بقلم: زينة السعيد
بورويسة
لم يكن من السهل عليّ اقتطاع ما يقارب الساعة من وقت الدكتور الباحث عثمان
سعدي. و قته كان أثمن حتى من الحياة ذاتها.
كم حلمت بلقائه و رجوت الجلوس في حضرته و لو لحظات فمنّ الله عليّ بجلسة
تقارب الساعة في بيته بالجزائر العاصمة. كان رجلا كبير السن، عظيم الهمة، جميل
الهيئة، على قدر كبير من اللباقة و حسن الضيافة. و بمجرد جلوسي في صالونه التاريخي
بادرني بالقول: بسرعة أخرجي دفترك و أسرعي بطرح الأسئلة التي تريدين فأنا بصدد
إعداد مقال و من الضروري إنهاؤه اليوم. أحسست بنفسي ضيفة ثقيلة الظل. و الحقيقة
أنني لم أكن قد دونت شيئا من الأسئلة، و لم يكن لي غاية سوى الجلوس مع هذا الهرم
الذهبي الذي لطالما قرأت له. و لكنه سرعان ما بدا مرتاحا في الحديث معي بعدما عرف
أنني قطعت 500 كلم لرؤيته لا أكثر و بعدما لمس فيّ حرارة الدفاع عن اللغة العربية.
القضية التي تبناها منذ سنوات. و بدأ الحديث بيننا يتجه نحو العمق عندما وجدني
مطلعة على كل أعماله و مقالاته و آرائه و حتى أسماء عائلته الكبيرة و
الصغيرة، بل و قد كنت محظوظة في تطابق
اسمي "زينة" مع اسم ابنته الصغرى المغتربة التي اشتاق إليها كثيرا، و
ترجم شوقه في جولة صغيرة داخل صالونه ليقدم لي صورة ابنته "زينة" و باقي
أفراد العائلة.
صالونه كان تاريخيا بامتياز، يحتفظ فيه بصور له أيام شبابه، فهذه صورة له
مع أستاذه "طه حسين" بمصر رفقة دفعة التخرج، و تلك أخرى رفقة الرئيس
العراقي الراحل "صدام حسين" أيام كان الدكتور سفيرا للجزائر
بالعراق،.... بل و في صالونه أغراض جميلة و قديمة تعكس بعض التقاليد الجزائرية.
حدثني الهرم عثمان سعدي عن رحلاته بين سوريا و العراق، و كيف جمع قصائد
الشعراء العرب التي تناولت الثورة الجزائرية في مؤلفين ضخمين. حدثني عن مشروع
التعريب في الجزائر أيام كان نائبا في البرلمان و كيف فشل المشروع و من كان و راء
ذلك. حدثني عن أسباب ابتعاده عن الساحة السياسية و تفرغه للبحث في تاريخ اللغة
العربية و الدفاع عنها الذي أثمر معجما قيما " معجم الجدور العربية للكلمات
البربرية" و كتابا تاريخيا مهما يلخص تاريخ الجزائر " الجزائر في
التاريخ". و لعلّ أكثر ما حدثني عنه نشاط " الجمعية الجزائرية للدفاع عن
اللغة العربية" التي يترأسها منذ نشأتها و عن الحصار الذي تعانيه الجمعية رغم
أهدافها النبيلة و أعمالها القيمة التي جمعت في كتاب خاص.
كان الجلوس مع الدكتور عثمان سعدي أشبه ما يكون بجولة عبر التاريخ الجزائري
و العربي ، انطلقت من نظام الدراسة في أربعينات القرن الماضي، ثم الثورة و
الانضمام إليها، ثم الاستقلال و المهام الدبلوماسية التي أسندت إليه، ثم عهد
الرئيس الراحل هواري بومدين و عمله بالبرلمان الجزائري و انتهاء إلى تفرغه للبحث و
الدفاع عن اللغة العربية، و تنقله خلال كل هذا بين مصر و الكويت و العراق و سوريا.
و يبدو أن الدكتور لم يستطع أن يقاوم أنس الحديث فتذكر زوجته الفلسطينية، و
كيف تعرف إليها و تزوجها و أنجبا أولادهما، و كيف كانت سنده الأكبر في الحياة حتى
تخيلته يتيما يتحدث عن حب أمه و عطفها، و قد سبق له أن ترجم تلك العواطف النبيلة
في روايته "دمعة على أم البنين".
و قبل المغادرة عرض عليّ جولة ممتعة في بيته الجميل الذي احتلت الكتب
المنظمة في رفوف خشبية المساحة الأكبر منه ، و لم أضيع الفرصة لألتقط صورة معه قبل
أن أغادر بيته محملة بحزمة من مؤلفاته التي أهداني إياها.
أدار زوجي محرك السيارة و انطلق. و أدرت أنا قرصا كان قد قدمه لي الدكتور و
انطلقت في تذكر كل ما دار بيننا من حوار رغبة مني في الاستمتاع به من جديد و سعيا
مني في ترسيخه بذاكرتي. كان القرص يعزف ألحانا جزائرية أصيلة تتخلله توضيحات بصوت
الدكتور عثمان سعدي و الذي جمع من خلاله أشهر ألحان الناي الجزائرية و القصص التي
تترجمها. و سواء أكانت تلك القصص حقيقية أم خيالية فقد سافرت أنا معها بعيدا
محاولة مني لرسم معالم لشخصية هذا الرجل الذي جمع بين الأدب و التاريخ و البحث
الأكاديمي و العمل الدبلوماسي و الحس الفني الغنائي... لم أستطع أن أطلق عليه لقبا
معينا. و وجدتني أردد "هو هرم".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق