2015/12/02

"طرف من خبر البحث عن سيرة راسبوتين" قصة بقلم: حسن عبدالحميد حجاج أبو السعود



طرف من خبر البحث عن سيرة راسبوتين

(القصة الفائزة بالمركز الأول في جوائز ربيع مفتاح الأدبية بدورتها الثالثة)




حسن عبدالحميد حجاج أبو السعود


(1)             وقائد أبدية
أشهد لله وللتاريخ المفترى ولهم أنك كنت ولدا طيبا، أقول هذا دوما عندما أمر باسمك أو عندما ينزبق اسمك بدون سبب فى ثنايا الكلام، أستطرد عن سذاجتك الميّالة للبساطة، وأصرخ فى ابن المرأة الخناسة الذى يقطع فى سيرتك وأثرك أن يلم لسانه ويلقمنى أذنه، ولكنه مثل الباقين– يكفكف سمعه ويهرول كاللقيط أو الملسوع مبتعدا، وقد يسبك ممتعضاً بشكل مبالغ فيه. لا أعرف لماذا حدث هذا معك أنت بالذات من دون خلق الله، أتجادل مع نفسى كثيراً عندما أخلو اليها، ولا يفض جدلى إلى المستخلص. قد أكتفى بعصر كلمة المصير الغلاب على لسانى أو أغُيّر الموضوع برمته. سامحنى؛ ليس فى مقدورى سوى هذا.
عاداتك كانوا يعرفونها ويحمدونها: تكرع كوب الشاى الساخن المخلوط بلبن معزوى تقدمه لك أمك فى صباحاتنا المشوبة بالندى وعسيلة النعاس الأخيرة  وأمل الرزق المفتوح. تغمس فى الكوب كسر متشظية من خبز يابس كانت أمك تحمصه بعد كل خبزة جديدة فى فرن طينية بنتها بنفسها عندما تزوجت والدك قليل الحيلة. تنتهى من شايك وتقول بنغم: الحمد لله، الحمد لله.
تقبل يد أمك بسلطنة توحى بمزاج نقى، تنهرك هى ثم تنصحك برضا:
(لا ؛ قبل يد أستاذك النظيفة بدلا عن هذه اليد التى لا تتعامل إلا مع الطين، والروث الجاف والسائل والمحروق، ومياه الشيطان القذرة التى تتحفنا بها كلبة أبيك كل يوم. )
كنت تضحك، أى والله يا صاحبى كنت تضحك قبل أن تقبل، مرة ثانية وثالثة ورابعة، نفس اليد السوداء-بتعبير أمك-  الطاهرة المقدسة -بتعبيرك المحب - ثم تصطحبنى أنا المتفرج الوحيد الصغيرعلى هذا المنظر الدرامى المتوهج البسيط  إلى المدرسة المسفوعة على تل منخفض يعتلى رأس قرية بعيدة عن قريتنا.
الحقيقة المجيدة تقول أنك كنت ولداً طيباً،كما قلت آنفا: تصطبر وقتك بتصفح معجم السماء الهادىء وشجرة كافور تنفث عطراً بنكهة البهار الهندى الحارق. تتكىء كإقطاعى متغطرس على غُرة داركم بينما تقرأ فى "تفسير الجلالين" أو قصص "الكيلانى" أو معلقة "طرفة بن العبد" بوقار ملهم. لا تتلمس أسباب تلمس واحدة منهن. تلقى السلام راكباً وراجلاً. تخفض صوتك توقيراً لسامعك، ولا تسرق بيض أمك وتشترى به السجائر.
***
كنت هادئاً، وكانت الأيام هادئة حتى أتاك اليوم الشتوى الشاحب الذى اختلت فيه شاحنة الجاز الأبيض بجسد أمك على حافة طريق صحراوى يعبدونه منذ بضعة سنين حسوما.
- هل كانت تزور أختها؟  
- بل كانت عائدة من مشفانا الميرى، الأصفر من الداخل الأصفر من الخارج، كما لو كان إرهاصاً فتياً بصُفرة الموت أو صُفرة تراب قبورنا البديعة. بالطبع تعرف هذا المشفى، هو هذا البناء الذى يأن بأنات من يموت، ومن سيموت، ومن قدر له الموت لأنه قد دلف إليه.
هناك يا صاحبى؛ خلعوا لها ضرساً تسوس بفعل الشبع المتقطع عندما يلامس المجاعات المقيمة. خلعوا أيضا نابا أزرقا وسنتين صغيرتين  بفعل الخطأ، والخطأ- طبعاً - يأتى من عند الشيطان كما أكد شيخ جامعنا صاحب العمامة النظيفة واللحية المصبوغة على الدوام.
- تذكر ذلك اليوم؟
- جزما؛ فمن غيرك شاهد الأقرباء والأباعد وهم يسبون أديان الله السماوية  الثلاثة، بينما يقتلعون بالمعاول الخشبية والحديدية كوم الصلصة الأحمر الذى هو أمك، ثم يرزعونه فى صندوق أخضر مثقوب مكّن الكلاب القروية من الشبع من ندف لحمها المتساقط.
دفنوها بدون كفن أو صلاة أو حتى جنازة مناسبة للمرأة الطيبة التى رقصت فى أفراحهم شبيه بالذى بكت به فى أتراحهم؟ ومن غيرك تابعهم، كشبح تعمدوا تجاهله، وهم يتفرقون بعدها على مصاطب القرية، ويتحاكون بأيمان باطلة أقسمتها فأودت بها على هذا النحو المزرى، لا رأس ولا ذراعين ولا  ساقين ولا  فرج ولا  حتى أصبعين ظاهرين، لا ملامح واضحة، فقط ميوعة حمراء لزجة كميوعة العدس الصفراء.
 رأيت وتتبعت وسمعت كل هذا، وبكيت، بدون أن تسأل نفسك عن فائدة الطرق الصحراوية لقرية  يرونها عالة على إنسانيتهم، أو حتى عن أثر دهس القرويات فى تعديل مزاجات قائدى الشاحنات العملاقة- المتعكرة دوما بفعل الجرعات الزائدة.
***
(2) حكمة الإنسان تنير وجهه
كلنا يحتاج لأم، لا سيما فى وقت كوقتك. نحتاج لأم تقول عن قصد أو بدونه: ( اسم الله عليك ) كلما ثقبت السلاءات أو خرق الشوك المتصلد أقدامنا. نعوز أماً تسمّى بالله علينا كلما أسقطنا المرض أو الغم الصدىء على صدر أمنا الكبرى. أم  توصلنا للخلاء، وتقف لنا عند بابه، إن كان له باب، لترجعنا للفراش بعد أن يزيل الطبيب الأبيض مراراتنا أو زائداتنا الدودية أو كِلية معبئة بمخلفات الامبرياليين. أم ترمى فى تنور شبابنا بلحم الضأن وأطنان البيض وجرادل الحليب ، كى يفور وإلا يخفت؛ فيعطى فرصة العمر للأسقربوط ليأكل أطرافنا أو للإسكارية فتنخر جدران بطوننا، لا نعرف من أين يأتين بهذا اللحم ولماذا يحرمنه آبائنا لكننا نأكله ونجفف عظامه ونحبهن أكثر وأكثر عندما نعزم عليهن بقطعة لحم أو عظمة صغيرة لم تُمصمص جيدا، ونرى العادى؛ إنهن فقط يغمسن قطعة اللحم أو العظمة فى قلوبهن مرات ومرات العمر قبل أن يسدن بها أفواهنا العميقة كآبار العرب فى الزمن القديم. لا نعرف هل يفعلن ذلك بدافع الجوع أو كى يتوحش حبهن فى قلوبنا أكثر وأكثر حتى تجف أعمارنا ويكف الكتبة عن كتابة خطايانا.
نحتاج لأم، لا لامرأة مطلية ومعجونة بالخلاعة، استخلصها أبوك من زحام المدينة البعيدة؛ فأولغت نصف القرية فى ماجورها النهم، امرأة رأيتها ذات ضحى- تُقرّب هذا الماجور من فم لا يحق له، فأخبرت أباك بفمك الصادق و أكدت على هذا بعينين مسهدتين أضناهما الوجع المتراكم. أبوك لم يكن ليصدق إلا رمشين كثيفين وشعر فاجر و نهدين مشرعين كاسرين. ما الذى كنت تعبئه فى عينيك المتعبتين غير التعب؟ ماله والتعب؟ ماله والتعب؟
كذّبك، وهذه علامة الضعيف، وطردك على طريقة  ( اخرج منها فإنك رجيم ) وهذه علامة إما على الصدق والحكمة الإلهية، وإما على الهروب من المواجهة الزائفة.
أنا لا أبتهج باستعادة سيرة الوجع؛ لست كغيرى ممن يبتهج لسماعها، مثله كمثل المطر والبشر: يحسد البشر المطر المغلف بالريح المسيّرة؛ فينحط المطر على الأرض متألما من تداعيه من تاج السماء الأبيض لعفن الدروب و وحل الطرق المنزوية وموت المصارف العياش. وهنا ينفجر السرور العارم  فى أوجه البشر لأن أحدا غيرهم انحط على الأرض، ويبتهجون لأنهم ليسوا وحدهم من ينخدعون.

***
(3) معروشات وغير معروشات
أتيت يوما عندى؛ فأبعدك أبى، وقضيت يوما عند فلان؛ فشتمتك أمه التى تصبغ حاجبيها بالأحمر والأصفر الرقيع، وذهبت عند آخر؛ فاستبردك وقذفك بأحذيته القديمة بعد أن وضع تراب بيته فى منخاريك.
لا، لم تكن لصا، وإنما أجبرك صراخ المعدة أن تأكل من بلح نخلنا. لم تلج الكروم إلا لتأكل حبة جوافة أو رمان أو مانجو- تبل الروح قبل الريق، اعتبرها الزكاة التى لا  تخرجها هذه القرية.  لم يكن عليك أن تستشعر الحرج من رطانة أم الصيدلانى فى كل المجالس عن طيبة قلبها التى نفحتك لحافا، مع أن بردنا جبار ولا يكفى التدثر منه بأربع، ولم تكن لتحتاجه لولا أن الشيخ أخرجك من الجامع الذى كنت تنام فيه مع يمامة نسجت عشها كالمعتاد فوق قبة المنبر،  وأبراص بيضاء طاهرة تنعس فى شقوق الشبابيك، وفئران متينة البنيان تأكل حصر الجامع إن لم تجد ما تأكله؛ فتسمن وتمتد أذيالها للوراء شبرين وشبرين ، وعندها يتعين على  هررنا الجائعة أن تذهب لتسوى الوضع المتأزم.
كل ما أريده منهم الآن هو ألا يظلموك أكثر من هذا؛ ألا يمصمصوا شفاههم عندما يلعنوك بعد أن يتذاكروا أمر الجريدة المحترمة  التى اندست فى أحضاننا لأول مرة والتى حفظناها بعد أن قرأناها فى دواليبنا، والتى تخصص باباً أسبوعياً تعنونه بعنوان براغماتى ( إجرام بلا تخوم ) والتى نشرت صورتك الملتاعة وفوقها سطور عريضة تهجوك فيها بأحابيل بلاغية تجرح عاطفة أى إنسان قابل للحنو عليك، وأنا منهم، حتى لو كنت قد سطوت على بيت هو بيتك وذبحت أبا إعتباريا، و زوجته البيضاء، ثم تناولت عشاءا فخما كانا يلتهمانه.

ليست هناك تعليقات: