2011/05/29

إبراهيم حمزة يكتب : مجموعة " كناريا" لأحمد الخميسي وفن الطلقات الناعمة

مجموعة "كناريا"
لأحمد الخميسى .... وفن الطلقات الناعمة
بقلم: إبراهيم محمد حمزة
فى صقيع ديسمبر 2010م صدرت مجموعة قصصية بعنوان "كنارى " للمبدع د. أحمد الخميسى ، عن سلسلة " كتاب اليوم " ولكن فرحة استقبال هذا المولود الأدبى الجميل غطتها فرحة استقبال مولود أهم ، أعنى الثورة التى انتفضت بها أمتنا ،لتكتب قصة قصيرة جميلة تزين تاريخ مصر الطيبة .
فى مجموعة " كنارى " ستجد التبشير بالثورة عبر عدة قصص ،سنجده واضحا ، لكن الفن يفوق السياسة بكل تأكيد فى هذا العمل ، ليس مجديا مطلقا استخراج شهادة وطنيةٍ لكل مبدع من خلال قصيدة أو قصة أ رواية تنتقد الوضع العام سابقا ، لكن الأجدى السؤال : كيف رصد المبدع هذا التدنى السياسى فى مصر وقتها ؟
ـ عصافير الخميسى وخيوله :

تضم المجموعة عشرين قصة ، مغموسة كلها بحس إنسانى رفيع ، قدم لها القاص محمد المخزنجى ، مؤكدا أننا أمام كاتب كبير ، ينهض على روح متعفف ، وثقافة واسعة عميقة ، ثم إنه يمتاز بتواضع صادق حيال ما يكتبه ، وشك فى كمال المنجز وهما سمتان من فضائل أى كاتب حقيقى " .
تتصل قصص المجموعة اتصالا روحيا وثيقا عبر لغة هامسة متدفقة ، لغة شاعرة ، بدون تدفق الشعر ، كأنها لغة نبوءات مختصرة وعميقة وموحية ، يكاد أبطاله يعيشون مشاعر واحدة متصلة ، فأشخاص "الخميسى " يعانون وحدة مخيفة ، هذه الوحدة تظلل حياتهم ، وبجوارها يقبع الانتظار القاتل ، دائما هناك انتظار مالا يجىء – كما يعنون فاروق شوشة أحد دواوينه – بل سنجد الانتظار نتاجا للوحدة البادية على سحناتهم القلقة المتوترة .
فى القصة الجميلة التى تحمل عنوان المجموعة ، يبدع الخميسى لونا نادرا فى أدبنا العربى الذى يتناول الطير والحيوان ، بسبيل يختلف عن " كليلة ودمنة " وأشباهها ، تصوير الحيوان والطير باعتباره جزء من الحياة الإنسانية ذاتها ، أى فى علاقته بالناس ، لكن "الخميسى " يلتقط ملمحا باهرا ، إنه يشخصن بعض أبطاله ولو لم يكونوا بشرا ، مثلما سنرى فى قصته الفاتنة التى عنونها بـ "قصة " ، نعود لـ "كنارى " لنتوقف مع الراوى ، يحدثنا كيف امتلك "عصفورة صغيرة " من بين ستة مليارات إنسان ، وبين ملايين الجبال والبحور ، وعدد هائل من الكواكب والنجوم" لكنها تتحول لحياة كاملة ، يقول لها تصبحين على خير ، وتقول هى له :يا سبعى ،تراه يستحم ، فتقول له " تمساحى فى النهر " حتى يصل الأمر لتقول له "الجو صحو .. هيا بنا نطير " ورغم معارضته ، فهى" تقبض بمخالبها الصغيرة الدقيقة على ياقة قميصي ، وترتفع . تقوم بدورة كاملة في الجو غير بعيد عني ، تزقزق ، تدخل وتخرج من سحابة إلي أخرى، وتهبط ، وتعلو ، وأنا أتأملها . ثم تحط أخيرا على الأرض حيث أقف وتصيح بنشاط وهمة"
قصة فخمة فى لغتها وفى فهمها لطبيعة فن القص ، قصة صاخبة بالرؤية ، معجونة بفلسفة رشيقة ، إنها تصور شعورا بالاغتراب فى عالم مسكون بستة مليارات من البشر ، ورغم ذلك فليس لدى الراوى سوى (فقط عصفورة صغيرة ) ثم حين تنطلق العصفورة ، وكأنها حبيبة قادرة على الحلم لحبيبها والانطلاق معه إلى غد مبهج ، نجد حاجات الإنسان تبدو يسيرة حتى لا تتخطى الحب ، حين تقول عصفورتنا لحبيبها الضخم الهائل (لا تخف يا صغيري . لا شيء ولا أحد في الغابة قد يهددك . أنا معك . نم . ) . وقدم فى قصته "حصان أحمر " طرقا رشيقا للأسطورة ، حين تغلف بفنية الحلم والحكى .

ـ رشقات ناعمة :

كما أنه يستحيل على الكاتب أن يتخلى عن رؤاه الفكرية فى إبداعه ، فمن المستحيل أيضا أن يقدم الفن هذه الرؤى مجردة ، من الضرورى أن يكون الفن – بتعبير د. عبد العزيز حمودة – " ليس تعبيرا عن الحياة ، بل إضافة وتنمية لهذه الحياة " .
الأدب السياسى يكون – كما يقول ستندال – مثل طلقة فى حفل موسيقى صاخب ، تكون فوضوية ولكن ضرورية لجذب الانتباه " .
فى عدة قصص يرتفع النداء السياسى رائقا بارعا ، فى " محاكمة " يستطيع القارىء أن يرى بوضوح تام كيف ينتهك العدل على كافة المستويات ، نحن فى محكمة ، نرى "حازم الشيبانى " فى قفصه محبوسا ليحاكم أمام القاضى على تهم كثيرة منها " الاستيلاء على قطعة ارض لجاره حسين الصباح ، وشبهة حيازة سلاح بدون رخصة ، وعقده صلات مريبة مع جماعات المتطرفين ، واستبداده بأهله ، كل ذلك وغيره يجعله الآن يقفا منكسرا بعدما كاد يقتل على يد " السيد العجمى " ، وهو الشاهد الوحيد الذى يطلب الدفاع منه الحديث ، ليروى كيف توجه لقتل " الشيبانى " بعدما أزعج من حوله وتضخمت ثرواته ، خاصة أن جيران "الشيبانى يستنجدون سرا بالسيد العجمى ، الذى يأتى ليقر العدل كما يتصوره .. بينما تتواصل إجراءات المحاكمة ، يقوم القاضى ، ويرفرف من خلفه طرفا عباءته كطائرين أسودين يتخبطان فى الفضاء " .
الرموز فاضحة بشكل ربما فيه قدر من المبالغة ، قدر من التهاون الفنى مع القارىء ، القصة معالجة رهيفة لمأساة العراق بعد غزو صدام ، ثم ضرب أمريكا للعراق ، ونهب ثرواته ، ثم محاكمة صدام ، بداية من اختيار الكاتب لأسماء شخصياته ، سنرى "حازم الشيبانى " أو صدام حسين التكريتى ، ثم جابر الصباح فى ثياب شخصية الخميسى " حسين الصباح " ثم القاتل "السيد العجمى " نعم هو السيد ، وأمريكا هم العجم غير العرب ، ثم نخطو خطوة مع ادعاءات السيد الأمريكى المتغطرس الكاذب ، بأنه يقيم العدالة والحرية .
طرح مواز دقيق للقضية الأصلية ، جاءت رغم الوضوح الزائد ، مسايرة للحدث لى مستوييه : القصصى والسياسى ، تلملم القصة إزارها ، لتغطى كراسى السياسة ، وفضائح أطماعها ، حتى تمد السياسة ساقيها فى وجه قارىء القصة ، بينما نجد التسامى الفنى فى قصص أخرى أكثر تخفيا ، وأهنأ بفنها ، مثل "ليلة مبهمة "، "انتظار " ، " بدلة " و"نظام جديد " .
أبطال القصص الثلاثة مغسولون بسوءات السياسة تماما ، لكن قصة "انتظار " تقدم نموذجا فذا للرؤية العميقة المتشوفة ، لكن التوقع السياسى أمر يختلف تماما عن التوقع الفنى ، ويكمن الاختلاف فى كيفية إبداء هذا التوقع ، ومدى عمق الرؤية ، فى هذه القصة العذبة ، نجد شخصا يتوقف ، صامتا ، ليعلن انتظاره لشىء ، ويوما بعد يوم يأتى له كل المتعبين والمساكين والعاطلين ، ليمارسوا فن الانتظار المبشر ، وحين تفرق عصى الشرطة الجمع الصغير ، يسيرون دونما اتفاق بعيدا عن القاهرة ، ويجلسون فى دنياهم يتبادلون حكايات عن مليارات تسرق ، وفتيات جميلات تزين جلسات الآخرين ، وحرائق تلتهم وثائق خطيرة ، إلخ
الرجل الأول الذى بدأ الانتظار ، صعد إلى تل ، وزرع فيه خرقة صغيرة على عصا ، بدت صغيرة جدا ، ثم تشتد بقوة وترفرف علما على طين يختلج بالانتظار "
القصة واضحة فى رقة شاعرية بهية رقيقة ، هامسة ، ناعمة ، لكنها غاضبة ثائرة ، بدون تعال على متلقيها ، مثلما رأينا قصة بعنوان " قصة " تتحول فيها القصة أ الورقة التى تحمل قصة مكتوبة إلى شخصية من لحم ودم ، يقدمها الخميسى مغموسة بماء الفن النادر ، فن أدهشنا به الخميسى الكبير – الأب عبد الرحمن الخميسى – وواصل الدكتور أحمد رحلة شاهقة فى رقيها وجمالها ، يرتاد دروبا تزدان بحب حقيقى لفن القص . كنز نحن أمامه لكل عشاق الكنوز .


هناك تعليقان (2):

غير معرف يقول...

صديقى الأحب الأجل الأعز
الأستاذ أحمد
تخجلنى والله بكرمك
يكفى ما فى القلب شفيعا عن عجز اللسان
دمت لأخيك
إبراهيم حمزة

أحمد طوسون يقول...

قراءة رائعة
من كاتب رائع
عن كاتب أروع
محبتي الخالصة لك يا صديقي العزيز وللدكتور أحمد الخميسي