مناظرة ..
رائد غنيم
النصيرات-فلسطين
__________________________________________
لماذا لم أفلح حتى اللحظة في طرد حضورك من نفسي؟! كلما أشحت بناظري عن ذكراك انقدحت في ذاتي أكثر!!
خسرت كل رهاناتي مع الزمن الكافي لأن أنساك، كنت ككل الأشياء التراثية التي تزداد بهاءً وحضوراً كلما عفا عليها الزمن!!
معك اكتشفت أن أكثر الأشياء التي نتذكرها هي أكثر الأشياء التي نحب أن ننساها! في كل الأماكن التي جمعتنا كنت أخاف أن أجدك، كل المارين من حولي كنت أخشاهم أن يكونوا أنت!
فإليك عني..، مذ عرفتك وأنا أكره كل الأطلال التي هي نفسي! لا تلمني فكل خياراتي معك تدينني! طريقك صعب ..، وأرضك جذب، وكل المبادئ التي حدثتني كانت تقيدني!
في غرفتي هذه كنا نرسم آمالاً عراضاً تتسع لأبعد من مدانا، كالميت بين يدي المغسل كنتُ بين يديك، حينها..، حينما كان الانتماء ممكناً في وطني، كانت تأتيني وصاياك كبلسم لجراحاتي وأحزاني، كانت تكفيني تعليلاتك وهدهداتك، كان يكفيني أن تخبرني: "مبادئنا سهامنا التي نجوب بها غمار الحياة ليس كأي مقاتلين"، وكان يكفيني أن تهدهدني بعنف واثقٍ مجنون: " الحياة كر وفر، ليس المهم أن نخسر بعضاً من معاركنا الحياتية، المهم ألا تجبرنا هزائمنا على أن نخسر أنفسنا!".
دوماً كنت تريدني أن أُصَّدِق هذا العبث، أن أَصدُق حيثما يكذب الناس، أن أترفع حيثما يتدافعون، وأن أعمل حينما ينامون، أن أداري تجبرات أنفسهم، تجبرات طموحاتهم وغاياتهم وآمانيهم، كم مرةً ألزمتني أن أتواضع نزولاً لهم، لأستفيق من غيبوبة وصاياك وقد تعاظم من حولي الأقزام؟! كنت تُصَبِّرَني أن هؤلاء جنود أفكارنا غداً، وأن سلوكنا هو العصا السحرية التي ستحيل دروبهم إلى دروبنا المضادة، كنت تعللني بالغد الذي ينضوون فيه تحت ألويتنا وقوافلنا..، ومن يومها وأنا أنتظر كل آمالنا المكذوبة والمسكوبة إلى لا قافلة تأتي أو تروح!
أتدري..، أنا ما عدت أومن بفكر القوافل! لأن القوافل تمضي ببطء، وتأتي ببطء..، وتموت مرةً واحدة!! نظل مأسورين معها لحادي الإبل الذي ينذرنا من الذئب الذي لن يأتي، وإن أتى فلن يأتينا من مكان سوى قوافلنا!!
أحقاً تريدني أن أبقى على العهد الذي كان، أمجنون أنت؟! ألم تنتبه إلى أن غرفتي هذه لم تعد مؤهلةً لأن تستقبل وعودك وجنونك؟ ضيقة هي.. مثلها مثل كل دروبك الممكنة!
بها ومعك أحس أن الأشياء تحاصرني.. وتكبلني..
سأمضي بعيداً.. سأغرد وحيداً.. سأذهب إلى حيث أنت لست هناك! لعلي أجد نفساً غير نفسي.. مكاناً غير مكاني..، لعلي أجد نفسي ممكناً لكل العصور وكل الدول!
فإليك عني حقاً..، دعني ولا تكبلني..، ومن ثم فلا تلمني! فكل دروبك المستقيمة تبعدني عن الأشياء! فيوتيبا زماننا تخبرني أن الخطوط المستقيمة هي أبعد المسافات بين الأشياء! سأسلك الدروب الملتوية التي كنت تحذرني، سأكذب ما أمكنني الكذب، وسأداهن ما أمكنتني المداهنة، سأحترف ارتداء الأقنعة، وسأتخفف من أرديتك المثالية! سأتنازل.. وأتنازل.. حتى أرتقي السحب المعلقة! والأبراج العائمة في كبد السماء!! سأجد مكاناً لائقاً مع كل الخارجين عن ناموس رؤاك، سأنازعهم في كل الذي يملكون، سأنازعهم في ملكاتهم وقدراتهم وغاياتهم، فليس وحدهم يحق لهم أن يكبروا، ويتعاظموا، ويسرقوا، ويكذبوا..، ما ضرني لو مشيت عارياً في مجتمع من العراة..
هذه لحظتي الفاصلة.. ما أوسع غرفتي بدونك! ما أكبر مزاياها! لن أكتفي بتبديلات قناعاتي ورؤاي..، سأغير حتى هندامي.. وموسى حلاقتي! أحسب أنني الآن ممكناً كما لم أكن في أي وقتٍ مضى!
سأذهب للمرآة.. ها هي المرآة..
يا إلهي! مرة أخرى أنت أمامي!
وها أنا أبكي!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق