من بصر العين إلى بصيرة العقل
أ.د
أحمد يحيى علي محمد
أستاذ مساعد الأدب والنقد، كلية الألسن، جامعة
عين شمس، مصر
مدخل :
- المثل: مصطلح يدل
علي جنس أدبي شائع في تراث الأمم والشعوب علي اختلاف عصورها ومراحلها ، والمثل
في اللغة العربية هو جملة من القول مقتطعة من كلام أو مرسلة بذاتها تنتقل من
السياق الذي وردت فيه أول مرة إلي آخر مشابه له دون تغيير ؛ لأن الأصل في المثل هو
التشبيه المعتمد علي المحاكاة .
والمثل اصطلاحًا في مجال
الأدب له جنسان: فهو يطلق علي الحكاية التي ترمز إلي مغزاها بحيوان أو أكثر وأشهر
هذا الجنس في الأدب العربي حكايات كليلة ودمنة .. أما الجنس الثاني فيرتبط بتركيب
لغوي مختصر له قابلية الذيوع بين أكبر عدد ممكن من الأفراد يتضمن قيمة يستحق بها
البقاء في ذاكرة الإنسانية (1).
ويرتبط بهذا التعريف
للمثل مصطلحان آخران هما:
- المورد: يشير إلي
السبب في صياغة المثل بداية ثم ذيوعه بين الناس ؛ فهو بمثابة الموقف الذي شهد في
جانب منه خروج هذا المركب اللغوي الموجز(2) .
وفي هذا المورد نتابع المادة القصصية المفسرة
للأمثال, تلك المادة التي تشغل مساحة مهمة في المكتبة القصصية العربية التراثية,
وكانت ملهمة للرواية التاريخية المعاصرة التي ستظل تنهل منها علي الدوام مع تعدد
الوسائط المهتمة بالدراما التاريخية اليوم ما بين قنوات مرئية أو مسموعة أو طباعية
تنتمي إلي تيارات تعبيرية تتطور يوما بعد يوم.
- المضرب: يعبر عن
السياق الذي تستدعي مفرداته هذا القول الموجز من أجل التبرير والإقناع وتركيز الانتباه
علي شئ بعينه (3) .
ويمكن القول إن استلهام
المادة التراثية اليوم في أعمال درامية جديدة يكاد يكون نوعا من (مضرب المثل) أو
هو مؤشر للعلاقة الجدلية التي تربط بين المورد والمضرب عبر التاريخ, فكل مضرب
للمثل هو إعادة قراءة لمورد المثل, فالمستقبل يعيد قراءة التاريخ الذي سبق وأن
استشرف ملامحه في بنيته الرمزية المختزلة لحكمته.
ومن أشهر مصنفات الأمثال في تراثنا العربي
القديم:
-
الأمثال: أبو عبيد بن
سلام
-
الأمثال: المفضل الضبي
-
جمهرة الأمثال: أبو
هلال العسكري
- مجمع
الأمثال: الميداني (أبو الفضل أحمد بن محمد بن إبراهيم)، ومن هذا الكتاب يأتي هذا
النموذج "أبصر من زرقاء اليمامة" الذي تناولناه بالشرح والتحليل
" أبصرُ من زرقاء اليمامة
:
واليمامة
اسمها ، وذكر الجاحظ أنها كانت من بنات لقمان بن عاد ، وأن اسمها عنز ، وكانت هي
زرقاء ، ... وهي امرأة من جديس ... كانت تبصر الشيء علي مسيرة ثلاثة أيام ، فلما
قتلت جديس طسماً خرج رجل من طسم إلي حسان بن تبع ، فاستجاشه ، ورغبه في الغنائم ،
فجهز إليهم جيشاً ، فلما صاروا من جوة علي مسيرة ثلاث ليال صعدت الزرقاء ، فنظرت
إلي الجيش ، وقد أمروا أن يحمل كل رجل منهم شجرة يستتر بها ؛ ليلبسوا عليها ،
فقالت: يا قوم قد أتتكم الشجر أو أتتكم حمير فلم يصدقوها ، فقالت علي مثال رجز :
أُقْسِمُ بِاللهِ
لقد دبَّ الشجرْ ** أوْ حمْيرْ قدْ أخذت شيئاً يجُرْ
فلم
يصدقوها ، فقالت: أحلف بالله لقد أري رجلاً ينهس كتفاً ، أو يخصف النعل فلم يصدقوها،
ولم يستعدوا حتي صبحهم حسان ، فاجتاحهم ، فأخذ الزرقاء ، فشق عينيها...". (4)
إن
أول ما قد يلفت نظرنا في صيغة المثل أنها عبارة عن تركيب لغوي ناقص بحاجة إلى
مجهود ذهني منا لنكمله؛ فيا ترى ما هذا الناقص؟ هل اسم؟ أم فعل؟ أم استفهام مثلا؟
وإذا أكملناه كما نراه فما شكل الجملة وقتها؛ هل ستصبح تركيبا إنشائيا استفهاميا؟
هل ستصير جملة اسمية مكونة من مبتدأ وخبر؟ وفي الحالة الأولي تصير بنية المثل علي
هذا النحو: من أبصر من زرقاء اليمامة ؟ ، أما عن الثانية فإن المسند إليه
(المبتدأ) يبدو متنوعاً في تشكيله من حيث الجنس من جانب (مذكر أومؤنث ) ، ومن حيث
العدد من جانب آخر فقد يكون مفرداً أو جمعاً .. علي سبيل المثال:
أنا أبصر من زرقاء اليمامة .
هي أبصر من زرقاء اليمامة .
نحن أبصر من زرقاء اليمامة .
مع وجود احتمالية أخري تعتمد علي النفي ؛ وبذلك تؤكد أحقية
هذا الرمز بالتفضيل المطلق ، فيكون البناء اللغوي هكذا: لا توجد ذات أبصر من
زرقاء اليمامة .
ويبدو
أن الراوي حريص علي إدخال القارئ في لعبة جدل مع هذه الأنثى/الزرقاء؛ مبعث ذلك القرينة أو الصفة (أبصر) التي تتيح لها
مكانة أفضل مقارنة بالغير (فرد/ جماعة) ، وتعطي في الوقت نفسه إشارة إلي أن هذه
الأفضلية تعد بمثابة حكم من قبل الجماعة عليها له حيثيات أدت إليه ، يمكن لنا أن
نطالعها في التشكيل القصصي المفسر لهذا المثل؛ كأنه يجيب عن سؤال: لماذا وصلت
المرأة إلي هذه المكانة التي سمت بها علي من حولها؟
وتأتي
البداية عبارة عن لقاء تعارفي بين المتلقي وزرقاء اليمامة، يسعي الراوي من خلاله
إلي تقديم بعض الإشارات التي تسهم في كشف جانب من شخصيتها، وفي هذا اللقاء نجد
بيننا وبينها نوعا من الألفة، قائم على التشابه، فهي امرأة من بني البشر، له اسم
ونسب وعائلة، لكن سرعان ما يتجاوز الراوي بالمرأة هذه المنطقة الواقعية إلي منطقة
أخري تتميز فيها بطابع خيالي أقرب إلي الأسطوري
يشير إليه التركيب " كانت تبصر الشيء علي مسيرة ثلاثة أيام " الذي
يعد سببًا مباشرًا في إنتاج هذا المثل " أبصر من زرقاء اليمامة " ؛ إنها
بصرها يتجاوز حدود المعقول إلي درجة أقرب إلي اللامعقول.
ثم
تأتي القصة المفسرة للمثل من الداخل لتكشف جوانب من مأساة إنسان يسعى إلى توظيف
قدراته في محيط ليس مهيأ بعد للإفادة من إمكانات أبنائه الحقيقة؛ فتكون النتيجة
فشلا وسقوطًا
"…
خرج رجل من طسم إلي حسان بن تبع ، فاستجاشه ورغبه في الغنائم ، فجهز إليهم جيشاً ،
فلما صاروا من جوة علي مسيرة ثلاث ليال صعدت الزرقاء ، فنظرت إلي الجيش ، وقد أمروا
أن يحمل كل رجل منهم شجرة يستتر بها ؛ ليلبسوا عليها ، فقالت يا قوم قد أتتكم
الشجر ، أو أتتكم حمير ، فلم يصدقوها "
إن
الزرقاء نموذج لكل إنسان تعيش لحظة مسئولية تتمثل في عملية الإعداد المطلوبة
لمواجهة خطرمحدق يوشك أن يقع ، فجاء نداؤها التحذيري تعبيرًا عن نموذج إنساني مثالي
يري أن عليه دورًا يتجاوز أفق الطموحات الذاتية الفردية الضيق إلي الانشغال
بجماعتها/قبيلتها التي قد تكون رمزا لفكرة الوطن في محاولة للوصول بها وبه إلي
أفضل صورة ممكنة .
إن
الزرقاء – في ضوء هذه الحالة – شأنها شأن كثير من دعاة الإصلاح بين جماعاتهم
غالبًا ما يواجهون بمعوقات تخرج من داخل هذه الجماعات نفسها ، غير أن هذه الموانع قد لا تعني – علي المستوي النفسي – يأسًا يؤدي في
النهاية إلي توقف ؛ فالزرقاء الحريصة علي مصلحة جماعتها بدأت في تفعيل قرينة أخري
تتمتع بها إلي جوار القرينة (أبصر) ألا و هي القرينة (مبدعة) :
"أقسم
بالله لقد دب الشجر * أو حمير قد أخذت شيئاً يجر"
ويبدو
أن القرينة (مبدعة) لم تعمل عملها فيما أرادت الذات المؤنثة الوصول إليه، فعمدت إلي
الاتصاف بقرينة أخري (ملحة) موظفة أسلوب التكرار ، ولكن بخطاب عادي يناسب ذوق
الجماعة: "فقالت: أحلف بالله لقد أري رجلاً ينهس كتفاً ، أو يخصف النعل فلم يصدقوها
".
إن
الصراع بين الذات التي تنطق بروح القبيلة (صوت الأنثي) والقوم الذين يتخذون القرار
في هذه القبيلة يتجاوز بالقرينة (أبصر) منطقة الرؤية الحسية البصرية إلي ما هو
أبعد ؛ فمسافة الرؤية التي تصل إلي ثلاثة أيام وتضفي علي الذات المؤنثة طابعاً
أسطورياً ليست إلا إشارة إلي تلك الشخصية التي تمتلك رؤية بعيدة المدي تسعي إلي
توظيفها في سبيل صياغة مستقبل أفضل للجماعة ، وما هذا التركيب الإسنادي المعتمد علي
النفي ، " فلم يصدقوها " إلا إشارة إلي أصحاب الرؤي القاصرة الذين لا ينظرون
أبعد من اللحظة الحاضرة التي يحيونها؛ فيقفون حجر عثرة في طريق دعاة الإصلاح .
إن
زرقاء اليمامة تعد من هذا النوع الإنساني الذي يحرص علي تنمية قدراته حتي يصل بها إلي
درجة قصوي رغبة منه في أن يكون نموذجًا إيجابيًا يمكنه الإسهام بما لديه بشكل بناء
، وقد يتجاوز هذا الإسهام نطاق الجماعة المحلية المحدود إلي الجماعة البشرية
عموماً ، فينتقل بوجوده من الحيز الزماني والمكاني الضيق
إلي حيز أوسع، عندما يتحول إلي رمز يدخل في علاقة جدلية تقوم علي المقارنة بينه
وبين كل قارئ ، و تعبر عنها بنية الاستفهام: (من أبصر من زرقاء
اليمامة ؟) ، والفضل يعود إلي الطبيعة المجاوزة للقرينة (أبصر) التي تتعدي منطقة
الرؤية البصرية إلي رؤية مبنية علي العلم يمكن
تسميتها بالرؤية الذهنية.
ومع أن النتيجة التي
آلت إليها البنية القصصية المفسرة: " ولم يستعدوا حتي صبحهم حسان ، فاجتاحهم
، فأخذ الزرقاء ، فشق عينيها " نجد
أن ثنائية ( المنطق واللامعقول ) أو( الحقيقة والخرافة) ما هي إلا إشارة إلي
صراع له صفة الاستمرار بين الواقع من جانب والمثال من جانب آخر، وبين المعوقات التي
تشوب اللحظة الحاضرة من جانب ، والأحلام المرجو تحقيقها مستقبلاً من جانب آخر ،
وتأتي الأنثي في مورد المثل؛ أي القصة التي تفسره تعبيرًا عن أحد طرفي الصراع .
من هذا النموذج الذي
تمثله شخصية الزرقاء يتضح إدراك الوعي الجمعي العربي لأهمية تأسيس النموذج القدوة
عبر رسالة فنية كانت المرأة بطلتها تبحث هذه
الرسالة عن مستقبلين يرون في الزرقاء مثالاً
فيه
قيمة إنسانية عامة ؛ بوصفه يؤسس لما يمكن تسميته بـ (الفرد الخلاق) الذي يجعل من
قدراته الذاتية وسيلة يعتمد عليها في إعادة تشكيل الجماعة وفق رؤية ذهنية تعبر –
بدرجة ما – عن مجتمع مثالي يطمح إلي أن يكون حقيقة ، وقد شكل
له صورة في مخيلته ؛ ومن ثم فهو يسعي إلي
تنفيذها بقراءة مفردات الواقع المحيط؛ إن الزرقاء بمثابة الصوت المحذر الذي
يركز عدسته علي مناطق الضعف في جسد الجماعة التي يمكن أن تُخترق منها.
وفق الرؤية السابقة يتبين
أن الفراغ النصي الكائن في تشكيل المثل السابق يمنح المتلقي حضورٍا أكبر داخل هذا
النص الفني؛ بفضل الطبيعة الجدلية المترتبة عليه التي تجعله في حالة مقارنة دائمة
بينه وبين هذا النموذج (المرأة) الذي يتجاوز دلالته ليصبح بمثابة نموذج ثقافي مهما
بلغت قيمته فلابد من تجاوزه إلي ما هو أفضل منه ؛ لذا جاء الحذف النحوي في بنية
المثل تجسيداً لرغبة فنية في كسر حدة الجمود المؤثرة سلبًا في الواقع وتجاوز
الثابت الجمالي المتضمن فنًا – أي صيغة المثل والقصة المفسرة لها التي تبقى كما هي
لا تتغير مع مرور الزمن - بما يجعل إيقاع الجماعة في
حالة حراك مستمر واتجاه أنساقها الفعلية في حالة صعود دائم.
هوامش وإحالات
1-
انظر: عبد الحميد يونس
، معجم الفلكلور، ص192، الطبعة الأولي، 1983م، مكتبة لبنان، بيروت..
2-
انظر:
السابق، ص192 .
3-
انظر:
السابق، ص192.
4-
الميداني
، مجمع الأمثال ، الجزء الأول ، ص155 ، 156 ، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت.
ونهس وخصف يعنيان علي التوالي: أكل ، وخرز (خاط) ، انظر: القاموس المحيط: مادة
(نهس) ، (خصف).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق