حوار: محمود خالد قدسي
قديمًا قال الجاحظ " يذهب الحكيم وتبقى كتبه، ويذهب العقل ويبقى
أثره "، ولما سئل المأمون ما ألذ الأشياء؟ قال التنزه في عقول الناس، أي قراءة
الكتب، فكل حرف داخل كتاب في جسد المريض ترياق وملجأ لكل مشتاق.
ما أجمل أن تحيك من الكلمات ثوبًا يدفيء العقل من صقيع الجهل
ويكلل القلب بتاج المعرفة، فنعم الأنيس إذا خلوت كتاب تلهو به إن خانك الأصحاب .. لا
مفشيًا سرًا إذا استودعته وتفاد منه حكمة وصواب.
عشق القراءة منذ نعومة أظفاره .. تدفقت من بين كلماته قصص
وروايات للكبار والصغار، كلل أعماله الأدبية بالأنواط والجوائز، ونال جائزة الدولة
التشجيعية عن رواية (أحلام السيد كتاب) عام
2014.. إنه الروائي الكبير أحمد طوسون، عضو لجنة ثقافة الطفل بالمجلس الأعلى للثقافة
، وعضو اتحاد كتاب مصر.
- في بداية الحوار، من هو الكاتب أحمد طوسون؟
أنا من مواليد الفيوم في 3/12/1968 أعمل بالمحاماة في
مكتبي الخاص بمدينة سنورس.. وأكتب القصة القصيرة والرواية وأدب الأطفال.
- كيف لعبت الثقافة دورًا في نشأة الكاتب الكبير؟
كان أبي رحمة الله عليه يعمل موظفا بالمحكمة، وانتقل بسبب
عمله بين محافظات عدة حتى استقر به الحال بالفيوم، وأخذت عنه حبه للقراءة وإن كانت
مكتبته الزاخرة بالروايات العالمية تركها عند جدتي لأمي (أثناء تنقلاته المتعددة)
غنيمة لمن تقع كتبها بين يديه، فكنت اقتنص بعض الروايات عند زيارتها. بدأت
بالكتابة لنفسي وقادتني الصدفة بالصف الأول الإعدادي لمزاملة الشاعرين أحمد قرني
وأحمد عبدالباقي في نفس الفصل وكانا يشاركاني نفس الهواية و أصرا أن أصحبهما إلى
بيت ثقافة سنورس لحضور ندوة نادي الأدب ومن حينها وقعنا في غواية الكتابة وفتنتها،
ولا أغفل دور بعض المدرسين الذين حرصوا على تزويدنا بكتب اللغة والأدب والحرص على
أن نعقد جلسات مطولة بعد انتهاء اليوم الدراسي للنقاش حول الكتب التي قرأناها.
- ما صفات الرواية التي تجذبك لقراءتها حتى النهاية؟
للقراءة مستويات متعددة، لكنني كمتلق من أنصار متعة القراءة،
إذا لم يجبرك أسلوب الكاتب على الاستمتاع بقراءته، فهناك إشكالية ما تتعلق به، فأنا
في النهاية لست مجبرا على التقيؤ من أجل إكمال عمل رديء، كثير من الروايات تراهن على
صبر القاريء وتحتشد باستطرادات ولغو وحشو للصفحات لا قيمة له إرضاءا للناشرين الذين
يفضلون أن يكون حجم الرواية كبيرا دون النظر إلى مدى ضرورة السرد لصالح فنية النص وبنائه
الجمالي!
إذا لم ينجح النص في اجتذاب قارئه فقد خسر رهانه مع القاريء
منذ البداية، إن إغفال قيمة الإمتاع كجوهر روحي وجمالي في الفنون عموما يبعدها عن غاية
أساسية من غايات الفن.
- باعتبارك من أشهر كتاب قصص الأطفال في مصر، كيف نقدم قصة
مشوقة تزرع حب القراءة في قلب الطفل؟
القراءة قيمة تتشكل من المناخ الثقافي والاجتماعي السائد،
وليس من مجرد تقديم نص جيد، الطفل في الغرب يجد فعل القراءة مفردة من مفردات الحياة
اليومية، في البيت، والشارع، والحافلات والمواصلات العامة، وفي الشواطيء وحمامات السباحة،
فلا بد أن ينشأ على حب القراءة وأن يجد في الكتاب خير رفيق يصحبه في مشوار حياته. أما
القصة الجيدة في اعتقادي هي التي يشعر الطفل فيها بالصدق الفني.. وهو لن يتحقق إلا
من خلال اللغة السلسلة والفكرة الجميلة والبناء الجيد، القصة الجيدة هي التي يشعر الطفل
معها أنه مارس لعبة جديدة استمتع بها وأضافت إلى خبراته اللغوية والإنسانية وفتحت له
أفاقا جديدة من الخيال والمعرفة.
- قديمًا كانت المدارس تخصص للأطفال حصصًا مخصصة للقراءة
والاطلاع في المكتبة، أما الآن فلم يعد لها وجود أو باتت صورية بالمعنى الأدق، فما
هو الأسلوب الأمثل لتطوير ثقافة القراءة في المدارس؟
هناك الكثير من الأفكار أهمها في وجهة نظري تخصيص حصص للقراءة
الحرة ضمن مناهج الدراسة بمراحل التعليم الأساسي ودعوة الكتاب والفنانين لتقديم تجاربهم
وأعمالهم لأطفال المدارس، وعودة المسرح المدرسي مع تخصيص مرسم في كل مدرسة يمارس خلاله
الأطفال مواهبهم المختلفة.. التعليم في مصر بحاجة إلى رؤية شاملة يجعل من التفكير العلمي
نمط حياة ليحارب الخرافات الشائعة في ثقافتنا الشعبية، كما هو بحاجة لتنمية الخيال
الفني والإبداعي عند الأطفال وبخاصة في المناطق الفقيرة والأطراف، ولكي نحقق هذا الغرض
يجب أن تستفيد وزارة التربية والتعليم بالمواهب العلمية والثقافية والفنية في تطوير
التعليم وفي الاشتراك في العملية التعليمية من خلال هيكل إداري مختلف عما هو قائم وعقيم!
- هل تعتبر روايتك الأخيرة (رقة القتل) انعكاسًا لحال الشباب
في المجتمع العربي؟
أعتقد أن الرواية انعكاس للواقع العربي والمصري الذي عشناه
ونعيشه والذي تمثل فيه النخب بؤر فساد كبيرة تنعكس على المجتمع وتؤدي إلى القتل المعنوي
واغتيال أحلام الشباب وطموحاتهم.. مجتمع يقدس سلطة الأب بأشكالها المتعددة سياسيا واجتماعيا
وعلى استعداد أن يقتل أبنائه من أجل الحفاظ على كهنوت هذه السلطة وقدسيتها، وبالتالي
فهو يجيد التخفي والتحايل والتآمر أحيانا لتقويض أي محاولات للخروج على هذه السلطة
وضمان بقاء مرجعية السلطة الأبوية كمرجعية حاكمة سياسيا واجتماعيا وثقافيا.
- بالحديث عن الشباب، يلاحظ وجود فجوة كبيرة بين ثقافة القراءة
والغالبية العظمى من الشباب، فما هو السبب؟
السبب في رأيي ببساطة المنظومة التعليمية الفاشلة التي
تجعل التلاميذ والطلاب في حالة عداء مع الكتاب بسبب الطرق العقيمة في التعليم
واستنزاف وقت الطلاب في الدروس الخصوصية، بخلاف أن الثقافة السائدة في المجتمع لا
تشجع الشباب على القراءة لأنها ثقافة استهلاكية بالأساس، والنماذج التي تقدمها
كمُثل عليا للشباب نجوم الكرة والسينما.
فإذا أردنا لثقافة القراءة أن تتفشى في المجتمع وبين
الشباب علينا أن نوفر المناخ المناسب في المجتمع الذي يعلي من قيمة العلم والثقافة
والقراءة من خلال التعليم والإعلام ومراكز الشباب، وعلينا أن نوفر الكتاب للشباب
ونجعله متاحا للجميع من خلال المكتبات العامة والمكتبات المتنقلة
- وعن المرأة، هل أساء الأدب فهم المرأة سواء في قصص الأطفال
كالساحرة الشريرة وأمنا الغولة، أو الرويات الكبرى التي تصور مفاتنها وتجعلها مصدرًا
للإثارة - سامحني في التعبير- وهل ما تعانيه المرأة من عنف لفظي أو بدني في مجتمعاتنا
العربية هو نتاج لصورتها في الأدب العربي؟
لا شك أن صورة المرأة في الذهنية العربية (أو في أي ذهنية)
جاء نتيجة تراكم ثقافات، وأن صورة المرأة وبخاصة في الثقافات الشعبية له تأثير كبير
وواضح على نظرتنا للمرأة في مجتمعاتنا ربما أكثر تأثيرا من المنظور الديني الذي يخضع
أحيانا لتفسيرات خاضعة لتللك الصورة المغلوطة التي يرسمها الموروث الشعبي، فالثقافة
الذكورية ثقافة مسيطرة وديكتاتورية وتريد أن تحصر صورة المرأة في دور التابع وفي أحيان
كثيرة كحصالة لرغبات الرجال ونزواتهم ولا تريد الاعتراف بتقاسم المرأة والرجل للأدوار
من أجل إعمار الأرض وأن العلاقة قائمة على المساواة والمشاركة في كافة أشكالها.. وللأسف
أن كثيرين من دعاة التنوير يتساوون في نظرتهم للمرأة مع الراديكاليين ويستخدمون أيقونة
الجسد وكتاباته كأحد المشهيات التي تقدم المرأة كوجبة جنسية على موائد الرجال.. ولابد
أن تساهم هذه النظرة في زيادة مساحة العنف ضد المرأة، في مجتمعات في حقيقتها تعاني
من عنصرية واضحة ضد المرأة ولا ترى فيها إلا جسدا للغواية وهو ما تكرسه كثير من الكتابات.
- أثناء التجول في مواقع التواصل الاجتماعي لاحظت شكوى الكثيرين
من ارتفاع اسعار الكتب المطبوعة، فهل تعتبر تجربة الكتاب الاليكتروني حلًا لتلك المشكلة؟
الكتاب الورقي يواجه مشكلة حقيقية في تسويقه، ففي بلد
يتعدى عدد سكانه 90 مليون نسمة لا يوزع الكتاب 1000 نسخة!
ولا شك أن الكتاب الإليكتروني أصبح يعالج مشكلة عدم وصول
الكتاب للقارئ، لكنه ماديا لا يعود بالنفع على الناشر أوالكاتب.. فهو لصالح
القراءة وليس لصالح الكتاب الورقي وانتشاره وتسويقه، ولعلنا نلحظ أن كثيرا من
المكتبات أصبحت توفر نسخا إلكترونية من محتوياتها على الشبكة العنكبوتية.. لكن في
كل الأحوال الكتاب الإلكتروني لن يصبح بديلا عن الكتاب الورقي، والمطلوب من مؤسسات
النشر العامة والخاصة أن تطور من آلياتها في تسويق وتوزيع الكتاب وتعمل على توفير
الكتاب بسعر يناسب الأوضاع الاقتصادية وبخاصة عند الشباب ولو بطبعات شعبية.
- ما رأيك في استخدام اللغة العامية بكثرة في الأعمال الأدبية
الحالية.. هل تؤثر على رونقها وإبداعها؟
أنا من أنصار اللغة الفصحى، ومع التضييق من استخدام
العامية في الأعمال السردية، فاللغة ليست مجرد وسيط للتواصل بين المبدع والمتلقي،
بقدر ما هي طريقة تفكير وتعبير عن هوية وثقافة أمتنا العربية والإسلامية.
- كيف يلحق الكاتب بركب الأدباء العالميين، وهل تعد نسب بيع
الرواية هي المعيار الأمثل لنجاحها؟
أنا لا أعرف تعريفا منضبطا للأديب العالمي، الكتابة
الحقيقية تترك أثرا جماليا وإنسانيا في متلقيها بغض النظر عن جنسيته، ويبقى عائق
اللغة للتواصل بين القراء والكتابات المقدمة بلغة غير لغتهم، بخلاف اعتبارات النشر
والتوزيع، في النهاية كل كتابة أصيلة تشع وتترك أثرا وعبيرا، تبقى ولا تموت، أما
مسألة عالميتها أو ذيوع انتشارها وأرقام التوزيع فتحكمها معايير وأشياء أخرى لا
علاقة لها بالكاتب ولا يجب أن يشغل باله بها!
- في سياق آخر..
برأيك كيف يمكن تطوير القنوات الثقافية التي تعاني من تدني نسب المشاهدة مقارنة
بالقنوات الأخرى في مصر، أو بقريناتها من القنوات الثقافية في العالم العربي؟
أنا ضد القنوات الثقافية المتخصصة.. ففكرة القنوات
المتخصصة عموما للنخب وليست لجمهور المشاهدين، أنا مع أن تتضمن القنوات الأعلى مشاهدة
برامج الثقافة الرفيعة والبرامج العلمية وفي صياغات تناسب وتجذب جمهور المشاهدين،
وبإمكان هذه البرامج أن تنجح كما نجحت من قبل برامج كالعلم والإيمان.. كذلك الحال
البرامج التوثيقية والأرشيفية أفضل تواجدها ضمن خريطة القنوات العامة وليست
المتخصصة، ولتظل القنوات المتخصصة تتوجه بموادها الثقيلة لمخاطبة النخب المعنية بخطابها
ورسالتها.
- إن تطرقنا للحديث عن الأعمال الدرامية الحالية.. هل تؤثر
بالسلب ام الإيجاب على الحركة الثقافية والأدبية في مصر، وهل يمكننا مشاهدة أفلام روائية
مثل الأفلام القديمة وسط الأعمال الحالية التي تستهدف جني الأموال في المقام الأول؟
لا شك أن تقديم أعمال درامية وسينمائية عن أعمال أدبية
يلفت الانتباه لتلك الأعمال ويضمن لها رواجا أكبر، لكن صناعة السينما في مصر لم
تعد نفس الصناعة التي كنا نعرفها في القرن الماضي، تأثرت صناعة السينما بشدة نظرا
لتناقص دور العرض ولأسباب تتعلق بثقافة المجتمع التي باتت أكثر تشددا والأضطراب
السياسي الذي تشهده المنطقة منذ الغزو العراقي للكويت، الأمر الذي نتج عنه شيوع
أفلام تجارية بحتة، قليلة الانتاج ووفق خلطة محفوظة تضمن النجاح أمام شباك
التذاكر، وفي الوقت نفسه تخلت الدولة عن دعم السينما الجادة.
- إذا تلقى الأستاذ أحمد طوسون اتصالًا هاتفيًا يبلغه بتعيينه
وزيرًا للثقافة، وصار مطالبًا بتنفيذ برنامج لتطوير الثقافة خلال 100 يوم، فما هي خطتك؟
طبعا هو سؤال افتراضي.. ولتكن إجابتي في شكل نصيحة لوزير
الثقافة أن يجعل من الثقافة والفنون وجبة أساسية على مائدة المواطن المصري من خلال
مؤسسات الإعلام والتعليم والشباب والرياضة ووسائل الإتصال الحديثة، وأن يعمل على استعادة
القوة الناعمة لثقافة مصر في المنطقة والعالم، ولن يستطيع أحد إحراز نجاح في هذا
التحدي إلا إذا امتلك رؤية ثقافية متكاملة يصنعها المثقفون والفنانون ويكونون في
الوقت ذاته الأدوات الفاعلة لتنفيذ هذه الرؤية، الإشكالية الكبرى التي تواجه
منظومة الثقافة استفحال المؤسسة الثقافية واستشراء الفساد فيها، فأصبح جل
اهتماماتها ينصب في إرضاء جيش العاملين بها وليس في تقديم الخدمة الثقافية الحقيقية،
بل باتت أنشطة المؤسسات أنشطة روتينية لا تقدم جديدا ولا تجذب أحدا من خارج
المؤسسة لها. وبالتالي فأول ما يتوجب على وزير الثقافة أن يحارب الفساد
والبيروقراطية الإدارية داخل وزارته وهيئاتها، ويجند المبدعين في كافة المجالات
للعمل معه وفق رؤية واضحة.
- ألا يفكر الكاتب الكبير في تحويل نشاط مدونتي (أحمد طوسون)
و(حي بن يقظان) إلى مجلة أدبية مطبوعة تصدر بصفة دورية؟
أنا أقوم بنشاط تطوعي يخصم من وقتي وعملي وكتابتي وقوت
أولادي، لإيماني بما أقوم به وأراه ضرورة ثقافية ومشجعا لأدباء يعيشون بعيدا عن
العاصمة أو مشجعا لموهبة جديدة يساعدها على أن تعرف الولوج إلى دروب الكتابة
والإبداع.. الدوريات المطبوعة تحتاج إلى من يرعاها ويدعمها وهو أمر يحتاج إلى
مؤسسات سواء عامة أو خاصة، كما أنني أعتقد بأهمية الإعلام الإلكتروني وضرورته التي
تواكب التطور التكنولوجي.
كلمة أخيرة للقارئ في بضع كلمات..
علينا جميعا أن نعي أن الصراع الذي يحكم العالم هو في حقيقته صراع ثقافات،
وعلى كل منا أن يعمل على اجتذاب قاريء جديد حتى نتمكن من محو أميتنا الثقافية
لأننا حينها سنتمكن من حل كثير من مشكلات مجتمعاتنا التي نراها الآن عصية على
الحل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق