اليوميّ
في " تقاسيم الفلسطينيّ" لـ : "سناء الشعلان"
بقلم:عبّاس سليمان / تونس
لكم تأسرني هذه النّصوص التي تجعل من اليوميّ مادتّها .
لكم تأسرني هذه النّصوص التي ترى القوّة والإبهار والمعنى
في التّفاصيل التي نعيشها كلّ يوم لا في التّحليق بعيدا حيث العدم وحيث اللاّمعنى وحيث
اللاّشيء .
ولعلّ من بين هذه الطّائفة من النّصوص ما تبدعه الدّكتورة
الأديبة سناء شعلان التي أبانت كتابتُـها عن وفائها للمحلّي وللهمّ اليوميّ. فلعلّها
أدركت أنّ المحلّية هي السّبيل إلى معانقة العالميّة وأنّ القضايا الكبرى تكمن في التّفاصيل
اليوميّة وأنّ الأديب لا يكون أديبا إذا صرف النّظر عمّا يعايشه كلّ يوم ليكتب في ما
يشبه الهذيان الذي لا يستسيغه أحد ولا يضيف المتعة ولا يحقّق الإفادة ولا يدوم له ذكر
.
في "تقاسيم الفلسطيني"، * تصبح الحياة الفلسطينيّة
بفضل نصوص سناء شعلان متاحة للجميع ويصبح الهمّ الفلسطينيّ عامّا لا يقتصر على من يعيشه وإنّما
يتعدّاه إلى من يكتبه ومن يتلقّاه قراءة أو سماعا . ولعلّ في ذلك وظيفة من وظائف الأدب
.
أليس الأدب أدبا لأنّه يسجّل فنيّا التّاريخ مضطلعا بمهمّة
حفظ ما أغفله المؤرّخون؟
أليس الأدب أدبا لأنّه يتسلّل إلى تفاصيل النّاس فينقلها
والى أفكارهم فيصوّرها والى مشاعرهم فيخرجها ؟
أليس الأدب أدبا
لما يؤمّنه من تأثير ومن تعاطف ومن إقناع ومن انفعال فيكون بذلك مساهما بطريقته في
تغيير الأفكار والمجتمعات والسّياسات وفي الرّبط بين ضفّتيْ الحياة، الضّفّة التي يحياها
المجتمع، والأخرى التي يطمح إليها ؟
ولكَم كان وفيّا هذا العنوان"تقاسيم الفلسطينيّ"لما
لحقه. فالنّصوص استطاعت أن تصوّر ببراعة كلّ التّقاسيم ما كنّا نعلمه منها وما لم نكن
نعلم . فمن تصوير أنواع النّضال إلى أشكال الاستشهاد، إلى سبل التّكفير عن الخيانات،
إلى ما يبرهن على حبّ فلسطين والإيمان بها وطنا وتاريخا ومنارة عزّ وكرامة، إلى علاقات
تشابكت ومصالح تضاربت ومشاعر تمازجت، إلى ما يجعل كل هذه اللّوحات لوحة واحدة لها تأثير
واحد وانطباع واحد وهدف وحيد ...
لقد عدّدت سناء شعلان ونوّعت التّقاسيم في هذه النّصوص حتـّى
بدا الوجه الواحد الذي هو وجه الفلسطينيّ جامعا لها كلّها متّخذا هويّته من اجتماعها
فيه ، وما أجمل أن تجتمع في وجه واحد تقاسيم كثيرة هي الوجع بأنواعه وهي مقاومة ذلك
الوجع وهي استشراف حياة أخرى لا وجع فيها .
هذه هي الكتابة الآسرة، الكتابة التي تجعل كلّا من الكاتب والقارئ شريكين
في قضيّة واحدة إحساسا وإيمانا وأهدافا .ثمّ تتعدّى الشّراكة الإحساس والتّفكير إلى
جانب آخر هو الجانب الفنّي فيجد القارئ نفسه كاتبا آخر أو كاتبا ثانيا يكمل ما بدأه
صاحب النصّ أو يثريه ويغنيه أو يجعل له خواتم أخرى ويفتحه على مصائر جديدة .
هذه هي الكتابة الآسرة، الكتابة التي تجعل القارئ يتخلّى
عن حياده وعن سلبيّته وعن جهله وعن بروده فيجد بذلك نفسه بين أن يستحضر التّاريخ أو يتأثّر
او يقتنع .وفي هذه الحالات الثلّاثة، يحقّق الأدب ثلاث وظائف هي العودة إلى
المرجع في علاقة بالتّاريخ والأحداث الحقيقيّة التي حواها والانفعال في علاقة بالتأثّر
و الإيعاز في علاقة بالإقناع.
وقد تحقّقت عبر هذه اللّوحات الوظائف الثّلاثة ، إذ لم تخلُ
كلّها من إحالة على أماكن حقيقيّة وأشخاص حقيقييّن وتواريخ وأحداث صحيحة، ولم تخلُ
كلّها من التّأثير في متلقّيها الذي سيغادر وهو يمارس فعل القراءة حياده العاطفيّ ليصبح
منفعلا ومتعاطفا بشكل مّا ، وهو ما سيؤمّن
الوظيفة الثّالثة التي هي وظيفة الإقناع والتي سيصبح بفضلها القارئ مؤمنا بقضايا الكاتب
مهووسا بأفكاره ورؤاه .
وفي هذه المجموعة القصصيّة تصبح القضية الفلسطينية هي المستفيد
الأهمّ ممّا كتبت الكاتبة وممّا تلقّى القارئ ، وبذلك يغادر الأدب الوقوف عند تحقيق
المتعة والتّسلية والتّلهية ليصبح وجهة نظر ويصبح موقفا ويصبح شاهدا على التّاريخ وعلى
العصر ومشيرا بإصبع الاتّهام إلى المتخاذلين الذين لا موقف لهم ولا يعوّل عليهم .
هذه هي الكتابة الآسرة، الكتابة التي تُخرج اليوميّ من محليّته وتجعل من
تفاصيله همّا مشتركا. ولعلّ ذلك ما أتاح لهذه
النّصوص أن تدوّل وتدوّن وتنشر بأسلوبها الأدبيّ قضيّة ما فتئت تشغل العالم منذ عقود
هي قضيّة فلسطين . ولعل هذه اللّوحات التي
مثّلت حبلا فنّيّا ربط بين من يعرف الفلسطينيّ
ومن لا يعرفه إلاّ سماعا وبين من يدرك همّه ومن لا يعتقد أنّ له هموما أصلا أقامت الدّليل
على ذلك .
شكرا للكاتبة سناء شعلان على توظيفها التّاريخ في الأدب وعلى
حفظ الذّاكرة الفلسطينيّة لا في نصوص تاريخ قد تكون باردة بلا معنى بل في لوحات أدبيّة
تمتلئ حرارة وتأثيرا وصدقا.
شكرا للكاتبة سناء شعلان التي آمنت بقضيّتها فسخّرت لخدمتها
جنسا صعبا فالتقت صعوبة القضية بصعوبة الجنس - جنس الأقصوصة- وأفضى ذلك كلّه إلى كتابة حرّكت القارئ وجعلته متفاعلا
منخرطا في ما قرأ وفي ما يجري حواليه من أحداث جسام .
شكرا للكاتبة سنا شعلان التي رغبت عن كتابة نصوص لا تشبهها
ولا تشبه واقعها ولا تشبه هواجسها إنّما اختارت نصوصا تحكيها وتروي مآسي حقيقيّة لا
رغبة في تدوين المآسي بل للحثّ وللحضّ على تجاوزها إلى الضّفة الأخرى، الضفة التي تطمح
إليها حيث النّصر وحيث العدل وحيث حياة لها معنى .
*شعلان (سناء)، تقاسيم
الفلسطينيّ ، مجموعة قصصيّة، دار أمواج الأردنية للنّشر والتّوزيع، العاصمة الأردنية،
عمّان، الطبعته الأولى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق