تنوّع التقنية والتعبير في مجموعة فتاة البحر لأحمد طوسون
بقلم /عويس معوض
في إحدى عشرة قصة ، ينوع الكاتب في التقنية والتكنيك، بلغة سرد، ترقى إلى الشعر في جل قصصه ،وكأنه يرفض ما يدعيه شعراء مدرسة النثر ،ليضعهم وجها لوجه أمام لوحات قصصية لو كتب على بعضها (نص نثرى ) لأفاض النقاد في تحليلهم ، ولكنه- فقط- يسرد قصصه بلغة بالغة الدقة متقلبا بين ( أنسنة الأشياء ) أو الاستفادة من تقنية السينما، في الفلاش باك، أو الرسم بالكلمات، وإذا ما حاولنا رصد تلك التقنيات وبدأنا بأنسنة الأشياء/الواقعية السحرية ، نجد نموذجا لها متجليا في قصة( ثلاث محطات لقطار وحيد) التي يفتتحها السارد بعبارة (حاول فتح عينيه الثقيلتين ليتبصر الوقت ) فتعجب هل يتحدث عن شخص؟ ثم تفاجأ انه يحدثك عن معاناة القطار ،هذا الجماد الذي نسيه الناس رغم مرورهم عليه ، إلا أن عين الكاتب قد رصدته بوعي شديد لدرجة التوحد معه ،وإظهار معاناته في لغة بالغة الشاعرية فمثلا يقول ( السماء أسدلت شعرها الأسود الفاحم واستسلمت لنعاس أثقل جفنها ) ص77
وتتساقط الأشخاص الثانوية في القصة لدرجة أنها –فقط –تساعد في رسم صورة أرادها الكاتب لتكمل المشهد (وجوه المسافرين تجمدت من البرد والصقيع والانتظار تحت التندات الرمادية ) ص78
ويتوحد هذا القطار/الإنسان بالبشر ليعانى من الزمن معاناة البشر منه (احدهم ضربه على كتفه ليفتح أبواب قاطراته )ص78 كما يتوحد القطار بسائقه فيشعرك الكاتب أن السائق جزء من القطار، وان لم تكن قارئا واعيا لوقعت في اللبس، وظننت أن السائق جزء من القطار (يصعد بقدم واحده درجة السلم ويمسك بالعمود الحديدي ويجذبه ناحيته ليدفع بجسده إلى مقعد القيادة وينحشر بين مسنديه )ص80 ثم بعدها بعدة اسطر (الديزل الكهل استند على عكازين ) ص81، هي إذا معاناة لهذا الديزل الذي يقطع رحلته بين الأودية والعواصف والمطر لا يشعر به الناس، أو حتى بوجع أحشائه التي تمتلئ بالبضائع فتصبح الصورة :القطار = بؤرة الحدث
الأشخاص= مكملات المشهد ،الراوي يتوارى خارج الحدث ليصف الحدث نفسه، في لوحة مبهرة للعين ، هذه اللوحة التي حاول الكاتب –مع اختلاف الفكرة – طرحها في قصة أخرى هي قصة العنوان (فتاة البحر)هذه الجملة التي تصلح أن تكون خبرا لمبتدأ محذوف لإبراز أهمية الخبر ،ليبرز من خلال الحدث الوحدة والوحشة التي يعيشها البطل في حجرته/ الطلل هذا الشخص الذي يظهر من خلال تداعيات القص انه فنان ،فهل هو حالم بالأنثى الأنيس ،هل هذه الأنثى وهم أم حقيقة ؟ كلها وغيرها أسئلة يطرحها الكاتب ويتركها لخيال المتلقي بعد أن رسم بقلمه اللوحة القصصية (كحوريات الحواديت القديمة تجلس عارية أمام البحر )ص53 فهي واقع يشبه الخيال، وهى خيال حقيقي عندما لا يرها إلا بطل القصة (لا احد يراها غيري من حجرتي التي ظنها العابرون طللا )ص53 ولعل المتلقي يلمح الوهم الإنساني في تلك اللوحة /القصة، عندما يذكرنا البطل /الراوي (منذ سنوات لم تتلون فرشاتي بالحياة ،صقيع الموج نحل خيوطها الصقيع /الوحدة الصمت )ص،55 ومن هذه اللوحات السريالية، يتنقل الكاتب كالفراشة بين تقنيات جديدة، كالرمز في قصة (السيرة السمعية لأذن مواطن صالح ) وينبغي التأكيد على كلمة(السيرة) وكأنه يضعنا من خلال العنوان إلى انه سيحكى لكم رمزا لأذن مواطن صالح ،مواطن ونكرتها التي تفيد العموم ووصفه بكونه صالح، له دلالاته على ان كل مواطن صالح له نفس المصير ،فالواقع الملوث جعل هذا المواطن يصم أذنيه –كما أراد له الكاتب – لأنه رافضا له رغم محاولة التأقلم معه وفشله، (شاركهم بعض النميمة المتداولة على شاشات الفضائيات عن نجوم كرة القدم أو نجوم الفن)ص57 وهو –على حد وصف الكاتب، لم يسترح لمسحة الحقد الطبقي التي بدت في حديثهم وفى البيت، هو مطارد- أيضا- من زوجته، التي أصبحت تثور لأتفه الأسباب، رغم اعتياده احترامها له ،طلبها المتزايد للمال،مطاردته – وهو مواطن صالح – حتى في الشارع وسفالة سائقي التكتك، كل ذلك كان دافعا لان يصم أذنيه ،ويخلط الكاتب بين الوهم والواقع ليجعله يذهب إلى الطبيب ليغسل له أذنه ،من هذا الوسخ الذي يداهمه ؛لتتزاحم علي إذنه كل هذا الزخم الذي بات يرفضه " الضحكات المغوية ،أصوات باعة ،كركرة أطفال ،خرير مياه .مئات الشتائم آلات تنبيه"، ليصاب بالهوس في نهاية القصة ، فهو يطلق صرخات محذره في العمل أو البيت أو مع الأولاد من كثرة هذا الزخم الذي امتلأت به أذنه (حاسب :استر يا ستار:خد بالك :لاحول ولا قوة إلا بالله)ص65 ومستفيدا من لغة السينما ( الفلاش باك ) يصدر لنا الكاتب لوحة جديدة في قصة (كادر خارج المشهد )ليعلنها واضحة من العنوان ،اننى استفدت من هذه التقنية ،حتى في اختيار العنوان نجده يتكون من كلمات (كادر) (مشهد)، فهذا الموظف الذي خرج إلى المعاش، يتنقل به الكاتب بين خروجه من المعاش، وبين خروجه من المعركة- من خلال تقنية (الفلاش باك)- وقت الحرب، ليصبح كلا الخروجين ،لا يحمل منه إلا بقايا ذكرياته (طلقات من العدو ،ساعة من المعاش أهداها له زملائه ) بعد إصابته بنكسة إضافية، اقصد نكسه نفسية رغم عبوره مع الأبطال في حرب 73، تتجلى هذه النكسة عندما ذهب ناحية النهر، وعرف أنهم يحتفلون بعيد النصر، وسأل شابا: إن كان يعرف مصطفى هاشم ؟ فيجيبه الشاب مصطفى هاشم مين ؟ مصطفى هاشم وغريب محمد ومحمد عبدربه وعم غزال ؟ ليفاجأ بسخرية الشاب : ودول يطلعوا مين بيغنوا ولا ناس من أيام أبو الهول ؟ وبين الساعة/ بدلالتها الرمزية، والزمن الذي يمر لينساه الناس، يعزف الكاتب ملحمة إنسانيه رائعة، لهذا الإنسان الهامشي، الذي خرج بعيدا عن كادر المشهد، لينفرد بوحدته ويغنى بصوت مسموع (وعضم ولادنا نلمه نلمه ونعمل منه مدافع)ص76 وفى( تعريشة سندس) يتأثر تأثرا كاملا بالسينما، ليقدم لنا مشهدا سينمائيا لبطل باحث عن الرزق خارج البلاد، وراء البحر وتدبيره للمال اللازم لسفره ، وصديقه الذي باع كليته من اجل جمع المال اللازم للسفر ، السفر بطريقه غير شرعيه، وعندما يغرق المركب ، يحتمي كل منهم بلوح خشبي في عرض البحر، ويقول بطل القصة :(لابد أن أحدا سيأتي لإنقاذنا )ص28 وان كانت هذه القصة اقل القصص إحكاما، وسريعة الأحداث، كان الكاتب متلهفا لمشهد النهاية، الذي هو أشبه بنهاية فيلم أجنبي لاثنين في عرض البحر ،وان غلفها الكاتب بتلك المسحة الإنسانية لمعاناة البشر والقهر والرغبة في الفرار إلى ما وراء البحر .
وفى تقنية جديدة- أيضا- ضمن التقنيات التي يتقلب بينها المؤلف، مبرزا مهارة في امتلاك الأدوات، تأتى قصة (فوبيا الجغرافيا )و يصبح الراوي، هو الراوي العليم الذي يحرك أشخاصه كيف يشاء هذا الرجل /البطل الذي اصطنعه المؤلف، والذي نزل بمنزل، يشبه المنزل الذي صنعه الكاتب لبطل قصته كما يقول: (رأيتني أقف أمام واجهة منزل يشبه كثيرا المنزل الذي أخذته سكنا لبطل قصتي )ص99، وتتمادى الأحداث لهذا البطل الذي ذهب للحصول على جائزة ،ونزل بهذا المنزل الذي بقربه تسكن جارته الفاتنة ، وعندما يقرر الخروج وتصيبه فوبيا الجغرافيا يدخل – أو يدفعه شعوره- إلى الدخول إلى منزل جارته التي تكيل له السباب بلغة أجنبية وفى خضم الأحداث، يصبح البطل هو الراوي، وتسير القصة على نسق واحد حتى النهاية بضمير البطل /المتكلم حتى نهايتها، هاربا منه خيط الكتابة داخل الكتابة، باستثناء بداية القصة (تلاشت المسافة ما بين الواقع والخيال حين توقف الباص الذي حملني من المطار )ص99 ثم الجزء الثاني في نفس الصفحة –وقبل أن يدلف إلى أحداث القصة –يقول :(كنت اعرف أن مرافق بطل قصتي كان حانقا عليه حين سأله......) ص99 وان كنت أرى أن الكاتب أراد أن يهرب من كون الحدث حقيقة حدثت للكاتب فأراد الهروب من تصديقها بان صدر قصته بهذين المقطعين ثم تناسى الخيط ليتمادى في السرد بضمير المتكلم دون أن يتدخل مره أخرى حتى نهاية القصة .
وفى تقنية جديدة يطرح الكاتب أروع قصص المجموعة (ما لم يحدث بعد) إذ يقدم صورة رائعة لمشهد لم يكتب بعد ،فهذه العلاقة بين الموظف وزميلته، يشوبها الشغف والاحترام حتى يموت زوجها فتستجيب لرغبتها وتقع في فخ ودودات زميلاتها، في لفت نظرها، إلى الزميل الأعزب فيتبدل حال الزميلة ،ويجب التنويه إلى اللغة الشاعرة، التي صاغ بها الكاتب جل قصصه ،إن لم تكن كلها (هذه المرة إحداهن صرحت بالمغذى ..وضعت أحجار الحزن في طريقها لتتعرقل فيها ....) ص44 وما بين العنوان،( ما لم يحدث بعد) ، ونهاية القصة (اخرج سيجارة أخرى وأشعلها ،سحابه كبيرة من الدخان والصمت خيمت على سقف الحجرة )ص47 هنا تساوى القصة المكتوبة (صفر )، لأن القصة الحقيقية يجب أن يكتبها المتلقي بعد هذه اللحظة /النهاية ،وهو ما أشار إليه الكاتب بذكاء في العنوان ، وكأنه يطرح تكنيكا لرواية رقميه ،يطرح فيها الكاتب ، ليكمل المتلقي الحدث، أو يترك الخيال لعنان القارئ ليتخيل ما لم يكتبه الكاتب أو ما لم يحدث بعد.
وهكذا يتنقل الكاتب برقة الفراشة، وتقنيات المبدع المتمكن، ليطرح رؤيته لأساليب كتابة، لعلها هي الخيط الرابط لتلك المجموعة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق