وتجسيد النزعة التفكيكية في الرواية المصرية المعاصرة
(المقال
الفائز بالمركز الأول"مناصفة" في جوائز ربيع مفتاح الأدبية بدورتها
الثالثة)
د.غيضان السيد علي(*)
مقدمة
لا يمكن تقديم قراءات نقدية جادة حول الرواية المصرية
المعاصرة بعيداً عن إبراز تأثير الاتجاهات الفلسفية المختلفة فيها، بل واستخدام
مناهج النقد الفلسفي للأدب بشكل موسع ليشمل كل الإبداعات الحقيقية في الأدب العربي
الحديث والمعاصر. فالروائي في البداية والنهاية فيلسوف يقدم رؤيته الفلسفية الخاصة
على شكل حكاية سردية تعكس تصوره لفكرة سياسية أو اجتماعية أو ثقافية. فتأتي
الرواية محملة بنزعاته الفكرية واتجاهاته الثقافية وتجسيدا لهما. فهناك اقتران
واضح بين الفلسفة والأدب على مدار تاريخ الأدب العربي، قديمه وحديثه على السواء.
وتعد
رواية" من حكايات سنورس" للروائي الشاب أشرف نصر والتي صدرت في
طبعتها الأولى عن الهيئة العامة لقصور الثقافة 2003، واحدة من الروايات التي جسدت النزعة
التفكيكية بامتياز في الرواية العربية بصفة عامة والمصرية على وجه الخصوص. فأشرف
نصر الذي درس "الحقوق" لم يكن غريبا عليه أن يتأثر بالمذهب التفكيكي،
فالدفاع عن المتهمين يفترض على رجل الدفاع الكفء تفكيك القضية والوقوف على
تمفصلاتها الأساسية، وجزئياتها الرئيسية، بل وإعادة النظر إليها من زوايا متعددة،
والانتقال من المركز إلى الأطراف، ومن الأطراف إلى المركز، وإعادة التأويل لكل
الأحداث، للوقوف على الثغرات القانونية التي يمكن من خلالها الدفاع عن
"المتهم" حتى تثبت براءته، وليس ذلك كله سوى مبادئ الفلسفة التفكيكية.
ويقوم التفكيك عند الروائي في مجال الرواية كما هو عند
الناقد على السواء، على آليات الهدم والبناء من خلال القراءة. فالروائي يقوم بهدم
عالمه القصصي وإعادة بنائه مرة أخرى، ولكن عن طريق هدم الكل من أجل بناء وحدته
السردية، وتسليط الضوء فقط على النقطة المركزية التي يعتبرها بؤرة الأحداث. وهذه
النقطة تكون في الغالب نقطة هامشية ثانوية ولكن الروائي المفكك يجعل منها مركز
الأحداث فيعيد قراءة عالمه السردي انطلاقا منها، فهو لا ينقد المركز بل ينقد
التمركز المطلق لفكرة معينة، وهكذا الحال أيضاً عند المفكك الناقد الذي يفكك النص
ويعيد بناءه وفق آليات تفكيره.
ولقد عكس
عنوان الرواية " من حكايات سنورس" تلك النزعة التفكيكية لدى
المؤلف، فـ "سنورس" تلك البقعة
الثانوية الهامشية من أرض مصر المحروسة، والتي تنتمي إلى إقليم محافظة الفيوم تتحول من نقطة
هامشية ثانوية إلى نقطة مركزية، حيث يجعل أشرف نصر من "سنورس" المركز
ومحل بؤرة الأحداث.
وداخل
الرواية يتم تفكيك " سنورس" عبر سبع حكايات هي: " المحطة" و
" شارع سعد زغلول" و " المدرسة" و " السينما" و
" قسم الشرطة" و" بيت الثقافة" و " البيت". وفي كل
حكاية يعيد الروائي بناء "سنورس" من منظور مختلف فيقف على المفاصل
الأساسية فتتعدد الرؤى وتتنوع القراءات والتفسيرات وهذه هي أهم ايجابيات التفكيك
على مستوى النظرية والممارسة.
أولاً : التفكيك على مستوى الحكي السردي
إن
القراءة الموضوعية لرواية " من حكايات سنورس" لا يخطئها ملاحظة القضايا
الاجتماعية والإنسانية التي تطرحها والتي عملت على تشكيل الحدث الروائي وتصاعده
وتشابك خيوطه وفك عقده؛ بل أن هذه القضايا التي تتحاور داخل الرواية ما بين
اجتماعية وإنسانية وسياسية ساعدت إلى حد بعيد في كشف دخائل شخوصها وتوجيه تصرفاتهم
وسلوكياتهم، وتلوين نظرتهم وتكوين فلسفتهم للحياة، مما ساعد على تحديد مصائر
شخصيات الرواية بشكل محدد وقطعي.
وتعد مهمة تشريح المدينة وتفكيكها من الأمور
المسيطرة على الرواية، فتثير كل حكاية من الحكايات السبع، قضايا اجتماعية، سياسية،
أنثربولوجية ليس فقط من خلال تفكيك مدينة
سنورس ولكن في الوقت نفسه من خلال تناول تفكيكي لعائلة سنورسية هى عائلة "
رفاعي أفندي" معاون المحطة، وهذه العائلة مكونة من الأب رفاعي والأم مبروكة
وخمسة من الأبناء الذكور هم: صلاح، حسن، رجب، سيد، حمدي، وابنة واحدة هي ياسمين. وإن
كان البناء في الرواية يبدأ برفاعي كمركز في الحكاية الأولى( المحطة) وينتهي
بتمركز ياسمين في الحكاية السابعة (البيت). فإن الأمور لم تسر هكذا في طريق منتظم،
ولكنها سارت في طريق تفكيكي مختلف تماما، فإذا كان التفكيك هو– في الأصل- فك
وزعزعة أسس البنية بهدف الوصول إلى الحركة الأصلية للاختلاف ([1]).
فإن المؤلف قد قام بهذا التفكيك على خير وجه عندما عمل من خلال الأحداث على إظهار
سيولة العمق الذي يظل في حالة حركة، فالرواية تأبى النسقية والنظام والسكون؛ حيث
يظهر رفاعي أفندي وهو يلملم كل خيوط الرواية التي تلتقي عنده، لكن رفاعي أفندي
يموت في نهاية الفصل الأول ورغم ذلك يظل هو العمود الفقري الذي يحفظ الرواية من
التشظي. من خلال واقع ديناميكي يبدأ بعالم المحطة وناظرها رفاعي الصعيدي "
والذي يسير كالطاووس بملابسه المميزة ووجهه الأسمر وصفارته التي أخبرهم أنها ستكون
أهم شيء لسير وتوقف القطار"([2]).
يبدأ
كعادة كل التفكيكيين باللعب بقضية العلاقة بين الدال والمدلول وبيان عدم ثباتها، فالدوال غير ثابتة مع
المدلولات ولكنها حركية ديناميكية تعمل على ترويج المعنى فيقول:" وأخيراً وصل
القطار". ترددت الجملة مرتين..قالها رفاعي الصعيدي وهو يلقي عبئا ثقيلاً من
الانتظار على عاتقه..وقالها الشيخ حسن البنا وهو يبدأ مشواره الحقيقي" ([3]).
فمدلول وصول القطار بالنسبة لرفاعي أفندي القابع في محطة سنورس مختلف تماما لوصول
القطار للشيخ حسن البنا القادم من خارج سنورس، وإن كان وصول القطار عند ناظر
المحطة يعني بداية القيام بأعباء وظيفته، وعند الشيخ حسن بداية مهمة جديدة يقوم
فيها بنشر دعوته داخل سنورس ليكسب المزيد من الأتباع في الاقطار المصرية. وتتداخل
الدلالات في الحكاية الأولى في الصراع الديني السياسي بين الشيخ عبيد والشيخ
البنا، وهو صراع بين رجل الدين غير المؤدلج ورجل الدين ذي الأيديولوجيا السياسية.
وهنا يزودنا المؤلف كعادة الكتاب التفكيكيين بسيل من الاحتمالات، وهذا الأمر يدفع
القارئ إلى العيش داخل النص، والقيام بجولات مستمرة لتصيد موضوعية النص الغائبة.
ولا
يريد الكاتب أن يغادر بنا الحكاية الأولى، والتي ستسير على دربها الفني بقية
الحكايات، حتى ينبهنا إلى كافة آليات المنهج التفكيكي فيعول بنا على التكرارية،
والتكرارية بالمعنى التفكيكي تفضي إلى وجود اختلاف في الإعادة؛ إن إمكانية الإعادة
نفسها تفترض الاختلاف وتقتضيه. ويتجلى هذا الاختلاف باعتباره الضرورة لوجود آخر
والتطلع إلى شيء جديد للشيء الذي لم يُقل...إن هذا الجديد لكي يشتغل داخل هذه
الترسيمة يجب أن يقدم باعتباره ممكنا أو مستحيلاً داخل سياق دلالي واضح المعالم([4]).
وحيث تتبدى منطقية القول المعاد التي لا تتعارض بين الإعادة وحداثة ما هو مختلف
كما يؤكد دريدا([5]). لأن
الاختلاف المرجأ يساهم على نحو كبير في تحولات الإعادة، هذا التحول الذي أطلق عليه
دريدا التكرارية أو الإعادية؛ أي انبثاق الآخر وتجليه في التكرار المعاد وهو ما
يشير إليه مفهوم تكرار في اللغة السانسكريتية([6]).
ويهرم
رفاعي ويموت رفاعي في المكان الذي أحبه تحت أنقاض المحطة وهنا تبدو الصورة
المتطرفة للتفكيك باعتباره نزوع للهدم والتقويض.
ومع
بداية الحكاية الثانية التي تحمل عنوان " شارع سعد زغلول" ينتقل الكاتب
من مركزية المدينة إلى مركزية الشارع إلى مركزية منزل عبدالمقصود زوج ياسمين ابنة
رفاعي أفندى، الذي عاد مرة أخرى إلى الهامش بدلا من تمركزه في الحكاية الأولى
وتصدره للأحداث، ويصبح هنا عبدالمقصود هو مركز الأحداث، وهذا عين ما يعنيه دريدا
في التفكيكية بـ " نقد التمركز critic of centrcity" فالمركز شيء ايجابي لحركة
الدلالة والمعنى، ومع غياب المركز يتلاشى النص ويتبعثر يمينا ويسارا، ولكن أن يظل
المركز مطلقا فهذا يعني التمركز أى أن تقوم بنية مركزية تدعي لوحداتها النموذج
المتعالي على النص كله، فهذا كله يجعل النص جامدا وساكنا ومملا عند أنصار
التفكيكية.وتكون نهاية عبدالمقصود بالموت كما حدث في الحكاية الأولى تؤكد نزعة
الكاتب التفكيكية .
وفي الحكاية الثالثة والتي تحمل عنوان "
المدرسة" وبطلها صلاح رفاعي الذي
يلقي حتفه في نهاية الحكاية.. وهكذا هي النهاية المألوفة لكل حكاية بالموت والهدم
والتقويض، وكأنها نهايات تفكيكية مقصودة. وكذلك تنتهي الحكاية الرابعة"
السينما" كبقية الحكايات الثلاث السابقة بموت ثريا وسلوى وعبد الباقي بجانب
هدم وتقويض السينما القديمة المحطمة الأبواب والنوافذ.
بينما تحمل الحكاية الخامسة ( قسم الشرطة) ذلك الصراع
المحتدم بين جبروت الشرطة وتسلطها وبين رد الفعل من الجماعات الدينية المتطرفة،
تطرف يواجه بتطرف أشد، والذي ينتهي بالعثور على الضابط ذبيحا خلف القسم ليسدل ستار
هذه الحكاية على جثة حسام رجب رفاعي وقد هرستها السيارة وشوهتها أقدام الخيول
ببشاعة. وهكذا يعكس موت البطل في كل فصل
تلك النزعة التفكيكية التي تعني موته بالنسبة للقارئ وليس الموت الحقيقي لأنه
سيظهر بصورة هامشية في بقية الرواية، هو فقط تحويل للفكرة المركزية إلى فكرة
هامشية. وهذا عين ما يميز الأدب التفكيكي عن غيره؛ ففي السرديات البنيوية يتم
التعويل على البطل، وموت البطل فيها يعني موت النص. كما تقتضي أدبيات التفكيك أن
البطل لا يملك الفكرة ولكن النص هو الذي يملكها وهنا يكون البطل جزء من النص وليس العكس.
وفي الحكاية السادسة( بيت الثقافة) نلاحظ التكرار التفكيكي هنا يظهر في الأسماء
والتجارب ويصحبه الاختلاف، فتبدو كلعبة ضد مبدأ السيطرة والقمع على المستوى
اللغوي- المقالي.كذلك الأمر في الحكاية الختامية " البيت "، والبيت هنا
بيت رفاعي أفندي وهو حاضر رغم الغياب، تهدم البيت بعدها ... وتشتت شمل سكانه ..
وتشير الرواية إلى الموت الحتمي وإلى الدمار والإزالة
وهذا يعكس تأثر التفكيكية بالوجودية وأن التفكيكيين هم الأبناء الشرعيين
للوجوديين. وهذا ما عبرت عنه الرواية بامتياز في كل حكاياتها.
ثانياً: النزعة التفكيكية في البناء
1- السرد
يسيطر الراوي على عملية السرد بصورة تكاد تكون تامة، فهو
يروي من خارج الرواية، فيغدو الراوي مصدراً لكل المعلومات التي تقدم عن الشخوص
والزمان والأمكنة في كافة الحكايات، كما يغدو المتلقي أسيراً لما يقدمه الراوي من
معلومات. وقد أثَّر هذا بطريقة سلبية على
ظهور مكنونات الأشخاص وأنات المشاعر، ولم تظهر بصورة جيدة هموم أبطال الرواية ولا
هواجسهم ولا أشواق أرواحهم ولا تصوراتهم عن الناس.
وكانت الجمل الحوارية تظهر كفواصل بين الفقرات السردية،
ولم يحدث ولو لمرة واحدة على طول الرواية
أن تم حوار ثنائي بجملتين متتاليتين، وإنما سيطر السرد على لسان الراوي لكل
الأحداث ثم تأتي جملة حوارية كحد فاصل ينهي الفقرة السردية السابقة أو تكون بداية للفقرة التي تليها.
واستفراد الراوي بالحكي يؤكد نزعته التفكيكية في خلق
عالمه الفريد بعيداً عن أية تدخلات أخرى وضد أي نسقية معروفة أو منهجية يمكن أن
يتوقعها المتلقي وضد كل ما هو ثابت حيث يموت بطل كل حكاية في نهايتها، ويهدم الكاتب الرواية بأكملها ليعيد بنائها مرة
أخرى من منظور جديد ومن خلال بطل جديد يصبح هو مركز الأحداث وبقية الأبطال في
الهامش، فكما يقول بيير.ف. زيما " إن مركز آخر ربما يكون حاضراً، وهذا
الانتقال من مركز إلى آخر لا يرتقب غياباً ولا حضوراً، ولا يحل شيء محل شيء"([7]). وبالتالي ظهرت السرديات السبع
رهينة إبداعات التفكيك.
ولكن يُحسب للكاتب توظيفه لمنهج الحكي بذلك الأسلوب
الانسيابي البسيط، ونلحظ أيضاً أن أسلوب الرواية هو نفسه أسلوب القصة القصيرة، حيث
يمكن النظر إلى كل حكاية على أنها قصة قصيرة يمكن قراءتها بمفردها مستقلة، حيث
يغلب على الرواية التكثيف والإيجاز رغم تحولات الزمن عبر ثلاثة أجيال متعاقبة في
عمر الحياة الروائية داخل النص والتي تتحرك وفق القدرة الإبداعية على بناء شخصيات
تحرك تفاصيل هذه الحياة وفق الرؤية التفكيكية التي تبناها الكاتب. وقد تجلى
الإيجاز والتكثيف في خلو الرواية من الشخصيات المسطحة والتي تصيب كثير من الروايات
بالترهل حيث أن حذف أية شخصية من الشخصيات المختلفة سوف يؤدي بلا شك إلى وجود خلل
بنائي لا يمكن تجاوزه. كما برع المؤلف عبر سردياته السبع في بناء علاقة حميمية بين
كل عناصر النص فبدا ظهور الشخصيات واختفائها بدون خلل يعيب السياق الفني رغم
النزعة التفكيكية الواضحة. كما لا يفوتنا أن ننبه على ميزة السرد بضمير المتكلم
وهو الحفاظ على جو واحد يسود الرواية من أولها إلى آخرها كما أذاب الفروق الزمنية
والسردية بين السارد والشخصية والزمن.
2- الشخوص
عمل مبدأ التكثيف والإيجاز الذي ساد الرواية على تقليل عدد الأشخاص في الرواية بقدر الإمكان،
حيث دارت حول أسرة رفاعي أفندي ( الشخصية المحورية) وأولاده الخمسة وبعضا من
أحفاده..
فتضم الرواية
شخصيات محورية وأساسية كـ: رفاعي أفندي وزوجته مبروكة وأبنائهما الستة: حسن، صلاح
وزوجته سعاد، رجب، سيد، حمدي وزوجته زينب وابنتهما عزة، ياسمين وزوجها عبدالمقصود
وابنهما ناصر، وسلوى صلاح، حسام رجب، عبدالرحمن حمدي وزوجته ليلي البدينة، إلى
جانب العم عبدالباقي والرائد فتحي الجزار، والصول حلمي.
وشخصيات ثانوية مثل الشيخ عبيد والشيخ سالم والدلالة
وناظر المدرسة والخالة ثريا والخواجة جون، أسامة، الثلاثي محمد، مدير نادي الأدب،
هذا فضلا عن شخصيات هامشية جدا ظهرت واختفت. إلى جانب وجود أشخاص حقيقيين لهم وجود
في عالمنا الواقعي مثل الشيخ حسن البنا، والشيخ عمر عبدالرحمن اللذان ظهرا في الحكاية
الأولى كمقدمة للجماعات الإسلامية التي سينضم إليها حسام رجب رفاعي في الحكاية
الخامسة، ثم طنطاوي بك عضو البرلمان، وسعد زغلول، والأمير فاروق وجمال عبدالناصر،
وأنور السادات.
3- المكان
عمد الروائي إلى ربط الشخوص بالمكان، ومن ثم بدا تأثير
المكان في قيمهم وحياتهم قوي جدا، كما بدا إحساسهم بعناصره المختلفة واضحا جدا
لدرجة أن المكان لا يشكل فقط خلفية للأحداث بل هو محور الأحداث، فالرواية عبارة عن
حكاية مكان وليست حكاية أسرة، أو إذا شئنا القول حكاية مكان من خلال حكاية أسرة
رفاعي أفندي؛ حيث تحفل الرواية بمحتويات المكان؛إذ تفيض حكاياتها الوصفية بتعلق
الأحداث بالمكان بشكل لا يمكن معه الفصل بينهما، إن المحطة( الحكاية الأولى) هي
التي جاءت برفاعي الصعيد ليسكن سنورس عاش في المحطة ومات بها، وفي شارع سعد زغلول(
الحكاية الثانية) عاش عبد المقصود ومات به، وفي المدرسة( الحكاية الثالثة) عاش
صلاح رجب رفاعي ومات بها، وفي السينما
( الحكاية الرابعة) عاش العم عبد الباقي ومات بها، وفي قسم الشرطة جرت
أحداث (الحكاية الخامسة) التي شهدت موت حسام رجب والرائد فتحي الجزار وفي بيت
الثقافة(الحكاية السادسة) جرت أحداث قصة حب بين عبد الرحمن وليلي وفي
البيت(الحكاية السابعة) كانت النهاية بحثا عن الوجود المتلاشي.هي تفكيك للمكان
للتعريف به والوقوف على حقيقته.
4- الظواهر
الأسلوبية
تبقي التكرارية هي أهم الظواهر الأسلوبية في (رواية من
حكايات سنورس)، والتكرارية بالمعنى التفكيكي هي العملية التي تتيح لأي منطوق أو
مكتوب أن يندرج في سياق مغاير، ومختلف في كل مرة لما كان عليه من قبل. فالنص حسب
هذا المفهوم يتكرر، ويتكرر في شكل مغاير، فهو في كل مرة النص نفسه وفي كل مرة نص
جديد، والتكرارية تختلف عن الإعادة فالأخيرة تطابق نفسها ولا تغايرها([8]). فالتكرارية إذن تفضي إلى وجود
اختلاف في الإعادة؛ حيث تنكشف حجب معاني أخرى حسب السياق لنفس الجمل المعادة، فهي
كما يقول زيما " لعبة ضد مبدأ السيطرة والقمع على المستوى اللغوي،
المقالي"([9]). .. ومن أشهر الجمل التي تكررت: " يبدو أنه كان حلما"( ص 8،
ص17)، " أين القطار" ( ص 8، ص18)، " أضاع نفسه"(ص29 ، ص69)..
ونلاحظ اختلاف المعنى في كل مرة؛ فالجملة الأولى
" يبدو أنه كان حلما" -علي سبيل المثال- قالها رفاعي أفندي في
المرة الأولى للدلالة على يأسه من وصول القطار، وقالها في المرة الثانية لتدل على
التباس وتشابه بين الشيخ حسن البنا والشيخ الضرير عمر عبدالرحمن فظن أن الشيخ
البنا قد وصل المحطة مرة أخري بعد موته ولكنه وجده شخصا آخر لا يعرفه.
5- الزمان
دارت أحداث الرواية في الفترة ما بين الثلاثينات
والتسعينيات من القرن الماضي، بداية من بداية إنشاء محطة قطار سنورس وحتى مقتل
السادات وظهور الجماعات الدينية المتطرفة على الساحة. وإن لم يحدد الروائي الزمان
بشكل محدد، ولكن الأحداث قد قامت بتحديده بشكل تقريبي. وقد برزت نزعة الروائي
التفكيكية في استخدامه لعنصر الزمان، حيث بدت كل حكاية في الرواية لها زمانها
الخاص الذي يبدأ وينتهي، ثم تأتي الحكاية الثانية لتشتبك مع جزء منه ليس هو
بالضرورة ما أنقضي في الحكاية الأولى ولكن من الممكن أن تعود إلى الجزء المنقضي في
الحكاية السابقة وتأخذ أي لحظة لتجعلها نقطة البداية... وهنا يصدق قول التفكيكيين "
إن التفكيك استراتيجية بلا حدود، فعل ممتد وعابر"([10]). وعلى هذا فإذا كانت التفكيكية ضد النسقية وضد المنهجية – كما يقول عصمت
نصار([11])-. فإن الكاتب تخلى عن كل نسقية وكل
منهجية في استخدامه لعنصر الزمان مما يعكس نزعته التفكيكية الواضحة.
6- اللغة
استخدم الكاتب لغة سهلة بسيطة، لغة أقرب ما تكون إلى
الفصحى الدارجة، ابتعدت عن التعقيد واتسمت بالانسيابية فهي أشبه بجدول ذي طبيعة
متجانسة تستدعي الجملة فيه لاحقتها. وقد ساعده على ذلك سيادة اللغة السردية على
أكثر من تسعين بالمائة من لغة الرواية بينما جاء الحوار في جملا مفردة متقطعة
...فلم نجد ولو لمرة واحدة جملا حوارية جدلية على الإطلاق... وعلى الرغم من أن
الكاتب استخدم بعض التعبيرات المتداولة إلا أنه نأى عن استخدام أية تعبيرات
مبتذلة من شأنها أن تهبط بالأسلوب في بعض
مناطقه أو تخرجه عن النطاق الفني الرفيع...وابتعدت أيضا الجمل الخطابية والاطنابات
والترادفات تبعا لمبدأي التكثيف والإيجاز فبدت الجمل اللغوية بعيدة عن أية نتوءات
ساعدت الكاتب على صياغة جمل لتصنع مشاهد بصرية أقرب للغة الصورة السينمائية ساعدته
على تفكيك مدينته وإعادة النظر إليها من منظوره الخاص. وأكثر ما يؤخذ هنا على
الكاتب أنه لم يعط الحرية لشخوصه لينطقوا جملا حوارية كل حسب مستواه الثقافي، وأبى
إلا أن ينطق الشخوص بلغته هو؛ فأفقد الرواية كثيرا من الحيوية والديناميكية التي
كانت ستعكسها التعددية الأسلوبية.
7- النتائج
وإذ قد بلغت الدراسة منتهاها، يمكن
تسجيل النتائج الآتية:
-
إن رواية " من حكايات سنورس" هي رواية مفعمة بالتفكيكية، حيث قام
الكاتب بهدم الكل من أجل بناء وحدته السردية، وتسليط الضوء فقط على النقطة
المركزية التي تعددت بتعدد الحكايات السبع التي يعتبرها بؤر الأحداث، وتعد هذه
المراكز السردية في الغالب نقطة هامشية ثانوية ولكن الروائي المفكك يجعل منها مركز
الأحداث فيعيد قراءة عالمه السردي انطلاقا منها، فهو لا ينقد المركز بل ينقد
التمركز المطلق لفكرة معينة.
-
عبرت " التكرارية " بمعناها التفكيكي المتداول في الرواية عن عدم
ثبات المعنى وانهيار العلاقة بين الدال والمدلول بل وتحطيم كل العلاقات بين كل
الثنائيات: الدال والمدلول، الغريب والمواطن، الواقع والمثال، الحلم والحقيقة،
الخير والشر، المذكر والمؤنث.لإقرار حقيقة المتردد اللايقيني في عبارة (لا هذا ولا
ذاك).
-
يعكس موت البطل في كل فصل من فصول الرواية تلك النزعة التفكيكية التي تعني
موته بالنسبة للقارئ وليس الموت الحقيقي لأنه سيظهر بصورة هامشية في بقية الرواية،
هو فقط تحويل للفكرة المركزية إلى فكرة هامشية. وهذا عين ما يميز الأدب التفكيكي
عن غيره؛ ففي السرديات البنيوية يتم التعويل على البطل، وموت البطل فيها يعني موت
النص. كما تقتضي أدبيات التفكيك أن البطل لا يملك الفكرة ولكن النص هو الذي يملكها
وهنا يكون البطل جزء من النص وليس العكس.
-
كما عبرت نزعة الهدم والتقويض لمعظم المنشآت في الرواية: المحطة والسينما
ومركز الشرطة والبيت، والموت لمعظم
الشخصيات وضياع الباقي وتشتته عن نزعة وجودية تعمل على تعضيد الرأي القائل بأن
التفكيكيين هم الأبناء الشرعيين للوجوديين.
- أوغل الكاتب في تفكيك
مدينته فتماهت وتلاشت وفقدت ما يميزها عن غيرها فلم يذكر سواقيها ولا أوديتها ولا
مصارفها...فالمحطة والشارع وقسم الشرطة
والسينما والمدرسة وبيت الثقافة والبيت..ما هي إلا مكونات في كل مدينة مصرية ..فلو
استبدلنا اسم سنورس من عنوان الرواية باسم أي مدينة أخرى لما تغير في الأمر شيء
..ولكننا يمكننا القول أن التفكيك قد أخرجها من حيز المدينة المخصوصة في المكان والزمان إلى حدث عام ومدينة
تشبه كل المدن تقبل تعدد الرؤى ومختلف التفسيرات والتأويلات، بل يمكننا خلق رؤى
أخرى لم يفصح عنها الكاتب إذا نظرنا إليها من منظور باقي الشخصيات التي لم تتمركز
في الرواية.
الهوامش
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق