2010/06/17

دراسة نقدية في ديوان آيتي .. أن أكلم الناس لـ عبد الرحمن الأبلج






ديوان آيتي .. أن أكلم الناس لـ عبد الرحمن الأبلج
دراسة نقدية



د.عرفه عبدالمعز




عبد الرحمن الأبلج صوت شعري شاب طالعنا بمخطوط ديوانه " آيتي .. أن أُكلِّم الناس " ليقدم لنا خصائصه الفنية المائزة له متفردًا بذلك عن بقية الموجة الطليعية في الشعر الحداثي وإن كان في الوقت ذاته لا يبتعد كثيرا عن آلياتها الفنية ومضامينها الفكرية.
يتوقف الأبلج في مغازلته للشعر في منطقة الباحث عن ذاته وسط خضم من التجارب الكثيرة المحيطة به ؛ إنه يلجأ إلى التراث ليمتح منه مفرداته ومظانه الفكرية ، وهو إذ يفعل ذلك يفعله دون تجريح بخس في ثقافته بل ليحولها إلى مفردات وتراكيب تحمل نكهة الإدهاش الشعري الممزوجة بخصائص الشعرية الخاصة الكامنة في ذات الشاعر تلحظها عبر الطاقة التعبيرية الموحية في كلمات الديوان وقصائده ، وهذا ما جعل الأبلج يبدو مختلفًا عن مجايليه الذين آثروا منذ بداياتهم ركوب موجة الحداثة الشعرية ممثلة في صاحبة الصيت الذائع أو قصيدة النثر ، أو تأثر بعضهم بفكرة الخلط بين آليات التفعيلة والنثر باعتماد المألوف والعادي ليكون تكأة فنية تصنع بلاغة القصيدة ، فنجده وهو يقدم ديوانه الأول يبتعد كثيرًا عن هذا الضجيج الصاخب ليخلو بنفسه مع الشعر في دأب محاولا من خلال ذلك تكوين رؤيته الخاصة.
إنه يستعيد في هذه التجربة الروح التراثية عن طريق تتبع فكرها الإبداعي الذي أقامت عليه فاعلية خطابها الشعري عبر رحلة طويلة من الإبداع أثمرت ذائقة ممتدة ، وتمثلت هذه الآلية في شفاهية هذا الشعر في مقابل بصرية الشعر الحديث ؛ فتجد الديوان يتكأ على الأصوات اللغوية الفخمة التي تولد روح الإنشاد في الشعر الغنائي العربي ، ثم يتحرك في أطر شكلية كاستخدام الشكل الشعري لكتابة الموشحة الأندلسية كل ذلك ليركب مزيجًا جديدًا من ذاته وليصنع بلاغة شديدة الخصوصية لقصيدته.


• قـداسة البنـاء
تتمدد هذه القدسية لتتلبس البناء العام للديوان ؛ فمنذ اللحظة الأولى للقراءة بل من قراءة العنوان يستدعي التوقع روح التماهي بين وظيفة الشاعر ورسالة النبي ؛ فالنبي يُحدِّث بخبر السماء ، والشاعر يُحدِّث بخبر النفس.
كذلك فالعنوان " آيتي .. أن أُكلِّم الناس " يختزل موقفًا خلفيًّا تمثل في طفولة تنطق بعين الحق المعجز ، والتي كان في نطقها براءة أكيدة للسيدة مريم أمام اتهامات اليهود ، ثم يأتي عنوان " لحن لشيخ عبقري " لينسبه إلى وادي عبقر حيث الإلهام الشعري المباشر الذي يتغنى بسرد الحب في هذه القصيدة ، وما بين الطفولة المستمدة قوتها من السماء في العنوان الخارجي ، والشيخوخة المستمدة حكمتها من الإلهام الأرضي يأتي التأمل الظاهر في الأبعاد الفكرية المقدسة في بناء الديوان.
ولا تتوقف فكرة القداسة على العنوان فحسب بل تظل منتشرة في القصائد لتستنزل المقدس التراثي بشقيه الديني والأدبي لتطرح من خلاله لغة الديوان التي لا تُفضي إلا إلى لغته ، ولتثبت أن واقعه داخلي محض لا يُفضي إلى واقع خارجي بأي حال ، وهو عندما يُحيل إلى هذا الواقع إنما ليصنع عالمًا جديدًا خاصًّا به على منطق النبي والشاعر ؛ فالغاية الأولى من استدعاء كل هذه الخطابات البحث عن الذات ، ثم بث الألفة التي يبحث عنها المتلقي وسط نصوص الحداثة التي تعتمد التغريب إلى حدود بعيدة مما يجعل المتلقي يستشعر الطُّمأنينة بأنه يعيش بين معارفه ؛ ولذلك يتأمل الشاعر في كتابته ليبدأ من الحرف في دفقته الشعرية الأولى وكأنه يتأنى في تأمل التفاصيل الصغرى ليكون كائنا لغويا جديدا يتكون لأول مرة في محيط الكلمات السابقة عليه حيث يقول:
وحيدًا ..
أُقسِّم رزق السُّطور الصِّغارْ
أُعانقُ فيك النصوصَ ..
وأغرسُ مَعناكِ ..
أجني من الكلمات الثمارْ
وحين تشاء الصفات ..
أجمع شعب الحروف على شفتيَّ
وينفجر الصخر عشرين عينًا
فتعلم كل القصائد مشربها ..
وهواكِ العصا في يديَّ ( ص3 )
إن المخاطب في هذه القطعة هي الأنثى / اللغة التي تختزل معاني النماء والخصب ، وتتنقل الذات بين السطور والنصوص والمعاني وجني ثمار الكلمات حتى تصل إلى مرحلة الاكتمال اللغوي ، وهنا يأتي المقدس المتمثل في قصة سيدنا موسى عليه السلام مع بداية تكون موطن بني إسرائيل الذي يوازي بداية تكون الديوان ليتحول المقدس إلى لغة شعرية غضة تقطر الحروف والكلمات والموسيقى منها إليها يقول:
" قاف .. لام .. ميم "
ألم تسأمي من بقائكِ بين صفوف الحريم؟
إذن ..
فاتركيني أُفصِّل أسطورة لا تليق بغيرك ..
لا تزني الشعر قبل اكتمالك فيما أقول:
فعولن / فعول
وأنت ارتقاء ابتهالي .. وأنت النزول
فعولن / فعول ( ص3 )
هذه الأسطورة التي تريد الذات صنعها إنما هي الصياغة الشعرية الخاصة التي تبحث عنها كي يواصل الديوان النمو مع القصائد الأخرى في بقيته مثل: يورق الشعر ، خطى ، تتمهلين ، أحاول رصد الذي كان.
ولعلَّ أهم ما في هذه التناصات هو اللجوء إلى مفردات القرآن الكريم والنظر إليها بوصفها مكونا من مكونات معجم اللغة ومادتها قد أكسبها السياق القرآني قدسية خاصة ، وبمنطق الصيرورة تم تشعيرها ثم توزيعها في الديوان ، وهذه الألفاظ مثل: عروج – المعارج – الروح – رؤياك – سدرة الحب – عرشه الماء – الأمي – زلفى – معصرات – الأعراف – هلكى – ولي – ضرارًا – عرفات التأمل – صلاة – خشوع – أسحار – سجدة – قرة العين – مستقر لها – رؤياي – العاديات – الأهلة – الوصايا – ولا هم هنا يحزنزن – سندس – عدن – من خلاف – خمسين عينًا.
وهذه الألفاظ موزعة على قصائد الديوان بغية ضخ المعنى المقدس للشعر يقول:
رؤياكِ أُحجية الولوج ..
وسدرة الحب المقدس ،
عرشه الماءُ
لا .. لست آخر واصلٍ
باب القبول ممدد بين المشارق والمغارب ،
باسمٌ في وجه من جاءوا
لكنني الأمي:
علمي من رسول العشق مورده ،
وبيتي في اتكاء الأرض ممشوقٌ ..
وكلٌّ لامتثال الأمر مشاءٌ
للصابرين عطاؤهم ؛
لكنني ما كدت أتلو " صاد " صبري فيكِ ..
حتى ضجت " الراء " !! ( ص13 )
ففي هذا المجتزأ تُؤطر رحلة المعراج في محيط الشعر ويكون الهدف الأول هو تشعير هذه المفردات في سياقها الجديد الذي يصنع من الذات رسولا للعشق ومن الشعر وحي وإلهام ، وقد هيأ ذلك لانفتاح أفق الدلالة ذلك أن المخاطب في كل قصائد الديوان هي الأنثى التي تفتح أفق التأويل ليشمل اللغة والحرية والعدالة ... إلخ ، حتى تصل الذات إلى مرحلة تقديس هذه الأنثى عن طريق ممارسة طقوس خاصة في الولوج بها إلى داخل القصيدة حيث يقول:
ويداي تنضح بالرجاء إليكِ :
يا ألم الشفاء ..
ودفء صولات الشتاء .. ( ص27 )
فهي هنا تحتمل الحرية التي لا تأتي إلا بالكفاح والألم ، وابتهاله واضح إليها في تكرار فعل الرجاء في القصيدة نفسها يقول:
ويداي تصرخ بالرجاء إليك :
يا برد العواقب ..
لم يعد في النهر ماء ،
لم يعد في الشعر ماء ،
لم يعد ماء لأن الماء دشنه الحرس ! ( ص28 )
ويصل هذا الإيغال مع الحضور الأنثوي في القصيدة إلى أوجه عندما تتمثلها الذات ظاهرة معلنة فتناجيها قائلا:
إنه أنت ..
يا آيتي في كلامي إلى الناس ،
يا فرجًا بعد طول احتباس ،
ويا عَدَنًا مِلْؤها سندسٌ وفواكه عشق .. ( ص45 )
وعندما تنتقل لعبة التناص إلى اجتراح المقدس الأدبي فإنها تدخل في غماره وتستجيب لهاجسه يقول:
هذا الهوى متسلسلُ
هذا الهيام مسلسلُ
لابد أن يأتي المصير ويستعيدك منزلُ
فألف سواها يا فتى ..
فلقد دعاك الأولُ ! ( 15 )
فهو لم يزد على النبرة الإنشادية شيئًا في قول الشاعر:
نقِّل فؤادك حيث شئت من الهوى ما الحب إلا للحبيب الأول
سوى أنه أسدى النصيحة إلى هذا الفتى !!

• التجربة .. رفض التجربة
التجربة الإبداعية دائمة التمرد على أية قيود تعرقل مسيرتها ، وتحدُّ من انطلاقها ومن ثم فهي تتحسس طريقها في رفقٍ وأناةٍ وهي على يقين من أن في طريقتها الصواب الفني ، وكل ما حولها من تكهنات لن تفيدها بشيء ؛ ومن هنا جاءت المقولة الشهيرة وهي أنك في عالم الأدب " لا تأخذ نصيحة من أحد " ؛ لأن الإبداع تواق باستمرار إلى الخوض في أراض بكر ، وهو يلهث وراء ذلك ويكد له كل الكد.
ولقد حاول الأبلج أن يكوِّن لنفسه جلدًا شكليًّا جديدًا استمده من التراث الأندلسي خاصة ، فهو إذن يرغب في التجريب ولكنه يرفضه في الوقت ذاته ؛ إنه ينبهر بالتجربة الأندلسية في صنع الموشحات ويرفض ما قدمه الشعر المعاصر بأكمله فقد رفض التجارب البصرية المدخلة على ماء الشعر الحداثي مثل تقنيات السينما ، وكذلك رفض التنويع الحداثي في القصيدة النثرية ، وفي لجوئه إلى الموشحة انقلب عليها وقرر أن يأتي بشكل موشحي جديد ، فهو يخرج من القلب الحداثي ويلفظه ، ثم يهيم بالقديم ويتمرد عليه في الآن ذاته ، وما ذلك إلا لرغبته المُلحَّة في البحث عن خصوصيته الفنية.
والقصيدة الوحيدة التي حملت هذه التجربة هي " لحن لشيخ عبقري " حيث يقول:
كوني على الآيات آية .. وارو المقاصد والحكاية
ما كدت أن تبدين .. حتى داعب التاريـخ نايـه
سخَّرتُ فيكِ سيادتي .. فلي الرفـادة والسقايـة
لي أن أحبك خارج القانون .. أن أرضي انتشايه
فليعلموا أني أنا الشيخ المقيم على الغواية ( ص18 )
هذا هو القفل الأول الذي بُنيت عليه موشحة الأبلج ، والذي يُسجِّل انتماء الموشحة إلى النوع التام ، وهو مُكوَّن من تسعة أغصان كان يجب أن تتكرر في باقي الأقفال – على المنطق الشكلي للموشح التام – ولكنه خالف في بقية الأقفال فجاء في القفل: 2 ، 3 ، 4 بغصن واحد ، وفي القفل الأخير ( الخرجة ) بثلاثة أغصان.
وإذا تأملنا الأدوار ( الأبيات ) فسنجد أن الدور الأول مُكوَّن من تسعة أسماط وكان يجب أن يتكرر العدد في بقية الأدوار ، ولكنه خالف فجاء الدور الثاني سبعة أسماط ، والدور الثالث ثمانية أسماط ، والدور الرابع أربعة أسماط.
كذلك خالفت الخرجة فلم تكن على منطق الشكل الأندلسي بحيث تكون أجنبية أو عامية أو فصيحة على الترتيب في القيمة الفنية.
نحن إذن أمام خمسة أقفال وأربعة أبيات ؛ ولهذا اقترب الموشح من التام لأنه بدأ بالقفل ، وابتعد عنه لأن أقفاله وأبياته ناقصة عن عدده وهو ستة أقفال وخمسة أبيات ، وكذلك قارب الأقرع في عدده ؛ إذ الموشح الأقرع خمسة أبيات وخمسة أقفال.
ولكن لماذا آثرت الشعرية هذا الشكل دون غيره ثم خرقت قواعده بهذه الصورة ؟
إن إجابة هذا السؤال تُفجِّر أسئلة أخرى من قبيل:
من الذي يتكلم في النص ؟
ما الخاصية المهيمنة على الديوان ؟
أي نوع من الشعرية يتجلى في الديوان ؟
إن طبيعة التجربة هنا تواقة إلى رصد الأنثوي في كل صوره التي تبدأ من الصوت وتنتهي بالتركيب ثم تنطلق إلى الحب والعشق والحكي ، والقصيدة الموشحة تستحضر هذا المعنى ؛ إذ تستمدُّ صوتًا قديمًا ليكوِّن حلفًا سرديًّا مع الأنثى المطلوب منها الصدح بفعل الحكي عنه:
وارو المقاصد والحكاية
ومن ثم جاء الشكل الموشحي الذي طالما قرأناه يتغنى بمعاني الولع والصبابة والحب ؛ إنها إذن شعرية الولع باللغة والحرية والحياة ... إلخ.

• من المفردة إلى الدلالة
يتركب الديوان في مركزه الأساسي من آلية مركزية تسيطر على دلالاته البلاغية وهي التكرار ؛ إذ تستحوذ هذه الآلية على كامل الديوان بداية من أصواته اللغوية وانتهاء بتراكيبه وغاياته الفنية ، ويتضح ذلك من خلال حصر الألفاظ التي تشتمل على المعجم اللغوي لقصائد الديوان بأكمله لتعمد الشعرية تكرارها وهذه الألفاظ هي: الليل، يا بحر، شره دعائي للوصول إليك .. منتبه ندائي، يا دار آنسة، ولا يكفُّ، غداة، لي أن أحبك خارج القانون .. أن أرضي انتشايه، أولم يسيروا حيث سرت ؟!، زلفى بمن خلع العمامة، لم يعد، أخبريني، لك القلب، زهرتان، يا، ضحى، بالذي، الجميلة، أيها الحب، من تحب.
والمتأمل لهذا الحشد اللغوي سيكتشف أنه موزع بين حروف مثل: يا ، ومفردات مثل: الليل، الجميلة، زهرتان ، وتراكيب خبرية وإنشائية كونت جميعًا اللبنة اللغوية والدلالية للديوان ، والطرافة لا تأتي من مجرد حشد هذه المفردات وحسب بل يأتي من الرغبة في الإلحاح عليها من الذات لتضعها في صياغة منتجة عن طريق آلية التكرار ؛ ففي قصيدة "اكتمال الليل" يتم الإلحاح على هذه المفردة فيقول:
الليل .. فلاح
في غرة الأشهر ..
الليل في أرضه ..
ينمو النخيل/الناس
الليل ..
في فلك الإيهام دوار
الليل ..
يغرقنا في لجة من رؤى
تروي بصائرنا
فلا نرى بعدها إلا مصائرنا
الليل قبل ليلاه .. فأنجبنا !! ( ص 7،8،9 )
يبدأ كل مقطع من مقاطع هذه القصيدة بمفردة الليل ، وقد قمنا بإثبات هذه الاستهلالات ؛ فما بعد اكتمال الليل في العنوان إلا انبلاج نور الصباح وهذا هو المعنى البلاغي الذي تطرحه هذه القصيدة المتصاد مع المعنى المعجمي للمفردة وهو الظلام الدامس الذي يُؤخذ منه معاني القهر والقمع ، ولكنه هنا ظلام نُسجت فيه روح النمو والرؤى التي تبشر البصائر مما يجعل الليل يوازي الإنجاب والأمل.
ولعلَّ أهم ما في الديوان من تكرارات هو التكرار الصانع لدائرية القصيدة حيث يقول:
شره دعائي للوصول إليكِ ..
منتبه ندائي
متوثب أملي ..
دءوب خاطري ..
لهفى دمائي
.........................
.........................
شره دعائي للوصول إليكِ ..
منتبه ندائي ( ص12 )
إن هذا التكرار لجملة " شره دعائي " في بداية القصيدة ونهايتها قد جعل الجمل اللغوية لاهثة متتابعة المفردة في إثر المفردة مما يجعل المتلقي يتلقف إيحاء التوالي النظمي للجمل والتي ساعدت في إظهاره تتابع التفاعيل مما ولد الروح الإنشادية الكامنة خلف التكرار الدائري.

هناك تعليق واحد:

غير معرف يقول...

كنت أتمنى أن يكون الديوان أكثر إتقانا مما جاء عليه ، لكنني الآن أشعر بالغبطة لظهوري على مدونتك وانتمائي للحركة الثافية في الفيوم .
شكرا لك سيدي .