قراءة في المجموعة القصصيّة ( كمثل ظلّه )
لسعيد موفقي
بقلم: عبد الله لالي ( الجزائر )
أَوَّلُ صَرِيفِ القَلَم..
وأتوا البيوت من أبوابها.. !
وإذا كان الباب نصفَ مفتوح فإنّك تُقدّم
رجلا وتؤخّر أخرى، لكنّك لا تستطيع أن تستأذن ثلاثا فإمّا أُذن لك وإلّا رجعت..
ذلك هو باب المجموعة القصصيّة ( كمثل
ظلّه ) للأديب والنّاقد الأكاديمي السعيد مُوْفقِي[1]،
نصفُ مفتوح ونصفُ مغلق، يغريك بالدّخول وتجعلك رهبة الـمَوْلج تتردد مرارا قبل أن
تقتحم الصرح (اللّجة ) ولا تحسبه، لأنّ قواريره متشظيّة هنا وهناك تجرح وتُدمي..
مجموعة قصصيّة مرصّعة بأربع
وأربعين لوحة قصصيّة ( فارقة ) في ما يقارب التسعين صفحة، كأنّها تسع وتسعون رِواقا
مفتوحا للفنّ القصصي المختلف تماما عن المعتاد، بدءا بالعنوان الذي جعلني أقف عنده طويلا
وأتأمّله بعجب، لا لغرابة مدلوله أو صعوبة معناه ولكن لاختلاف تركيبه عن المألوف..
العنوان الصّادم:
العناوين عادة تكون مركّبة من مبتدإ
أو خبر، وأحيانا من جملة فعليّة، لكن أن يُشكلَ العنوانُ من صورة تشبيهيّة ( كمثل
ظلّه ) المفتوحة على كثير من التقديرات، كأن تكون خبرا لمبتدإ محذوف تقديره ( هو
كمثل ظلّه ) أو خبرَ فعل ناقص ( كان كمثل ظلّه ) وما شابه، من تلك ( الظِلال )
اللّغويّة المحتملة؛ فهذا شيء مختلف وغير
معهود في لغة العنونة؛ ما يحدث نوعا من صدمة التّلقي في ذهن القارئ، وكأنّ العنوان
غير مكتمل فينتظر القارئ ما يكمله أو يرمم تركيبه، فيضيف له من عنده ما ييسر عليه
مولجه للدّخول إلى عالم سعيد موفقي الفاتن، والغارق في عوالم ترواحت بين العجائبي
والسّحري والواقعي المزلزل..
وفي الجموعة أيضا بضعة عناوين على
المنوال نفسه مثل ( كتفاصيل ثيابها )، و( باللّون الأحمر ) و( ومن على شاكلتها )
و( برأس سافر ) ( منذ بدء المسافة ). وقريبٌ من مثل هذه العناوين تلك التي تشكّل
جملة فعليّة مثل ( تقتفي أثرا )، و( تعدّ خطواتها )، و( تعانين من فقد شهيّة
السّعادة ). وهي عناوين تفتح شهيّة السؤال بل تطرحه بقلق وإلحاح، وتجعل القارئ
يهجم على النّص كمن يريد اكتشاف سرّ الأسرار، ولا يخيب ظنّه إذ يجد ما يروقه ويشبع
فضوله، من لغة قويّة محكمة السّبك في سلاسة بيّنة، مع تطريز مدهش بمفارقات عجيبة
ونكهة سخريّة لافتة.
من مائدته القصصيّة:
على شاكلته أحاول أن أنسج عنوانا
يشبهه، لأقف على ضفاف نصوصه سابرا طريفَ معانيها وجميل صورها، وبديع أسلوبها المفارق
والمختلف في كثير من نصوصه، ولا أريد أن أتبع منهجيّة معيّنة أو طريقة علميّة جافة
تجعل من الإبداع ( مستحثّات جيولوجيّة ) أو بقايا أثريّة لها في الموت تاريخ
عريق..
أقول كمثل لغته الحيّة الدافقة:
لقد تناول الأستاذ سعيد موفقي جملة
من الموضوعات التي شدّت انتباهي وراقتني معالجته لها بأسلوبه القصصي الصّادم ..
وأولى هذه الموضوعات قضيّة:
خرافة ( الحداثة )..
وقد عرض لها المؤلّف في كثير من
القصص، نذكرها بالترتيب: قصّة ( كتفاصيل ثيابها ) وهي القصّة الثانية في المجموعة
ثمّ القصّة التي تلتها ( تقتفي أثرا ) و( ميثاق شرف ) و(عتبات المدينة) و( تعانين
من فقد شهيّة السّعادة ) و( منذ بدء المسافة )..
ومن خلال هذه القصص نستجلي موقف
الأستاذ السعيد موفقي من الحداثة، وهو موقف يركن إليه كثيرٌ من المبدعين المعتزّين
بانتمائهم الحضاري والمعتدّين بذخائر أمّتهم التي لا تنفد وعطاءات أبنائها
المتلاحقة وإن تعثرت في بعض مراحل التّاريخ، وانتكست بسبب الموجة الاستعماريّة
الحاقدة التي جرفت الكثير من مقدّراتها في القرنين الماضيين.
السّعيد موفقي يقف من الحداثة
موقفا ساخرا مناطحا، ويراها من التفاهة بحيث يصفها وصفا مقذعا جدّا. يقول في
القصّة الأولى التي سمّاها ( كتفاصيل ثيابها ) - وفي التسمية أيضا إيحاء بوجوب
الستر والإخفاء كأنّه شيء يجب أن يخجل منه - يقول عندما يتحدّث عن مذكراتها
الخائبة:
" ثمّ كتبت في مذكرتها
الخائبة يروقني إيقاع الأشياء.. فصارت قصيدة حداثيّة " وهي سخريّة لاذعة
وموجعة يعبّر بها عن موقفه من الحداثة بوجهها البشع، الذي اكتسحت به السّاحة
الأدبيّة، وصارت غولا يفغر فاه ويبرز أنيابه في وجه كلّ مبدع أصيل، ينسج قوله شعرا
أو نثرا على غير النّهج الغربي، ويَصِمُهُم بالتخلّف والرّجعيّة، والانغماس في
بوتقة الماضي السّحيق، ويروقني أن أشاركه الرأي في هذه القضيّة، لأنّ الحداثة سحرت
الكتّاب سحرا رهيبا حتّى خُيّل إليهم أنّها تسعى، فأنّى لنا بعصًا مثل عصا موسى
تلقّف ما صنعت..
جُعَلُ الحداثة يلوّث بياض الورق
:
في قِصّته الثالثة ( تقتفي أثرا )
يسخر سعيد موفقي من الحداثة سخريّة مرّة، بحيث يصور امرأة تتطفّل على الإبداع
وتزاحم أهله دون قدرة على الإبداع الحقيقي، وتتوسّل إلى ذلك بالاشتراك المتسمرّ في
إحدى الجرائد، ونتيجة لإلحاحها المملّ والثقيل، تنشر لها تلك الجريدة ما عبّر عنه
الكاتب بقوله:
" وذات مساء خرج من صلبها شيء
بحجم جُعَل يدحرج شيئا مكوّرا في هامش جريدة الحداثة "
والسّخرية هنا سخريّة مركّبة، أعطى
لها الكاتب أبعادًا تصويريّة متعدّدة:
فأولا عنوان القصّة نفسه ( تقتفي
أثرا )، الذي يوحي بالتبعيّة والإمعيّة، وكأنّها تعبّر عن معنى الحديث النبوي
الشريف بشكل معكوس " لَتَتَّبِعُنَّ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ
لَسَلَكْتُمُوهُ "، قُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى
؟ قَالَ : " فَمَنْ ؟ [2]"، فهي ومن على شاكلتها من دعاة
الحداثة يتبعون أثر الحداثة الغربيّة عن جهالة وعماية، شبرا بشبر وذراعا بذراع..
وثانيا: عبّر عن نتاجها الإبداعي
التّافه بقوله:
" خرج منها شيء " ليبالغ
في تحقيره بوصفه أنّه مجرّد شيء، ثمّ يمعن في المبالغة حين يضيف قائلا: " بحجم
جُعَل "، وجُعَل كما لا يخفى هو ذكر الخنفساء، وهو من أخسّ الحشرات وأرذلها
بسبب ما هو فيه يوميّا، إذ لا يكفّ عن دحرجة أرواث الحيوانات، وكأنّ الكاتب يقول
من طرف خفيّ، أنّ هذا النتاج الذي كتبته هذه المرأة، مُطاوِلة به المبدعين؛ لا
يبلغ أن يكون مجرّد ( روث )، بل هو لم يقل ذلك صراحة كأنّما استكثر عليها حتّى مجرّد
تسمية الروث فسمّاه ( شيئا مكوّرا ).
ثمّ لتأتي السّخرية الأبلغ عندما
يصف الجريدة التي نُشر فيها هذا ( الشيء المكوّر ) بأنّها جريدة الحداثة، وعَرَّفَها
ولم يُنَكِّرها، فأعطى صفة العَلَمِيَّة كأنّها النّاطقة الرّسميّة بلسان تيار
الحداثة كلّه، صورة مشهديّة ساخرة تمثل تفاهة الطالب والمطلوب؛ ( المبدع الحداثي )
و( الإبداع الحداثي ) في أحطّ حالاتهما.. لو كتب عشرة نقّاد كبار في ذمّ الحداثة
وسوّدوا عشرات الصّفحات في ذلك؛ لما مبلغوا بعملهم ذلك عُشر ما بلغته هذه الصورة الفنيّة
الماحقة.. والمحقّة !
وإشفاقا منّا على الحداثة التي تغوّلت
واغتالت إبداعا قيّما وتراثا نفيسا، تغار الأمم منا تارة لأنّ ورثتُه ، وتسخر تارةً
أخرى لأنّا ورثةٌ سفهاء، ويشبه حالُنا حالَ اللّواتي قال فيهن الشّاعر:
كأنّهن وجلدي إذ خلون به * * أيتامُ سوء أغاروا في المواريث
ورغم ذلك نشفق عليها ونكتفي بإراد
نموذج ثالث وحسب، يمثّل موقف المؤلّف النّاقم على الحداثة المزري بها، هو قصّة (
ميثاق شرف )[3]
وفي العنوان سخريّة بيّنة و ما في المتن أشدّ وأنكى، إذ يتحدّث الكاتب عن ( رجل )
هذه المرّة يحاول أن يكتب قصيدة ( حداثيّة طبعا )، في صورة (أشلاء) ممزّعة ( أنثى
لا تخجل/ استحت اللغة / تدفّق الغمز / استرق أوزانا/ شكّل رموزا من وهم/ أصابه
الهذيان... ووقّع: هذا ميثاق شرف بيني وبين الحداثة )..
وهذا المشهد التركيبي ( المشوّش،
المبعثر ) يذكرني بقصيدة ساخرة لأحمد مطر بعنوان ( الأرمد والكحّال ) يقول
في مطلعها:
هل إذا بئس كما
قد عسى لا إنما
من إلى في ربما
هكذا سلمك الله قل الشعر
لتبقى سالما
ودائما يعمد المؤلّف إلى السُّخرية
اللّاذعة لوصف ما كتبه الشاعر الحداثي: وصفه بأنّه اعتقد أنّه سيكتب القصيدة وهو
معصوب العينين، وفي ذلك إشارة الجهل والعمى، ثمّ هو يكتب عن موضوع موبوء بزعم
يزعمه جلّ الحداثيين ( تكسير طابو الجنس ) وهو المرأة ( السّاقطة )، تلطّف
الكاتب ووصفها بقوله " امرأة لا تخجل " وذلك من رقيّه إذ لا نجد في
المجموعة القصصيّة لفظا واحدا جارحا ( يخدش الحياء )، كما يقال.
كتب الشاعر ( بطل القصّة ) نصّا (
قذرا ) إلى درجة أنّ اللُّغة استحت منه " ووضعت شيئا كالفاصلة ونقاط حذف
"، وفي جملة أخرى يغمز بها ما كتبه الشاعر الحداثي الموهوم يقول المؤلّف:
" حماري أسرع.. حماري أسرع.. حماري
أسرع... تشكلت لديه وصلة " كتب قصيدة كسرت عمود الشعر وحطّمت موسيقاه، تخللت
القصيدة زحافات وعلل تركها، (وهي من عيوب الشعر)، فتركها الشاعر عن عمد أو عن جهل،
توهّم أنّه مبدع مجدد، فهي (حداثة تركب حمارا) فلا عجب، وظنّ أنّ الجمهور يصفّق له
فقال:
" مللت الحروف، أريد أشكالا،
فرسم كلبا ينبح وهو يقضي حاجته ".
وهي تقليعة من تقليعات الحداثة
" أن يوضع في بعض تمفصلات القصيدة رسوما تعبيرة، دلالة على التجديد، وقمّة
الحداثة الإبداعيّة والفنيّة ( !! ).
وهنا لابدّ من كلمة..
كلّ من يرمي الحداثة بسهم النّقد
المسدّد يتهم بالرجعيّة والتقليديّة ويحنّط في خانة ( الكلاسيكيّة) العتيقة، وهي
تهمة جائرة بلا شكّ، يبطلها مجرّد النظر المنصف، فالحداثة في حقيقة الأمر إذا
أخذنا اللّفظ بظاهره دون التوغّل في جوهره التاريخيّ والبحث عن عوامل نشأته،
فإنّها شيء إيجابي، تعني أن يكون المبدع ابن عصره، معبرا عن مجتمعه وبيئته وزمنه
بصدق وتلقائيّة، محاولا انتاج فنّ جمالي قيّم يُهذّب الأذواق وينمّي المواهب، وهو
لا يتعارض بتاتا مع القديم الأصيل، بل يبني عليه ويتكامل معه، ويمكن أن نطلق عليه
الاصطلاح الرّائع الذي سمّاه به الدّكتور مرتاض وهو موفق فيه بنظري، إذ سمّاه (
الأَجَدّ )، فهو دوما جديد لا يبلى أبدا، حتى وإن كان معلّقة لامرئ القيس أو زهير
بن أبي سلمى مضى عليها أكثر من ألف وأربعمائة سنة، لكن فيها قيم جماليّة وفنيّة
وإنسانيّة تجعل منها تكتحل بضوء الشمس كلّ يوم..
والدّكتور السّعيد موفقي يُظهر لنا
في مجوعته القصصيّة عوار الحداثة في تمظهراتها المختلفة ضمن السّاحة الأدبيّة
العالميّة، فهي لم تعطِ وجها مُشرقا ومُشرِّفا لتيار أدبي وفنّي حديث، صار إضافة
لما قدّمته الإنسانيّة عبر الآلاف السنين، بل قدّمت صورة بشعة رذلة عن الفنّ
والأدب والإبداع، ولم يكتفِ بذلك بل شنّ حربا شعواء على كلّ ما له قيمة إنسانيّة،
أونبالة فنيّة أو سموّ أدبي بدعوى التجديد، فهدم ولم يبنِ وقوّض ولم يُعَمِّر.. !
وفي الآن ذاته كان سعيد موفقي
يعبّر عن أفكاره تلك في ثوب حداثيّ ( إيجابي )، لا يلهث وراء جعحعة الألفاظ ومصطنع
التقنيّات المخادعة، واللّعب على الموسيقى الدّاخليّة الوهميّة التي يُستعاض بها
عن الشعر المقفّى الموزون ( الرّاقي والبديع ) في شرف المعنى وسمو الأفكار، ويحلّ
محلّ القصّة الهادفة التي تقدّم إضافة نوعيّة للقارئ، فيأتي بترّهات من السرد
الهذياني المريض الذي لا يُـحـَصَّل منه معرفةٌ ولا متعةٌ فنيّة أو نسق جمليّ
يتملّى..
فقد استخدم المؤلّف تقنيّات جميلة،
وأدوات فنيّة بديعة إلى جانب جدّة الأفكار وطرافتها، مع الدّهشة والإبهار، أسلوب
يمكن أن ندرجه ضمن ( الأجدّ ) يقف معطاء شامخا على مرّ الأيّام والسّنين، لأنّه
يلامس فطرة الإنسان ولا يصادمها فيَحدث بينهما تناغم وجذب بديع، سنشير إليه في
مواضعه من هذه القراءة..
التَّنوِيعُ
الفَنِّيًّ.. وحُضُورُ التُّرَاث:
في مجموعة ( كمل ظلّه )
لسعيد موفقي عندما تصل في قراءتها واستشفاف معانيها حدّ التشبّع؛ تفتح لك آفاق
أخرى ( للنّهل ) فتقول هل من مزيد، و( ربّ ثاوٍ لا يملّ منه الثواء[4]
)..
تنويعات السّرد القصصي عند السعيد
موفقي تغريك بالإقبال على المجموعة القصصيّة متمليّا فنيّاتها بشغف، وهذا التنويع
تبدّى على مستويين؛ مستوى الشكل والبناء، ومستوى المضمون والمحتوى.
ومن البدهي أن يكتب القاص (
النّاقد ) وعين النّاقد على نصّه ترمم ثلماته وترصّع جوانبه بما يفتقده، أو يروقه
عند غيره من المبدعين..
فمن حيث الشكل نوّع المؤلّف في
قصصه ما بين القصّة الطويلة نسبيّا ( كما يقتضيه الموضوع ) وبين القصّة الومضة،
التي غدت تمثل شكلا من أشكال الشعريّة في السرد، وتلاقي رواجا كبيرا لكثافتها واختصارها
الشّديد كأنّها ( بيت القصيد ) في الشعر، الذي يحفظ ويُتمثّل به، ويجعل شاهدا في
الحوار والأبحاث والدّراسات، ومن أمثلة القصّة الطويلة قصّة ( اللّعب بالنّار )
التي بلغت أربع صفحات ونصفا، وقصّة الومضة ( بكاء ) التي هي في أقلّ من سطر بقليل،
وما بينهما تفاوتت القصص طولا وعمقا، بساطة وتعقيدا، استرسالا واختصارا، ما يجعل
من المجموعة حيقة فيحاء لا يشبع من مشمومها ولا من مطعومها.
كما
استخدم الكاتب أدوات متعدّدة في التشويق القصصي والجمالي منها:
-
حضور التراث
-
السّخرية..
-
المفارقة
-
توظيف الأسلوب العلمي والرياضي واللّغوي
-
التصوير المشهدي ( السينمائي )
حضور التراث:
ومن مميزات أسلوب السّعيد موفقي
حضور التراث العربي الإسلامي في نصّه، يوظّفه بشكل جمالي بديع، فيغدو كأنّه ابن
يومه ووليد عصره وهو كذلك في حقيقة الأمر، ومن أمثلة ذلك:
قصّة ( برأس سافر ) وفيها إحالة
مباشرة إلى قصّة الجاحظ المشهورة التي أوردها في كتابه (الحيوان)، لكنّ المؤلّف
نسج من فكرتها قصّة حديثة فيها من القوّة والإيحائيّة ما يجعلها تتفوّق على قصّة
الجاحظ الغريبة المدهشة..
روى الجاحظ في كتابه الحيوان فقال:
" قيل أنه في رمال بلعنبر، حية
تصيد العصافير وصغار الطير بأعجب صيد.
زعموا
أنها إذا انتصف النهار واشتد الحر في رمال بلعنبر وامتنعت الأرض على الحافي
والمنتعل، ورمض الجندب غمست هذه الحية ذنبها في الرمل، ثم انتصبت كأنها رمح مركوز
أو عود ثابت، فيجيء الطائر الصغير أو الجرادة، فإذا رأى عودا قائما، وكره الوقوع
على الرمل لشدة حره، وقع على رأس الحية، على أنها عود، فإذا وقع على رأسها قبضت
عليه.فإن كان جرادة، أو بعض مالا يشبعها مثله، ابتلعته وبقيت على انتصابها. وإن
كان الواقع على رأسها طائرا يشبعه مثله، أكلته وانصرفت، وأن ذلك دأبها ما متع
الرمل جانبه في الصيف والقيظ، في انتصاف النهار والهاجرة. وذلك أن الطائر لايشك أن
الحية عود، وأنه سيقوم مقام جذع الشجرة للحرباء، إلى أن يسكن الحر ووهج الرمل ".
وهي قصّة ذكرتني بمرحلة التعليم
الثانوي حيث كانت تورد في الكتاب المدرسي على أساس أن يُـمَثل بها للأسلوب العلمي،
إذ أنّ الجاحظ كان من الكتّاب الذين مزجوا بين الأسلوب العلمي والأدبي. وذلك ما فعله
الأستاذ سعيد موفقي في عددٍ من قصص هذه المجموعة، ما يجعل منها مائدة مجموعته
القصصيّة ( كمثل ظلّه ) حافلة بأطايب الإبداع والفنّ..
وإذا رجعنا إلى قصّة ( برأس
سافر ) والذي يعني الحيّة المخادعة والقاتلة وسط الرمضاء، في قصّة الجاحظ ،
فماذا تعني في قصّة المؤلّف ..؟
أهدى الكاتب القصّة للجاحظ بقوله (
إلى صاحب كتاب الحيوان ) وحين يذكر كتاب الحيوان فإنّ الذهن ينصرف مباشرة إلى
الجاحظ، وربّما في ذلك إحالة طريفة من المؤلّف للقارئ ليقرأ أو يستذكر قصّة الجاحظ
عن الحيّة..
لكن الحيّة التي سيتحدّث عنها في
قصّته هذه هي امرأة سافرة متبرّجة ( لعوب ) من المدينة، كأنّها حيّة من نوع آخر تصطاد
في هجير المدينة:
" وكعب حذائها المزعج لا يختلف عن صرير شيء تافه
.. أو حفيف أفعى تجرّدت من ثوبها في يوم حار .." والتناص واضح بينها وبين
قصّة الجاحظ، بل الكاتب هو من أشار إليه مباشرة، ولكن لو قال في وصف صوت حذئها (
المغوي ) وغيّر الجملة بعدها تماما ، لتَتَناسب مع الوصف الثاني ( حفيف أفعى تجرّدت
من ثوبها ) لكان أنسب وأكثر مشاكلة في المعنى.. ثم تحوّل الكاتب مباشرة إلى الجاحظ
وكأنّه في صحراء ( بلعنبر ) فقال:
" ضحك الجاحظ كثيرا لهذا
المشهد واشتدّ فضوله .." وكأنّه أهمل قصّة المرأة السّافرة التي كانت تجوب
شوارع المدينة بحثا عن فريسة تلتهمها، وكأنّه لا فرق عنده بين مصائد ( الحيّاة ) في
صحراء بلعنبر المزعومة وشوراع المدينة المغوية..
ولقصّة ( برأس سافر ) أخت لها،
تدلّ على اعتداد الكاتب بالتراث إلى حدّ بعيد وتوظيفه في نصّه الإبداعي عن وعيّ
كبير، فهناك أيضا قصّة ( قرون استشعار..؟؟ ) التي يصوّر فيها الكاتبُ الجاحظَ أحدَ
علماء الأحياء المحدثين وقد جلس في مكتبه وأمامه حاسوبه، ونماذج من الحيوانات
والحشرات التي يجري عليها تجاربه، لكن هذه المرّة كان بطلُ القصّة أحد حيوانات
التجارب (الجعل )، والذي يقول الكاتب عنه بلسان العصر الحديث:
" قال فيه العلماء الكثير،
لكنّهم ذمّوه، هو جعل ويسمّيه أهل هذا الزمان أبو جعل يدحرج أبد الدَّهر فضلات
وقاذورات ويفضّل البعض أن يسمّيها بالروث " طبعا هذا الكلام للمؤلّف السعيد
موفقي وليس للجاحظ، والغريب أنّ شخصيّة ( الجعل ) ذكرت أيضا في قصّة ( برأس سافر )
كما ذكرت في عدّة مواضع من المجموعة القصصيّة وكأنّه يرمز بها إلى حقارة بعض
الشخصيّات التي يتناولها في قصصه، وحتّى بعض المبدعين أيضا المتطفّلين على
الإبداع.. وعندما قرأت هذه القصّة ( قرون استشعار )، وددت لو أنّ الكاتب سمّاها (
الجعل ) أو ( الجعل المحنّط ) خصوصا أنّ عبارة ( جعل محنّط )كانت خاتمة قصّته؛
لكان العنوان أكثر دلالة على المحتوى.. وللكاتب في اختيار عناوينه شؤون وفنون..
وذكر الكاتب الجاحظ مرّة ثالثة –
ويبدو أنّه مفتون به وحقّ له ذلك - في
قصّته ( تعانين من فقد شهيّة السّعادة ) وذلك في ختام قصّته عندما قال:
" ضحك الطبيب: أنت تعانين من
فقد شهيّة السّعادة، انصحك بمطالعة كتاب الحمقى والمغفّلين وفي الصّباح كتاب
الأذكياء "
وهما كتبان شهيران للجاحظ إلى جانب
كتابه ( البخلاء )، ومن هنا يمكن أن نستنبط طريقة الأستاذ السّعيد موفقي في تشويق
قارئه وتثقيفه أيضا باستحصار التراث وتوظيفه بطريقة فنيّة خلابة، تبعث الحياة في
النّص وتجنّبه الرتابة والجفاء المقيت الذي أصاب كثيرا من القصص الحديث وجعل منه
نصّا ذاتيّا موغلا في الذّاتيّة..
أسلوب السّخريّة
وتقنية المفارقة..
يَشيع في قصص الأستاذ السّعيد
موفقي أسلوب السّخرية المرّة التي تضحكك وتبكيك في وقات واحد، تجعلك تسخر من
الأحداث وتعتصر منها ألما في آن، إنّه أسلوب لا يُتقنه إلّا أفراد قلائل من
الكتّاب، والذين يـُجَوّدون فيه أقّل من القليل، ولكنّه أسلوب يفلح في إقناع
القارئ وتحريك عواطفه واستثارتها..
ولقد استخدم الكاتب هذا الأسلوب
بشكل كبير في مجموعة ( كمثل ظلّه ) وآزره بتقنيّة المفارقة التي توقف
القارئ بشكل مفاجيء ( عمليّة كبح )، ليتأمّل ما يقرأه ويحلّل معناه بعمق، وهذه بعض
النماذج منتقاة من المجموعة، رأيتها أكثر تدليلا على الأسلوب السّاخر وتقنية
المفارقة:
-
السّخرية من ( الحداثة / المرأة / السّياسة/ بعض مظاهر
المجتمع الفاسدة)، فبالنّسبة للحداثة سخر منها في عدّة قصص سبق ذكرها، منها قصص:
( كتفاصيل ثيابها )، و( تقتفي أثرا
) و( ميثاق شرف ) و( تعانين من فقد شهيّة السّعادة ) وهذه القصص تفيض بالسّخرية
المرّة من الحداثة بدءا بالعناوين ذاتها، فالحداثة عند المؤلّف بمفهوم المستغربين
الذين ينقلون عن الغرب بعَمًى وجهالة؛ لا تعدو كونها كتفاصيل ثياب امرأة أو هي
مجرّد اقتفاء أثر أيّ أثر، وهي أيضا ميثاق شرف سخيف ( لا يملك من الشرف قيد أنملة
)، وهكذا دواليك في أسلوب بليغ ومشوّق يضع الكاتب دعوى الحداثة في مكانها الصّحيح،
ذكّرني بكتاب قديم قرأته للدّكتور فهد الهويمل[5]
عنوانه ( رماد الحداثة )، ومن المفارقات العجيبة أنّه في مثل حجم كتاب الأستاذ
السّعيد موفقي وشكله تقريبا..
وفي قصّة ( مقعّرات
ومحدّبات ) مثلا يعتمد الأسلوب السّاخر في القصّة كلّها، وفي قصّة (لزوجة) يقول:
" العالم يشهد موسم الهجرة والعودة !!!...
بعد أن نظر العم " السام " في ملف الكرة
الأرضيّة !!! " والسّخرية هنا ظاهرة في اختيار مفردات السّرد: العم (
السّام ) بدل ( سام ) وهو جناس له دلالته في تغيير معنى اللّفظة من لفظة سام التي اشتهرت
بها الولايات المتحدة الأمريكيّة إلى ( السّام ) الذي فيه معنى الهلاك، وكذلك في
لفظة ( ملف الكرة الأرضيّة ) وهي نوع من الترجمة السّاخرة لما اصطلح عليه الغرب
اليوم بتسمية الكرة الأرضيّة ( بالقرية الصّغيرة ) التي يتحكم فيها بكلّ سهولة
ويسر، ويجعلها ملفّا من الملفات يفتحه ويطويه متى شاء.. !
وفي قصّة ( ومن على شاكلتها ) ص 51 يتحدّث عن
حال امرأة مبتذلة ساقطة، فيقول بسخريّة بليغة:
" .. بسرعة بدائيّة تعتمد محرّكا بقوّة "
جحش قاصر " ..."
وفي قصّة ( قرون استشعار ) يقول في ص 59:
" نطقت خنفساء من الحيّ:
أيّ بيت يكفيك وأي جحر يأويك..."
وفي قصّة ( حروف فاتنة ) يصف بطله المتشاعر الذي بات
ليله كلّه يريد حبك قصيدة تحمل المتناقظات فيقول ص71:
" حضنتك حمّالة الحطب
وبال في فمك مسيلمة "
ولو تتبعنا قصص الجمموعة لوجدنا ثلث عباراتها سخريّة
وتهكما إن لم تكن أكثر من ذلك، وهو أسلوب فعّال جدّا في إثبات الفكرة، وشدّ انتباه
القارئ وإقناعه بوجهة نظر الكاتب أو البطل، أو من أجل تثبيت المشهد التصويري في
ذهنه فلا يمّحي بسهولة..
كما اعتمد أيضا في كثير من جمله القويّة على أسلوب
المفارقة، الذي يقف له القارئ مشدوها ومذهولا إلى أن يحفر في ذاته حفرا، ومن أمثلة
ذلك:
مشهد الموناليزا التي تحدّث عنها في قصّة ( الوقفة
الأخيرة: موناليزا ) إذ قال في ص 37:
" الفصل الأخير من الرّواية موناليزا تبدو ضاحكة
ولكنّها تبكي أيضا .. "
واكثر ما تتجلّى المفارقة في قصّته ( الومضة ) التي
بعنوان ( شهرة ) ص 19:
" نشر في كلّ الجرائد والمجلات: لا أحبّ
الشهرة..." وصورة المفارقة في هذه القصّة تترجم عن نفسها بغير حاجة إلى شرح
أو تأويل..
وربّما أسلوب المفارقة هو من الأساليب القويّة جدّا
التي تشيع في القصّة الومضة والقصّة القصيرة جدّا، فتحدث هزّة وإرباكا لدي القارئ بحيث
يتحتّم عليه الوقوف مطوّلا لتأمّل المدلول القويّ الذي يختفي وراءها، ومن ذلك
القصّة القصيرة جدّا التي عنوانها ( بطاقة انخراط ..) ص 18:
" رأى فيما يرى النّائم صورته في كلّ بطاقاتهم،
وفي المساء اكتشف أنّه يغازل زهرة نرجس "
وهذه القصّة من أروع وأمتع قصص المجموعة وتكمن قوّتها
وجمالها في عبارة القفلة المحبوكة بعناية: " يغازل زهرة نرجس " والنرجسيّة
يعبّر بها عادة عن مرض حبّ الذّات، ووهم العظمة إلى درجة أن يظنّ الشّخص أحيانا
أنّه صار محور الكون..
الأسّلوب العلمي:
ويستخدم أيضا المؤلّف الأسلوب العلمي في ثنايا السّرد
لتَتْبِيل ( قصصه ) ببصمة فارقة، فنجده مثلا في قصّة ( معلم متعامد غير متجانس )
يوظّف المصطلحات الرّياضيّة، بدءا من العنوان نفسه وانحدارا مع مضمون النّص كلّه،
والأمر نفسه في قصّة ( القائم السّادس وأخريان ) و( قرون استشعار) بينما يوظّف
المعلومات اللغويّة التعليميّة في قصّة ( ألف الاثنين وضمير الشأن ) و( جزم حروف
العلّة/ نصّ ملتبس )..
وذلك التوظيف فيه دلالة كبيرة وإسقاطات على معان
معيَّنة تُستنبط بالتأمّل الطويل، وربط العلاقات والقرائن بعضها ببعض، ما يجعل من
قصصٍ المجموعة منجما ثريّا لأفكار ومعانٍ نادرة وذات قيمة إنسانيّة كبيرة.. لو
بسطها الكاتب بالأسلوب المباشر أو الأسلوب المألوف في السّرد القصصي لجاءت باهتة
باردة لا حياة فيها، ولنضرب مثلا من تلك القص يقرّب الصورة ويوضّحها:
في قصّة ( كمثل ظلّه ) يتمثّل لنا مشهد حيّ كالخارطة
الهندسيّة يقول فيه:
" يرسم شكلا هندسيّا مثل الدّائرة تلاشى وتراها،
أخطأ صواب الحدود الكثيرة والمتشابهة، ثمّ يحدث ثقبا بعيدا عن مركزها، يتّسع صوب
قلبه .." المشهد يكاد يكون سرياليّا
..مفتوحا على كلّ القراءات لولا إشارات خاطفة في حنايا المشهد توجّه مدلوله.. الذي
يقارب إلى حدّ ما متاهة داخل المدينة بصخبها وضجيجها، وقد فَقَد البطل وجهته وتاهت
بوصلته، بحيث انقلبت كلّ البدهيّات المعروفة لديه، فالدّائرة صارت بلا أوتار،
وقطراها جانبا حدودها ونقطة رسمت بعيدا عن المركز.. كلّ شيء انقلب بطنا لظهر، أو
ظهرا لبطن ..
وهذه الصّورة تشبه إلى حدّ ما قصّة ( معلم متعامد
غير متجانس ) إذ تموج كلّها بالمفاهيم الرّياضيّة التي تومئ إلى فكرة ( التيه
) رغم كلّ المعطيات المدروسة بعناية فائقة. وتبتلع البطلَ الحفرةُ التي كانت في
بدايتها ثقبا رغم كلّ الإحداثيات والرّسوم البيانيّة التي رسمها.. إنّها نوع من
الهزيمة أمام القدر الحَـتْم..
ومن الأسالب المبتكرة التي اعتمدها الكاتب في سرده،
وليست معتادة كثيرا ، ما لجأ إليه في قصّة (كلب المدينة ) إذ بدأ القصّة وكأنّه
استأنف سردا سابقا، حيث يبدأ بعتبة يقول فيها وبشكل مفاجئ:
" وفي رواية تقول لا زال طريدًا !!!... " عتبة مدهشة محيّرة، تجعل
القارئ يتساءل: وما هي الرّوايات الأخرى ؟؟ نوع من الطُّعم اللّذيذ الذي يَعْلَق
به القارئ في أعماق القصّة ولا يخرج منها إلا بعد التّشبع بمعانيها..
تذييل..
بمقاييس الكم أو الحجم تعتبر مجموعة ( كمثل ظلّه )
صغيرة نسبيّا، لكنّها زخرت بموضوعات كثيرة ومتنوّعة وغنيّة لا تكفي بضعة صفحات
لقراءتها قراءة وافية، ويحضر فيها الفنّ الإبداعي بكثافة وزخم يكاد يزحم تلك
الصّفحات القليلة فتضيق عنه، ذلك يعود لأصالة الإبداع بالدّرجة الأولى وربّما أيضا
لأنّ المؤلّف ناقد يعرف من أين تؤكل الكتف، وكيف يُتَلطّف إلى الفنّ فيؤتى به عذبا
سلسالا من أقرب سبيل..
[1] - سعيد موفقي أستاذ جامعي، أديب وناقد أكاديمي معروف ،
من مواليد 1963 م بحاسي بحبح ( الجلفة )،
له كثير من المؤلّفات المطبوعة في القصّة والنّقد وغيرها، منها ( لحظة خجل )، و(
والفاعل ضمير مستتر وجوبا ) في القصّة، و( قراءات نقدية في القصة العربية ) في مجال النّقد وغيرها..
[2] - رواه البخاري ومسلم
[3] - قصّة ميثاق شرف ( 23 ) .
[4] - شطر بيت للحارث بن حلّزة من معلقته( آذنتنا ببينها
أسماء ) عدّلنا فيه تعديلا يسيرا ليستقيم لنا المعنى الذي أردناه ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق