قراءة في رواية " الأقدس " لأحمد قرني :
تقاطع حركة المكان والزمان والإنسان في بنية السرد
د.مصطفى عطية جمعة
تتقاطع خيوط عديدة في العالم السردي لرواية أحمد قرني " الأقدس "([1]) ، مما يجعلنا نطلق على بنيتها " بنية التقاطع " ، والتي تصل إلى حد التلاحم . وهذه التسمية ناتجة عما يحفل به السرد من شخصيات وأحداث وأفكار ورؤى سياسية ومذهبية ودينية. وربما كانت شخصية الشاب السارد / بطل الرواية " سراج "، وتكوينها سببا في هذا التقاطع ، فهم ينتمي لعائلة الواجدي ، حيث رحل الجد أو مات ولم يعرف قبره ، ورحل الأب الذي شارك في معركة 1967 مع العدو الصهيوني، ولم يعد ، وهاهو البطل يعيش مع أمه في منزلهما منطقة " كيمان فارس " على تخوم مدينة الفيوم . جاء التقاطع على بعدين : بعد وراثي من العائلة، حيث الجد كان منتميا لجماعة الإخوان ، وتعرض في سبيل ذلك لزائري الفجر ، والاعتقال، وتعسف أمن الدولة معه . مما جعلنا نعايش جانبا من فكر الإخوان المسلمين وكتاب الرسائل لمرشدها " حسن البنا " ، والذي أهدي إلى البطل من جاره الإخواني حسين قاسم ، والذي تعرض هو أيضا للتنكيل والاعتقال أمام زوجته وابنه([2]) وصممت الأم على أن يرجع الكتاب المهدى إلى صاحبه، وأن يبتلع الإحراج الذي ينتج عن ذلك . كما نرى في سيرة أبيه الأسير لدى إسرائيل منذ العام 1967م ؛ تفجيرا لقضايا الأسرى وهو ملف شائك يخز القلوب.
أما البعد الآخر فهو شخصي ، ويتعلق بشخصية " سراج " نفسه ، فنرى عرضا لفكر البابية والبهائية من خلال حبه لـ " ولاء " التي تنتمي لعائلة تؤمن بهذا المذهب ، ونجد في متن الرواية الكثير من المعلومات عن هذا المذهب ، وللمفارقة، فإن عنوان الرواية جاء حاملا اسم الوحي المزعوم على من يسمى "البهاء حسين " ([3])، وربما تتحور دلالة العنوان من الأقدس الديني ، إلى الأقدس النفسي ، واحترام حق الإنسان في الإيمان بما شاء ، والتعبير عما يشاء ، وتقديس هذا الحق ، دون اعتقال أو قهر. أيضا في هذا البعد ، نجد علاقة البطل ولقائه مع سعيد عقرب وما وجده لديه من عالم آخر في الريف ، وما سمعه من محاورات سياسية ، ولقائه ثم تنقله مع صائد الحيات والأفاعي " حسين حرب "([4]) ، ورحيله في الجبل ، وما عرفه عن اعتقال جده وتعذيبه في سجون عبد الناصر ، وحزب الوفد القديم والنحاس باشا .
أراد السارد من خلال هذه البنية عرض حزمة من الأفكار والتيارات الفكرية ، وربما أحسن صُنعا باختياره حفيد الواجدي وعائلته لعرض هذه الأفكار، إلا أنها سببت ترهّلا سرديا ، وحتّمت على المؤلف الضمني أن يورد كثيرا من المعلومات المباشرة عن هذه التيارات ، منها على سبيل المثال ما ذكره مطولا عن البهائية ([5]) ، وما ذكره عن التجربة الناصرية وما فعله امبراطور الصين قديما، حين أمر ببناء سور الصين العظيم، وحرق كتب التاريخ السابقة ، ليبدأ التاريخ الصيني به هو وحده ([6]). وأيضا وصف لأحداث زمنية متتابعة مرت على الجد والبلد والوطن ، أملا في احتواء هذه الأفكار . كما يجد المتلقي أن الرابط بين هذه الأفكار أو التنسيق بينها غير ذي تأثير وفاعلية ، حتى لو كان البطل سراج / الراوي هو الخيط المباشر في ذلك ، لقد رأينا قضايا الوطن والاعتقال والأسرى ، تتجاور مع البهائية وفكر الإخوان المسلمين ، وليبرالية الوفد ، والذود عن التجربة الناصرية ، وأيضا حياة الأفاعي وعالمها ، مما جعل الذهن يكد كثيرا أملا في وجود آلية فنية للجمع بينها بشكل فني ، بعيدا عن الرغبة في فتح ملفات لقضايا عديدة تاريخية وآنية ، وربما يصدق عليها وصف " اللوحة السيريالية " التي ذكرها المؤلف في سرده .
ويمكن أن تقرأ هذه اللوحة بوجه آخر ، فهي دالة على مناخ فكري في الوطن، فيه كثير من الأفكار والمذاهب المتصارعة ، بأن الوطن عندما يغيب كقيمة في النفوس ، فالكل يحتمي بما انتمى إليه أو توارثه من أفكار وفلسفات وعصبيات .
وجاءت المحصلة ، إدانة لجيل كامل ، عاش أحلاما عظيمة ، تهاوت أمام عينيه ، فوجد الموت سبيلا لإنجائه ، يقول حسين حرب مخاطبا الحفيد " سراج " : " نحن جيل انتهت أحلامه ، لم يعد بوسعه أن يحقق شيئا ذا قيمة ، ربما اختار جدك الموت .. جيل انتهى يا سراج ، جيل فعل ما بوسعه لكنه فشل .. جدك صمد إلى آخر وقت ، أما نحن، فقد انشغلنا بحياتنا وتفاصيلها التافهة " ([7]) .
* * *
" البنية الحركية " هي العلامة المميزة لبناء الرواية ، فمنذ الأسطر الأولى ، نجد السارد مسافرا إلى قرية " قصر رشوان " في مركز طامية ، وما بين حركته في المكان ، ترتد كثيرا ذاكرته إلى ولاء الحبيبة ، والأم المنتظرة أن يعود بأوراق ملكية البيت ، لتقدمها إلى الحكومة التي أرادت وضع يدها على بيت الأسرة في كيمان فارس . مرت السويعات بطيئة على السارد ، فيما تعصف بذاكرته الذكريات بدءا من طفولته ، وذكرياته عن الجد والمنزل ، ولقائه بحبيبته ولاء في حديقة منزلهم ، ويتوقف التداعي مع حركته ولقائه بالناس في القرية . فبنية الحركة تتسم بالحركة النفسية ، حيث نفسية البطل ورؤاه تصبغ ما يرى ويصف، مثلما جاءت حركته الجسدية فوارة بالحماسة أملا في الفوز بأوراق ملكية البيت ، وأن يلتقي بأناس عرفوا جده عن قرب ، في المعتقل والحياة ، وسمع منهم الكثير الذي جعله يفتخر بجده ، ويسترجع ذكرياته معه . أما حركة الزمان ، فهي متباطئة ، وربما هي ناتجة عن حرص المؤلف الضمني أن يقدم رؤيته السردية شاملة لتكتمل المشاهد والمعلومات لدى المتلقي ، وهذا أوقعه في الوصف المتتابع والتسجيل الأمين لكثير مما يرى ، وأيضا توثيق بعض المعلومات .
واللافت أن المكان متحرك أيضا ، صحيح أنه يصف منزل الجد الذي انتصب وحيدا في منطقة كيمان فارس قبل أن يمتد العمران إليها، إلا أننا نفاجأ بأن هذا المنزل الذي ظل عقودا ، تحرّك قاطنوه لينتقل من عائلة الواجدي إلى الحكومة[8]، مثلما كان البطل يتنقل جسديا من قرية قصر رشوان إلى شاطئ بحيرة قارون ، وكان المكان يتنقل في أعماقه ما بين المنزل العتيق والعمارات الجديدة التي تسكن حبيبته ولاء فيها ، مثلما سكنت " شروق " ووالدها سيد خاطر وبيتهما ، ولوحاتها الجميلة في أعماقه ، كما تنقل مع شروق إلى خور عيسى على ضفاف بحيرة قارون ([9]) ، ولتعلق الفتاة تدريجيا في قلبه برسوماتها وشخصيتها .
وفي صدد المكان ، فإن ما يسجل للرواية أنها قدمت الفيوم المدينة والقرية والبحيرة، بشكل دقيق ، فلم تكتف بالوصف الخارجي للأمكنة ، بقدر ما غاصت في نفوس قاطنيها ، ورأينا – نحن أبناء المحافظة – أن أرض كيمان فارس التي كانت يوما خرائب ، ندر فيها السكان ، كيف كانت مأوى لعائلة ذات نضال سياسي ، وقدمت للوطن أسيرا هو النقيب علي الباسل ([10])، يفتخرون به ، ويبحث عنه البطل كأب يعيش معه ، ويلاعبه ، ويحمله على ظهره أسوة بلّدّاته ، وإشباعا لعاطفة البنوة في نفسه ([11])، فلم يجده إلا في ذاكرة الأم المنتظرة، والتي ذبل جمالها على مر السنين ، ويظل قبر الجد المجهول([12]) علامة استفهام مكانية كبرى .
* * *
جاء السرد من وجهة نظر " السارد العليم " ، هذا الشاب الذي تحرّكنا معه مكانيا، وأبحرنا في خضم ذاكرته زمانيا ، مقدما عالم روائيا ممتدا بين جنبات الفيوم ( المدينة ، والقرية ) ، وبين شخصيات عائلته ومن عشقهم ، مصرا على أن يقدم المشاهد ، معتنيا بالوصف الدقيق ، موردا كثيرا من المعلومات والرؤى ، مفسرا كل ما عنّ له من ظواهر وشخصيات وأحداث . كانت الرواية حافلة بالأحداث ، وهو ما انعكس على مشاهدها السردية ، التي جمعت الحوار والتفاصيل الصغيرة . ربما كانت تقنية السارد العليم هي الأنسب لتجمع في بوتقتها هذا العالم المتشظي فكريا ، والمتفكك اجتماعيا ، والممتد زمنيا . وهو ما انعكس على شكل آخر في البنية السردية ، والذي نراه في "السرد الحكائي " ، حيث الشخصيات تحكي ، وتسهب في الحكي ، والسارد ممعن في ذكر كل جوانب الحكي ، والذي قد يمتد لصفحات ، وهذا مقبول لأننا أمام أذهان تتداعى فيها الذكريات والمواقف ، بمجرد أن يذكر اسم الجد ، وكون السائل والمحاور هو الحفيد ، وكون الحاكي رجلا كبيرا في السن ، يختزن في أعماقه الكثير ليرويه، خاصة إذا كان السامع / السارد نهِما للتعرف على أخبار الجد وحياته ، والتي ضنت أمه عليه بها ، فأسلم أذنه لهم ، وأسلمنا لألسنتهم ، وعلى سبيل المثال ، انظر ما قصّه " حسين حرب" عن علاقته بجده ، وأزمته في حياته ([13]).
* * *
تستوقفنا العناوين الفرعية للفصول ، حيث جاءت عناوين ممتدة ، جملا اسمية أو فعلية طويلة ، تمثل معلومة تم توثيقها في الفصل ذاته أو في فصل سابق ، ولاشك أنه يشكل علامة جمالية ودلالية ، فالسارد ينأى عن العنوان الملخص أو الشاعري أو ذكر الفصل مرقما وبلا عنوان ، إلى الاهتمام بالعنونة على هذا الشاكلة ، اتساقا مع رسالة النص الكلية ، المتمثلة في كون الأحداث المقدمة مطيّةً لعالم أرحب ، لا تدور أحداثه مع حركة الشخصيات في فضاء المكان والزمان فقط ، بقدر ما هو اصطراع في العقول لأفكار ، وفي النفوس من مشاعر وترسبات على مر السنين ، وأيضا ربطا للهم العام مع الهم الخاص ، وعلى سبيل المثال في الفصل السادس ، جاء العنوان : " ملعونة السياسة تبدو مثل المرأة الجميلة تأخذك إلى حتفك " ([14])، ففيه مباشرة ، ولكنه يعبر عن رؤية الأم لعالم السياسة الذي قاد الجد إلى السجن والزوج إلى الأسر ، رؤية سيد خاطر الذي تلوى مع السياسة وتلوت معه السياسة .
ونفس ما نجده في الفصل الثامن : " في سرداق السياسة القتلة يسيرون جنبا إلى جنب مع الضحايا " ([15]) ، ليشكل مفارقة ساخرة ، ولكنه حقيقية ، حيث نرى في جنازة قتلى السياسة وضحاياها ، القتلة أنفسهم يعزّون ، أو يتقبلون العزاء .
* * *
لاشك أن العالم الروائي في رواية الأقدس ، يعبر عن أعماق مؤلف، تعتمل بها كثير من الأفكار والرؤى، التي توهجت و اتّقدت، ضمن بوتقة النفس ، فأخرجت هذا العمل الذي رأينا فيه مصر الوطن والأزمة ، ومصر الأزمة والمستقبل ، والفيوم المكان ، في الماضي الثائر ، والحاضر الحائر ، دون أي فصل بين الإقليم الصغير والأمة الكبيرة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق