتذوب وسط اللحن.
الناس من حولي أشاعوا أنني قاتل من ظهر قاتل ،
الذين أشاعوا ذلك لا يعرفون أنني وعيت على هذه الدنيا فوجدتني هكذا بلا أب أو أم،
تماماً كما وعيت على هذه الدنيا فوجدتني طبالا، كأني ولدت من بطن أمي- التي لا
أعرفها ولم أرها- قاتلا وطبالا، قاتلا ليطبل وطبالا ليقتل.
أنا قاتل....
نعم. أنا
قاتل ، أقتل في وضح النهار، في عين الشمس، الكل يشهد على جرائمي، وأنا أيضا أقر
بها، تمتد على يد العون، بعد أن تسلمني الضحية نفسها، تمتد إلىَّ يد بسكين. خنجر.
بلطة. مسدس، تمتد في ود، تترك بجواري بسمة تشجعني، تمتد يد أخرى تقدم لي منشفة
لأمسح آثار الدم، تمتد أياد كثيرة، تزيح جسد الضحية من عرض الطريق على جوار
الجدران.
أنا قاتل...، بعد أن أنفذ جريمتي تنطلق
الزغاريد من الشرفات، يطلب منى الشهود أن أقدم مقطوعة، أشعر بأن كفى أصبحت أكثر
سحراً منها في ليالي الأعراس وهى تنقر على طبلتي، أشعر بأن أجساد الراقصين من حولي
على نقرات طبلتي قد أصبحت أكثر غنائية، وفى مرات كثيرة تمتد ليلة القتل، تمتد
كليلة من ليالي الأعراس.
أنا قاتل....
نعم. أنا قاتل وجميع الخدمات يقدمها رجال
البلدية على الرحب والسعة إزاء ضحيتي، ينتشلونها من جوار الجدران، يزيلون آثار
الدم، فيما تمر دورية الشرطة لمتابعة الموقف بأن إجراءات القتل قد تمت بسلام.
أنا قاتل وتشهد على مهارتي الجرائد والمجلات،
البرامج الإذاعية والمرئية، لا اعرف كيف يعرفون أوان القتل عندي فيهرولون بالعدسات
السحرية، يسجلون لحظة من عمر الزمن، لحظة أنا الذي اقتنصها لا استطيع استعادتها
إلا مع حالة أخرى، أنا القاتل المتوج بالنياشين والأوسمة على صدري.
أنا قاتل....
نعم. ولأنني القاتل الوحيد في المدينة، أصبح
العبء ثقيلا على، طغت هوايتي على مهنتي، ولولا تلك المقطوعات التي أقدمها للشهود على
شرف ضحاياي لتيبست يدي وفقدت سحرها.
أنا القاتل الوحيد، أرجوكم أن يسير كل شيء
بنظام، الكل سيأخذ دوره في القتل، أنا القاتل الوحيد، أعلن عن حاجتي إلى قتلة
مساعدين.
هاجس قتل
أشرقت الروح المنغلقة داخل حيز ضئيل، عندما
توهم صاحبها بأنه قاتل، وأدوات القتل التي بحوزته توهم أيضا مسيرتها الجماعية إلى
بئر دم لترتوى منه.
.. مسيرة جماعية؟!
يبدو أنه سمع هذه العبارة من قبل: في محاضرة .
ندوة. بل سمعها في نشرة الأخبار، كان المذيع لامعاً مصقولاً، يهذى بهذه العبارة،
مسرة جماعية للبشر. للكلاب. القطط، لا يتذكر أية فصيلة من هؤلاء نسب إليها المذيع المصقول
سيرها الجماعي، بات يتخيل أنه سيسمع- عندما ينهض من نومه- ضجة بالخارج تشده ليطل
من النافذة. الشرفة. خرم بالباب. شق بالحائط، ليشاهد قطيعاً من كلاب أو قطط. بقر
أو ماعز، جمال أو حمير في مسيرة جماعية، وأنه سيسمع قائدها- ولتكن مسيرة كلابية-
يهوهو بشكل حماسي ينزع القلوب من الصدور، حتماً ستنتهي المسيرة الكلابية على قصر
منيف تتم أمامه أحداث ساخنة.
مسيرة جماعية لأدوات القتل، أن يمشى المسدس
إلى جوار الخنجر، إلي جانب السكين، إلى جانب النبوت، إلى جانب السم....، لو قال
ذلك المذيع المصقول لصدقه المشاهدون، فلا غضاضة أن يتخيل صاحب الروح التي أشرقت
كشمس الشتاء مسيرة جماعية لأدوات القتل التي بحوزته إلى بئر دم لترتوى منه.
معه حق صاحب الروح، فلا يصح أن يكون شراب أدوات
القتل هو الماء. الكوكاكولا. الشاي. عصير القصب. الشامبانيا...، حتما هي لا ترتوي
إلا من بئر دم، كما أنه لا يكفيها كوب. زجاجة، يقولون- ولا أتذكر ممن سمعت هذا
كلام- إن القتل يجلب القتل، الدم يجلب الدم، فلن يرويها إذن إلا بئر دم.
إلى هنا
يسير صاحب الروح التي أشرقت في طريقه الصحيح، هو توهم أنه قاتل، وأن بحوزته أدوات
قتل عديدة، وأن أدوات القتل هذه قد ارتحلت في مسيرة جماعية إلى بئر دم لترتوى منه،
يسير صاحب الروح إلى أن باغته السؤال كضربة شومة على مؤخرة رأسه:
ستقتل من...؟!
من تفوه بهذا السؤال؟ الرجل يجدف في نهر وحدته
يتوهم فقط أنه قاتل، وأن أدوات القتل....، إذن تفوه به عفريت. جني. طيف عابر حط في
المكان، فبدأت معاناة صاحب الروح التي انطفأت الآن عندما تعثر في الإجابة عن
السؤال، انطفأ المكان من حوله عندما مر عليه يوم. يومان. شهر. شهران.
رغم كل هذا لا يزال هاجس القتل يراوده، حتى
نهض من نومه ذات صباح واكتشف أن كفيه ملطختين بالدماء.
لذة القتل
الصباح البكر هو الوقت الأنسب إن أردت أن تكون
قاتلا، هل سبق لك أن قتلت؟ معذرة فالمئات بل الآلاف قد مارسوا هذا الفعل، "ريا
" و"سكينة". "خُط " الصعيد، الكثيرون غيرهم كانوا يقتلون
بشكل تقليدى فج يخلو من اللذة، تلك اللذة التى عليك أن تبحث عنها وأنت تسدد
الطعنات. تطلق الرصاص...
للقتل لذة يا سيدي- ولا تتعجب- تفوق لذة تساقط
أخبار الآخرين فى حجرك، تفوق لذة هطول صفعات أنثى ذات حسن وجمال على خديك، كل
القتلة السابقين لم يفكروا فى الحصول على هذه اللذة، أما أنا - أعوذ بالله من هذه
الكلمة- أبحث لك عن هذه اللذة لأهديها إليك.
الصباح البكر- كما قلت لك يا سيدي- هو الوقت
الأنسب لكى تكون قاتلا، وإذا قُدِّرَ وسبق لك القتل- معذرة- لن تستطيع أن تصل إلى اللذة
التى أحدثك عنها، لأن القتل سيكون بالنسبة لك هو فقط إراقة دم، إزهاق روح، سيكون ذلك
راسخاً فى أعماقك، معوقا لأدائك فتفتقد الإبداع فى الطعن، أو الرمي بالرصاص، أو
حتى الرمى بالحجارة.
أريدك صفحة بيضاء غير ملوثة، عجينة طازجة
أشكلها، أقول لك إن الصباح البكر هو الوقت الأنسب، وملعونون. ملعونون أولئك الذين
يقتلون فى الليل. في الظلمة، هم أقرب إلى الشياطين، أما يكفيهم أن ضحاياهم سينتقلون
على أيديهم إلى ظلمات فوقها ظلمات فوقها...
الهم. الفكر. الوساوس. كلها بالتأكيد أشياء
تعوق عملك، يمكنك أن تتخلص منها عن طريق حمام دافيء، لحظتها ستكون مؤهلا لأن تطعن
أو تطلق الرصاص كأنك تعزف على عود أو قانون، يمكنك أن تقَبِّل زوجتك وأولادك- هذا
إذا كان لك زوجة وأولاد- وأنت في طريقك للخروج بقلب سليم، لا يحمل أية ضغينة أو
حقداً لأحد بما فيهم من ستقوم بقتله، هذا جلباب جديد يناسب قوامك وتكوين جسدك
الريان، وذاك عطر أرسله لى صديق بالخارج، أما إطلاق البخور فلن أحدثك عنه، هذا لأنه
طقسك اليومي، لكنني أضيف: عليك أن تطلقه بغزارة، بغزارة شديدة تضعك فى الحالة التى
نبحث عنها .
القتل يا سيدى ليس معناه العداء أو الكراهية،
هذا ما توصل إليه الحكماء، بل هذا ما توصلت أنا إليه قبل الحكماء. والقاتل ليس عربيداً. مجرماً.
سفاحاً، هذا لأن أناس كثر- وأنا واحد منهم- هم الذين يرغبون أن يمنحهم القتل لذة، تلك اللذة التى يتذوقها كل من القاتل
والقتيل.
ولأنك يا سيدى لم تختلف معى فى شيء، فعليك أن تخوض
تجارب عديدة للوصول إلى ماتصبو إليه، عليك أن تلاحظ أن الشارب الغليظ. الملامح
التي دهسها حافر حمار. والصوت المذبوح. العاهة التي في الوجه من أثر طعنة شرسة.
نظرة العينين، هذه مواصفات لست بحاجة إليها، ما هى إلا مواصفات تقليدية يقيسون بها
جودة القاتل، لكن الأمر هنا كما ذكرنا يختلف، انظر إلى هذا الجرو الصغير، تلك
القطة، ذلك العصفور، الشحرور، الكروان...، كلها كائنات صالحة لأن تدرب نفسك عليها
للحصول على لذة القتل، تماماً مثلما علمتك قبل ذلك كيف تدرب نفسك على الأحلام، كيف
تلفظ- وأنت نائم- أحلامك التي لا تروق لك، وتستدعى أحلامك التى تود أن تراها...
في النهاية لن أعلمك كيف تكون لذة القتل، كيف تقتل
وأنت تغنى على روح قتلاك أغنيتك التي تحبها، هذا متروك لخيالك، متروك لإبداعك، أنت
وما تفرضه عليك الظروف، المهم أن تحصل بشكل أو بآخر على لذة القتل.
الآن أنظر إلى هذا البيت، نعم. هذا البيت
المطلى باللون الرملي، ذلك الذي يقع عند تقاطع الشارعين، وينبح بداخله كلب، لا يفزعك
نباحه- عندما تدخل- فهو مربوط بسلسلة متينة، الساعة السادسة صباحاً كل يوم يغادر
البواب مكانه لشراء الجرائد والمدمس واللبن، تاركاً بوابته مفتوحة، تسلل فهذه
اللحظة المناسبة، ستجد باب شرفة الطابق الأرضى مفتوح ككل يوم، لا تتردد فهذا هو الطريق
الوحيد والأسهل لدخول البيت، عليك أن تتفادى الطاولة المزدحمة ببقايا سهرة الأمس،
اصعد إلى الطابق العلوى ، ستجد كل الحجرات مغلقة عدا حجرة واحدة ، تلك هى الحجرة
التى ينام فيها واحد يشبهنى تماماً، معه ستكون مبدعاً وتشعر بلذة القتل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق