د. علاء عبدالمنعم
صدر حديثًا عن الأكاديمية الحديثة للكتاب الجامعي كتاب “بلاغة القصة” لثلاثة من النقاد الأكاديميين وهم الدكتور أحمد يحيى والدكتور الأديب علاء عبد المنعم والدكتور أحمد عبد العظيم، وبتقديم الأستاذ الدكتور سيد محمد السيد قطب أستاذ الأدب والنقد بكلية الألسن جامعة عين شمس الذي يقول في تقديمه للكتاب يضاف هذا المصنف القيم إلى مكتبة النقد الأدبي في مجال الدراسات السردية بعامة وفن القصة القصيرة بخاصة, ليجاور ويحاور واثقا هؤلاء النبلاء الذين شغلوا بجدارة أماكنهم في البنيان النقدي بأعمال سابقة لها دور محوري في مرجعية هذا الشكل الأدبي مثل يحيي حقي الأب الروحي الذي وضع القصة القصيرة موضع التأمل بروح مبدعة وذهن متوقد وقلم رشيق في “فجر القصة المصرية” ورشاد رشدي بلمسته العالمية ورؤيته البانورامية في مصنفه عن القصة القصيرة وشكري عياد صاحب “القصة القصيرة في مصر –دراسة في تأصيل فن أدبي-” وهو من أهم الكتب في هذا الحقل لأنه يرصد العلاقة بين البنية الشكلية والظواهر الحضارية والطاهر مكي القارئ لرحلة الشكل عبر التاريخ في عمل جليل يحمل عنوان “القصة القصيرة –دراسة ومختارات-” ويوسف نوفل مؤلف “في القصة العربية” الذي يقيم جسرا بين الأقاليم العربية في إبداع القصة القصيرة من خلال قراءة متعمقة لمجموعات قصصية تعبر عن زمن الثمانينيات, بالإضافة بالطبع إلى كتابين مهمين هما “تطور فن القصة القصيرة في مصر” و”اتجاهات القصة المصرية القصيرة” لسيد حامد النساج الذي يعد الأب الأكاديمي الذي صاغ بوعي تاريخي خريطة هذا الفن وما يحدث لجغرافيتها من متغيرات وكتاب عن القصة القصيرة في الستينيات بقلم مؤسس الوسطية عبد الحميد إبراهيم الذي انطلق إلى رصد سمات هذا الشكل عند جيل له تميزه في حركة الإبداع المعاصر بعد أن درس قصص العشاق النثرية في العصر الأموي فاتحا الباب لاستقبال تراثنا القصصي بعين جديدة.
ومع ظهور مجلة “فصول” بخطابها الحداثي فرض “ملف القصة القصيرة” نفسه على أحد أعدادها في مرحلة مبكرة (المجلد الثاني/ العدد الرابع/ سبتمبر 1982م) فاحتفظ هذا الإصدار بمكانة مهمة في قراءة القصة القصيرة من منظور النقد النصي ومقولات الشكليين وإجراءات البنيويين, فأصبح مرجعا لا غنى عنه في الدراسات السردية وتحليل القصة وفتح المجال أمام الجيل الأكاديمي المجتهد لدراسة القصة القصيرة بمنهج علمي له أسسه وطرائقه الواضحة.
وهناك عمل خالد في مجال القصة القصيرة لايمكن لقارئ مثقف أن يغفله ولا لباحث أكاديمي أن يتجاوزه ألا وهو كتاب “الصوت المنفرد” للناقد المبدع “فرانك أوكونور” الذي ترجمه الدكتور محمود الربيعي بوعي الناقد الملهم الجاد الباحث عن الأصالة وهي تتألق في الكتابة الانطباعية الحرة.
وعمل النقاد الثلاثة هنا يتواصل مع الأعمال السابقة لأنه يتحرك بين الماضي والآني راصدا أشكال التعبير المتداخلة مع القصة القصيرة, وفي الوقت نفسه باحثا في قلب كل قصة عن الرؤية المميزة لصاحبها وأساليب التحاور بين الرؤى المتعددة في حالات تتفاوت ما بين التماهي والتشابك إلى التوازي والتعارض.
إن هذا العمل الثلاثي يقدم أفقا ثلاثي الأبعاد لمطالعة القصة القصيرة:
البعد الأول تقدمه الدراسة التاريخية (الخطية الزمنية) التي ترى أوجه الشبه والاختلاف بين القصة القصيرة المزدهرة في عصر الصناعة مع تدفق الصحف في زمن الطباعة من جهة والأخبار والحكايات والنوادر القديمة بما لها من قيمة في مجال التاريخ والدراما من جهة أخرى.. كما واصلت القراءة التاريخية رصد ملامح خريطة التطور في ضوء الكتابة الرقمية عبر المواقع والمنتديات والمدونات الآلية.
البعد الثاني تمثله الدراسة الوصفية التي تتابع تعدد طرائق التعبير وخصائص التشكيل في اللحظة التاريخية الواحدة نتيجة تنوع المواهب واختلاف التيارات.
البعد الثالث يتألق في الدراسة النصية التأويلية التي تعبر البرزخ الواصل بين لحظة التوهج في التحرير القصصي ولحظة الكشف في التنوير النقدي.
إن نقادنا الثلاثة: د. أحمد يحيي ود. أحمد عبد العظيم ود. علاء عبد المنعم قد فتحوا نوافذ الرؤية على أفق القصة القصيرة فانطلقت أشعة عقولهم تنير بعض المساحات الغائمة في فضاء ذاك الفن العصي على البوح, في سعي روحي ومنهجي صادق لاكتشاف المعاني البائنة الكامنة في لحظة استقلت بهويتها, متحررة من طوفان الفقد, محتفظة في الكلمات/ الرمز, بلؤلؤة الألم الإنساني المبدع الصادق الناتج عن كل تفاعل حقيقي بين الذات وعناصر الوجود المتحولة في مرايا الروح إلى موضوع للإدراك عبر شفرات البيان.. إنها عيون النقد ذات البعد الثالث ترنو إلى حقيقة القصة القصيرة بين التعبير والتفسير, والمبدع يمتلك عينا إضافية تماثل عدسة “الكاميرا” في حالة إبداع التشكيل وقد توازي الأشعة المقطعية في فعل التأويل.
ويتكون الكتاب من أربعة فصول فضلاً عن المقدمة والخاتمة، وقد جاء الفصل الأول من هذه الدراسة حاملا عنوان: غواية التكوين (شعرية السرد في القصة التراثية) وقد اعتمد الباحثون داخله محاور ثلاثة:
- الأول: خاص بالشخصية.
- الثاني: يرتبط بفضاء المكان.
- الثالث: يركز على جانب الصراع ودراميته.
أما عن الأوعية التي كانت بالنسبة لنا نماذج لما تم تقديمه من معالجات فهي: “أخبار الطفيليين” ورحلة ابن بطوطة المسماة “تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار” والموسوعة الحكائية الشهيرة “الأغاني” للأصفهاني..
ومن القديم إلى الحديث توقفت الدراسة في الفصل الثاني عند: غواية الواقع (جماليات التعبير عند محمد عبد الحليم عبد الله وإحسان عبد القدوس) وفيه سعينا إلى الوقوف النقدي المتوسل بالتأويل عند رؤية اثنين من أدبائنا في العصر الحديث في معالجتهما لبعض مفردات الواقع من خلال القصة القصيرة، وكان ما استرعى انتباهنا هو هذا الجمعي (الواقع) الذي تم اختزاله من خلال عين فردية حالمة اعتمدت الرؤية الرومانسية منطلقا لها.. ولكي تكون معالجتنا موافقة لقوام الحياة التي تتأسس على طرفين رئيسين: مذكر (رجل) ومؤنث (امرأة) يجمعهما فضاء يتفاعلان معا من خلاله، ويمثل تفاعلهما المصدر الذي تستلهم منه حياتنا نبض بقائها فقد توزعت الدراسة في هذا الفصل على محاور ثلاثة:
- ذكوري: الأنا المذكر يروي عن نفسه في مجموعة “أشياء للذكرى” لمحمد عبد الحليم عبد الله.
- أنثوي: الأنا المؤنث يروي عن نفسه في قصة “بعيدًا عن الأرض” لإحسان عبد القدوس.
- مكاني: تركز العدسة الناقدة فيه على البنية المكانية – بدرجة كبيرة – وهي تتعامل مع مجموعة “سيدة في خدمتك” لإحسان عبد القدوس..
ونحن بمنتجنا الثقافي – عموما – والأدبي على وجه الخصوص قديما وحديثا وما يلحق به من قراءات تصب في النهاية في فضاء سؤال الهوية يجب ألا نقف عند هذه الحدود وحدها بل علينا أن نتعداها إلى هذا الآخر المختلف معنا لغة وثقافة في محاولة لمقاربته من خلال فضاء تساؤلي عنوانه: من هو؟ .. لذا فقد حرصت الدراسة في فصلها الثالث على أن تستحضر في وعيها النقدي الفضاءين معا فجاء بعنوان: غواية التجريب (تقاطعات الرؤية التأويلية بين الشرق والغرب) .. وقد اعتمد بناؤه على محورين ذوي منطلق أيديولوجي هما: فكرة الآخر ذاتها التي تناولها أديب هو محسن خضر في مجموعته القصصية “سأعود متأخرا هذا المساء” المتضمنة قصة بعنوان “الآخر” والأديب الإسباني خوان خوسيه مياس الذي عالج الفكرة نفسها إبداعا في قصته “تناظر” ضمن مجموعته القصصية ” وفي جيبه المطر”..
أما عن الفكرة الثانية فهي الجنون وتم معالجتها بالنظر إلى قصة “امرأة أنا” لليلى الشربيني و”من فرط الدموع” للأديبة الإيطالية أنا ماريا سكارماتسينو..
لقد سعي النقاد أن يكون هذا الدرس المقارن نموذجا يعكس المغزى العميق لفعل القراءة الثقافي المفترض أن ينهض به كل من المبدع والمتلقي على السواء، وذلك في إطار ثنائية (الداخل والخارج) التي تأخذنا جميعا إلى حقل المعرفة المعتمد على النظر والإبصار؛ فهاهو ذا قوله تعالى في الآية الحادية والعشرين من سورة الذاريات “وفي أنفسكم أفلا تبصرون” وقوله تعالى في الآية الواحدة بعد المائة من سورة يونس “قل انظروا ماذا في السموات والأرض” إنها إذًا دعوة إلاهية للذات الإنسانية التي نالت فضيلة الخلافة للقراءة غير اللازمة التي تتعدى حدود الذات (الداخل/النفس/السياق الثقافي المحلي والحضاري الذي تنتمي إليه الشخصية العربية) وصولا إلى الخارج (مفردات العالم والآخر).. هكذا تحدد السماء شكل القراءة المصاحب لدور الخلافة المنوط بالإنسان –بصفة عامة– النهوض به وما يتعلق به من التزامات؛ فسؤال الآخر –على سبيل المثال– من هو؟ يأخذنا إلى هذه الحتمية التي تقتضي مقاربته من أجل محاولة الإلمام ببعض مفردات تجربته في علاقته بالعالم وبمن فيه من بشر يشكلون بالنسبة له آخر.. وفي هذه القراءة رحلة للاستكشاف نرى فيها المختلف معنا ومساحات الاتفاق التي يمكن أن تجمعنا؛ ومن ثم نحاول أن نضع أنفسنا في فضاء ثنائية (الناقص والموجود) ما الذي يمكن أن نستحضره منه؟ وما الذي يمكن أن نعطيه له؟.. ولعل فعل الترجمة يمثل إحدى الأدوات المساعدة في هذا المجال..
وتستقر الرحلة مع القصة القصيرة من خلال فضاء صار له صوت مؤثر مثل الأفضية الأخرى المقروءة والمسموعة والمرئية، بل ومجاوز لها في بعض الأحيان إنه الفضاء الرقمي المتمثل في الكمبيوتر والنشر من خلال الشبكة العنكبوتية (الإنترنت) التي أضحت غواية خاصة للكثيرين ينجزون بها تواصلا أكبر على مساحة أوسع من البشر ويرون فيها متنفسا يحققون به ذواتهم – إلى حد كبير – في إطار ما يعرف باسم المدونات والمنتديات.. وقد اخترنا نماذج لما تحتضنه هذه القنوات الاتصالية الجديدة من مادة قصصية ليكون منتهى الرحلة في الفصل الرابع بعنوان: غواية التواصل (نبرات من البوح الشبابي) .. ويتضمن نسقين قصصين:
- الأول: “شخابيط” وبداخل هذا الإطار القصصي الكبير إطار أصغر “لطخة بيضاء على عمارة صفراء” لمحمود محمد حسن.
- الثاني: “أرز باللبن لشخصين” لرحاب بسام.
وجدير بالذكر أن هذا الكتاب قد حاز جائزة “علاء الدين وحيد” في النقد الأدبي عام 2010، وهي إحدى الجوائز الخاصة التابعة لاتحاد كتاب مصر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق