2015/12/17

قراءة في ديوان سماوات لأبجدية المطر للشاعر بغداد سايح بقلم الدكتور عبد القادر لصهب



قراءة في ديوان سماوات لأبجدية المطر للشاعر بغداد سايح
بقلم: د.عبد القادر لصهب
قبل أن أغوص فيما يخزّنه لنا هذا الديوان من فيوضات جمالية وتدفّقات شعريّة فإنني أؤثر التعرّج على شاعريّة بغداد سايح كواحد من أولئك الذين رسموا بالحرف لوناً لطفولة الشعور، فهو شاعر متدفّق الشاعريّة، ناظم حسَن النظم والتأليف، رصين السبك، شارد الصورة، عميق الإيحاء، وهذا ما يتجلى من الديوان الذي بين أيدينا، وسأبدأ من العنوان، فطبعا كما تعلمون العنوان يعتبر بمثابة نص مُوازٍ أو ما يعرف بلغة النقد بالعتبة النصيّة، فالعنوان عتبة الديوان وبدايته وإشارته الأولى، وهو كذلك من العناصر المجاورة والمحيطة بالنص ككل، فهو فيض الخلْق الأول حيث يسكن هاجس الدفق الإبداعي، وهو كعتبة يشكّل نصّاً موازيا أو كما يقول الناقد محمد بنيس العنوان يشكّل العناصر الموجودة على حدود النص داخله وخارجه في آن، تتصل به اتصالا يجعلها تتداخل معه إلى حد تبلغه فيه درجة من تعيين استقلاليته وتنفصل عنه انفصالا يسمح للنص الداخلي كبنية وبناء أن يشتغل ويُنتج دلاليته، وكما يعبّر كذلك سعيد الأيوبي فإن مصطلح الموازي الذي يجعل كترجمة لكلمة "بارا" (الفرنسية) بمعنى المحاداة والتفاعل معه، وتعني في نفس الوقت الاقتراب أو القرب والبعد، المشابهة والاختلاف، الداخل والخارج، وفي الوقت نفسه ثانويا تابعا للنص، فهو ليس فقط في جانبي الحدود التي تفصل الداخل عن الخارج، إنه الحدود بعينها والستار الذي يشكّل غشاءً شفّافاً بين الداخل والخارج، فيصنع بذلك غموضها تاركا خروج ما هو داخلي ودخول ما هو خارجي، إنه يفصلهما وفي  الوقت نفسه يجمعهما( أي دلالة العنوان ودلالة النص)، وهكذا نقف في هذا الديوان على عنوان يتستّر خلف غموض دالٍّ، لأن هناك غموضا لا يقدّم أيّ بُعْدٍ دلاليٍّ لكنّ هذا الغموض الموجود في هذا الديوان له إيحاءاته التي تصنعه، قلنا أنه يتستّر خلف غموض دالٍّ أي خلف صورة هلاميّةٍ غير واضحة المعالم المشهديّةِ ظاهرا لكنّها شفّافةُ الغزْلِ في عمق الأبجديّة التي تصنعها، أبجديّة رسمها الشاعر من لغة المطر، المطر كسكونٍ وكثورةٍ، هو الصمتُ والبوح في تجليات تؤطرها رمزيّة المطر باعتباره عنواناً للخصب ودفقاً للحياة المتجددة، حياة تحرك اللغة لتنبثق منها أبجديةٌ أخرى أكبر من محدوديّة الحرف، إنها أبجديّة سماويّةٌ بعلوّ وسمُوّ لغة الشعر باعتبارها لغةَ للشعور، فهل يمكن للغة أن تحصر بين دفّتي أبجديّتها المحدودة دفقات الشعور؟ لا يمكن، وإذا تركنا العنوان كوسْمٍ وكوشْمٍ لجراحات القصيد، فإن القصيدة ذاتها تصنع جماليّتها من ذلك التراصّ الجماليّ لفيض الحرف المتدفّق شعرا وشعورا، فقصائد بغداد سايح تضمن تميّزها الأوّليّ من شكل القصيدة ذاتها المبنيّ في حالتها البصرية على شكل اللافتة التي تصبح بمثابة شدّ انتباه القارئ، فالشكل في الظاهرة الشعرية هو تعبير عن العلاقة الباطنية ومنهج للتنظيم وتفاعل عناصر الظاهرة وعمليّاتها بينها وبين نفسها وبينها وبين البيئة أو ما يؤطر النص من حيثيات تعبيرية وسياقات دلاليّة ليحيل الشكل بذلك إلى المضمون، حيث إن تطور الشكل والمضمون هو تطور جانبيّ للظاهرة الشعريّة نفسها وتداخلهما يؤدي قطعاً إلى ظهور التناقضات والصراعات واستبعاد الشكل بغية إعادة تشكيله، وهذا لما لهذين العنصرين (يعني شكل القصيدة ومضمونها) من فائدة في وحدة وتكامل النص، فالمضمون هو المحصلة الكلّيّة للعناصر التي تكوّن أساس الأشياء وتحدّد وجود أشكالها وتطورها وتتابعها، ونحن لا نعني هنا بالشكل ما هو مرسوم أمامنا من إطار خارجي للنص فحسب بل إنه أكبر من ذلك، وعلى حد تعبير الأستاذ عز الدين إسماعيل فالشكل ليس ما يمكن أن نتخيله بالرؤية البصرية للقصيدة مكتوبة أو مقروءة، الشكل هو ما يريد أن يقوله الشاعر لغةً، صورةً وتركيباً، وكل قصيدة لها تركيبها ولغتها وصورها، فالشكل غير مفصول عن القصيدة، والقصيدة كما يقول جابر عصفور تكون مرتبطة بالشكل الكلّيّ ولكنّ داخل هذا الشكل هناك أشكال عديدة تجعل الحديث عن قصيدة لا يتكرر، ونصوص الديوان "سماوات لأبجدية المطر" وإن بدت تتظلل تحت وحدة موضوعية واحدة هي الأنثى في سموها الشعري فإنها غير مترابطة من الناحية العضوية رغم ذلك التلاقح الموجود بين النصوص، فكل قصيدة هي تجربة فريدة ومولود جديد لا يربطه بما قبله شيء ولا بما بعده شيء، وهذا ناتج عن الحالة الشعورية أو النفسية التي تختلف من قصيدة إلى أخرى، وبهذا يصبح مفهوم الشكل المشار إليه آنفا واضحاً جليّاً، فهو الشكيل الزمانيّ والمكانيّ للقصيدة أي أنه مرتبط بحركة الزمن في الإيقاع الصوتيّ للحرف وكذا المظهر الشكلي العام للنص، أما الجانب الثاني الذي يميّز هذا الديوان فهو انزياح الشاعر نحو لغة تتماوج فيها عناصر التراث الشعريّ بفتوحات الحداثة، فيمتزج عبق القصيدة العربيّة القديمة بتلوينات الشعرية الحديثة التي لا تقف عند عتبات فخامة اللغة وجزالة اللفظ بل تتجاوز حدود اللغة إلى فضاءات الرؤية التلويحية للغة الشاعرة، فالشاعر بغداد سايح حينما ينفذ إلى عناصر التشكيل في قصيدته إنما ينفذ من خلال اللغة، إذ حينما يستعملها كتعبير إنما يقوم بعملية تشكيل مزدوجةٍ في وقت واحد، أي إنه يشكّل من الزمان والمكان في القصيدة بُنيةً ذات دلالة كما يقول عز الدين إسماعيل، فنمط القصيدة في هذا الديوان ليس ذلك النمط الهادئ الواقف على سحنات الصمت وإنما هو انفجار باللغة و في اللغة، انفجار دلاليٌّ له زخمه التعبيريّ وحركته الدلاليّة المعبّرة التي تشكّل رؤيا تتوزّع بين الكلّيّة والتجزيئيّة، ذلك أن شكل اللافتات الشعريّة عموماً هو شكل نضّاح بالرؤى والصور، وعلى رأي سارة حسين جابري فإنه إذا كانت لافتات الشوارع تحتاج إلى ألوان وخطوط ورسومات تزيدها إيضاحات وإشارة، فإن اللافتة الشعرية بدورها تحتاج إلى هذا النوع من الأخيلة حتى تخطف أنظار الجمهور وتوجّه مواقفه، وليست الصور الجزئية فقط هي ركيزة الشاعر في تعاطيه مع قضية الخيال والرسم بالكلمات بل إن القصيدة في هذا الديوان كلها أو في مجملها صورة متكاملة الأجزاء من أول سطر إلى آخر عبارة، فهو شاعر يرسم بالكلمات كتشكيل خياليّ ما قد تعجز الألوان عن تجسيده شكلا بصريّا، وكمحصلة للقول فإن بغداد سايح شاعر مغرق في الرومنسية، وحينما أقول الرومنسية هنا فلا أقصد الرومنسية التي تتغنى بالأنثى إنما هي رومنسية تتأبّى إلا أن تكون تعبيرا عن جمال فضفاض لا تحسن رسمه إلا ألوان لأبجدية المطر.

ليست هناك تعليقات: