قراءة فى "فتاة البحر" لأحمد طوسون
(المقال الفائز بالمركز الأول"مناصفة" في
جوائز ربيع مفتاح الأدبية بدورتها الثالثة)
إبراهيم محمد حمزة
يحكى شيخنا يحيى حقى أنه ظل أسبوعا كاملا
يبحث عن كلمة يمكن ان يقولها إسماعيل بطل
روايته الفاتنة " قنديل أم هاشم " حين كسر
القنديل واجتمع
عليه الناس ليضربوه ، وتحكى الكاتبة " باتريشيا
هامبل " أن صديقا لها يكتب القصة ، اخبرها أنه قضى يوما كاملا
يحاول ما إذا كان سيجعل بطله ينادى صديقه بـ " يا صديقى " أو بـ " يا صديقى
الحميم " .
وهو ما يعنى دور الكلمة فى بناء السرد ،
الكلمة المفردة بذاتها ، خاصة فى القصة القصيرة التى توزن كما قال سيدها "يوسف إدريس – بميزان الذهب " ، وبهذه
الكيفية يتعامل الكاتب ذو الرهافة والحس القصصى مع اللفظ ، بإحساس داخلى رفيع ،
يستشعر الإيقاع كما يساشعر الشاعر الوزن ، ولذا سنتلمس هذه الرهافة فى تعامل
الكاتب أحمد طوسون مع لغته فى مجموعته " فتاة البحر " الصادرة عن
دار أرابيسك " عام 2011م .
_ على
باب "قربانة " :
قصة حب طفل مسلم لشابة مسيحية ، هذا هو
الهيكل العام لقصة " قربانة "، أحداث القصة قليلة
تماما ، ولكن اللغة والرسائل المغلفة بأبعاد فكرية جمالية تعطى للقصة تميزا راقيا
، حيث يلعب اللفظ دوره الجمالى ، يستخدم "أحمد طوسون " المحطة
والقطار والديزل معادلا موضوعيا للقاء وللفراق ، لكنه يجعل كافة عناصر الطبيعة
تتعاطف مع أبطاله ، الزهور عنصر بنائى ، يتكامل مع استخدامه للألوان ، انظر لتوالى
الحدث بهذه الكيفية :
-
" كنت أجمع
زهرات ذقن الباشا " البداية .
-
"ذابت زهرات
ذقن الباشا بين أصابعى "
مفاجأة الحب
الأول.
-
"سقطت زهرة ذقن
الباشا فوق وجهى " ظهور الحبيبة بعد غياب .
التركيب
البنائى للقصة عبقرى ، مع تكرارالحدث بدرجاته المتفاوتة ، انظر للأم وهى " ترش الماء
بأركان البيت ، فيطل الربيع من نوافذنا المفتوحة على مصاريعها " .. رسالة مغلفة
بالمحبة ، إن النوافذ مفتوحة للمحبة ، مهما كان اختلاف الدين أو العمر ، ولذا فكل
محاولات الفتى الراوى من خلال صديقه "عامر " تتكسر على صوت
شخص يراه داخلا الكنيسة يقوده فؤاده ، فيصرخ : " ولد مسلم غريب
، أمسكوه قبل أن يسرق شيئا " .
بناءان سامقان : الحبيبة زهرة ، والأب
خادم الكنيسة ، والأم صانعة القرابين رموز للعمل والعطاء فى مقابل نموذج مسيحى آخر
"ولد مسلم غريب
.. أمكسوه"
وهكذا يغلف الكاتب رسالته الحريرية بلغم انفجاره ، لماذا
لا يحب الناس بعضهم بعضا ؟ الأم تصنع
القرابين ، والقرابين تشبه الخبز غير أنه ذو دلالة دينية ، ولهذا يسعى الطفل
الراوى للحصول على قربان ، وكأنه يتكامل به مع هذه الحبيبة ، لكن المجتمع كله يقف
ضد هذا الحب ، فيتعفن القربان الذى يحصل عليه الطفل بعد تعب ، ويكون ( كل شىء صغير قد تحطم
فى قلبه ) بهذه الرهافة يعالج أحمد طوسون موضوعا عولج – بالطبع – كثيرا ، لكنه يتخذ
الطفل راويا ، بريئا ، نقيا ، ومن هنا يجدد طرحه ببراعة البراءة ، حيث يرى فى حوار
له أن "السارد الطفل يعطي شعورا بالصدق الفني وله عين ترصد من منطقة وعي
مختلفة ظننتها ضرورية بالنسبة للعمل، الوصف ببراءة وبكارة قد يبدو ساذجا إن ورد
على لسان سارد آخر بوعي ورؤية يختلفان عن وعي السارد في القصة "
الولع
بالمكان :
هذا الولع بالمكان ينتقل
إلى " تعريشة سندس " .. مقهى يلتقى
فيه الراوى بشخص لا يعرف له اسما ولا عملا، لكن الرغبة فى السفر تجمعهما ، بل صارت
الهجرة /الموت سبيلا للحياة ، الشاى الأسود مع الدخان الأزرق : المرارة والضياع معا ،
الألوان صارت لغة ذات دلالات ذكية ، لونان للحياة يجمعان الأسى والشجن ، ربما طغى
قليلا صوت الكاتب على صوت الراوى ، فالمعروف أن الفاعل فى الرواية أو القصة ليس
الفاعل النحوى ، غنما هو الفاعل البنائى – كما يذكر باختين فى " الخطاب
الروائى" – بما يعنى ارتفاع صوت الفكر على صوت الشخصية
، يقول ( فى بلادنا اللصوص يسرقون الأحلام ، ويلقون الأفكار
بالحجارة ، وينعتونها بالكفر ) صوت المؤلف هنا انفجار
حاد وآلام عميقة يستشعرها الكاتب نتيجة للقهر الذى يراه حوله ، بما يكفى لإدانة
واقعه بكل شكل ، ربما هذا الاضطراب انطبع على المستوى اللغوى فى الحوار ، فتراوح
بين الفصحى والعامية بلا مبرر فنى ، القصة تتناول التضحية التى يقدمها المضطر للهجرة مرغما ، حتى يصل الحال لبيع إحدى
كليتيه ، بينما تخلع زوجة الراوى ذهبها وتبيعه لأجل سفر الزوج ، ثم بعد ذلك لا نجد
سفرا ، بل تهريبا مهينا ، من خلال صناديق مغلقة ؛ لاحظ التشابه بين الصناديق
وبين النعوش ، وكأن الوصول للحياة يتم عبر الموت ، رسائل اللغة لا تنتهى فى قصص
أحمد طوسون ، ويصل الأمر
لذروته حين تتحطم السفينة فى ملحة لغوية راقية تحذر من تحطم هذا المجتمع ، ورمزية
السفينة للمجتمع واضحة وقديمة ، ثم يبحث كل واحد عن طوق للنجاة ، ليلتقى الراوى
مرة أخرى مع صديق البؤس والأسى ، صديقه لذى لا يعرف له اسما ولا عملا ، ويطمئنه
الراوى بقوله :
(لابد أن أحدا سيأتى لإنقاذنا ) تعبير محمل بدلالات
عامة محذرة ومؤملة فى وقت واحد ، الرسالة تؤكد أن المجتمع لابد من إنقاذه ، وانه
متهالك وفاسد وقائم على الغش وفى أشد الحاجة لمنقذ ، وهذا المنقذ غير محدد ، لكنه
ضرورى .
القصة – رغم تسجيليتها للواقع
الفعلى – فإنها قصة ، بمعنى أنها لا تشير إلى حقيقة تجريبية كما
يقول " ليفى شتراوس " وإنما إلى
نماذج تتألف طبقا لهذه الحقيقة "وذلك لأن الاعتماد على
البنية المباشرة يقود إلى العقم ، وينتهى إلى مجرد تصنيف محدود لا أكثر ، ولذا لا
يمكن أن نصنف قصة شيقة مثل " السيرة السمعية لأذن
مواطن صالح " أنها قصة تجريبية أو رمزية ، إنها قصة ذهنية تعتمد – بصرف النظر عن طبيعة
العنوان الكاشف للفكرة – على مرض أصاب أذن
موظف ، مما يجعله محروما من الاستماع إلى ما حوله ، ويتخذ الكاتب الحدث البسيط
متكأ ، ليعرض من خلاله هموم المواطن البسيط ، ومشكلاته الحياتية بشكل رهيف وعرضى ،
بلا مباشرة ولا تسطيح ، ثم يختتم القصة بلمحة فانتازيا حين يجعل طاقات السمع
للمواطن بعد علاجه تتسع لسماع كل شىء مخبوء ، ولذلك نجده (مع الوقت بات يجيب
محدثيه بإجابات لا علاقة لها بأسئلتهم .. يطلب منه
زميله أن ينهى الأوراق التى يطلبها المدير منه فيرد : ابن الكلب) كان يمكن للكاتب أن
يتوقف بقصته عند اللحظة النورانية الباهرة ، فى طبيعة الرضا التى يستشعره الموظف ،
ورغبته فى أن يظل مواطنا صالحا ، لكن الحدث الأساسى اهتز قليلا حين دخل الإطار
السريالى بلا ضرورة سردية للفانتازيا .
أما فى قصة " تلك الرائحة " والتى اعتمد
الكاتب على عنوان رواية صنع الله إبراهيم كما أشار فى الهامش ، فهى تصوير عميق
لحالة وجودية بامتياز ، من خلال فكرة توالد الألم ، وانتقاله من حالة " الست فوزية " العجوز التى
تقطن الدور الأول مع قططها ، لا تزور ولا تزار ، بينما تحية الخادمة الفقيرة تحلم
بأن تتزوج ، وتصنع حياة وأسرة ، تبدو القصة فى قمة ديناميكيتها ، وهى تتحول من
حالة توازن – كما يقول تودروف – إلى أخرى بطريقة ينجم
عنها فقدان التوازن المبدئى ، ثم لا تلبث أن تأتى قوة ثالثة فى اتجاه معاكس ،
لتعيد التوازن مرة أخرى " تبدو ملاحظة "تودروف " دقيقة ، تبدأ
القصة بذكر " تحية " ثم تنتقل بفنية عالية
لأسرة رمضان أفندى وزوجته – ولا أدرى لماذا أصر
الكاتب على منحه لقب الأفندى رغم أن القصة تدور أحداثها فى الوقت الحالى بما فيه
من تباعد بين الناس وذكره لأنفلونزا الطيور إلخ – يساعد هذا الرجل رمضان
أفندى تحية فى تملك حجرة فوق سطح العمارة التى يسكن بها رمضان موظف البنك وزوجته ،
بينما تعيش الست فوزية وحيدة مع قططها ، وقد تجلدت أحاسيسها ، حتى صارت تخاف الناس
ولا تشعر بالراحة معهم ، ولهذا تختفى لا يدرى أحد بها ، وتنبعث رائحة لا تطاق فى
العمارة ، حتى يهتدوا لاختفاء السيدة العجوز ، وتمر السنوات ، وتتوقف الأحلام عن
التحقق ، وينهى كاتبنا قصته بقوله : " تتحسس قططها التى
تكاثرت ، ولم تعد تستطيع أن تحصى عددها ، تتأكد من نظافتها ، وتتعجب من تلك
الرائحة الغريبة " صـ40 هكذا تتحول الخادمة
الفقيرة ذات الأمل فى الحياة إلى " فوزية جديدة ، لاحظ أن
الخادمة مسلمة ، والست فوزية مسيحية ، ولذا يقدم " طوسون " الشخصية
المسيحية بشكل إنسانى محض ، يقدم الشخصية بلا أى انتقائية أو رغبة فى تحويل
المسيحى لملاك ، أو العكس ، وهى شجاعة فنية قصوى .. بعيدا عن
الصورة المثالية الساذجة التى يحرص الكتاب على تصديرها للمسيحى ، القصة من خلال
تكاملها تبكى حالة الفقد ، والإحساس بالعدمية وعدم جدوى الحياة ، قيمة الحب
الضائعة ، آلام الفقد ، الأحلام المبتورة ، هذه الرسائل تتوسل بلغة منضبطة عميقة
الفهم لمعنى القصة القصيرة ، وضرورة أن تقول شيئا كما يقول "جوتة " أنه فى القصة – خلافا للشعر لابد أن
يكون هناك ما تقوله على الأقل " .
وهو ما جعل الكاتب يقدم لنا قصة جميلة مثل " كادر خارج
المشهد " حيث يقدم صورة من الخذلان الذى يعيشه الأبطال المحبون
للوطن ، بعدما ضحى الواحد منهم بأجمل أيامه وممتلكاته ، نجد "سعد " يترك العمل
إلى المعاش، لكن المرارة لا تفارق حلقه ، وذكريات الحرب التى انتهت من ثلاثين عاما
لم تزل تزلزل كيانه ، ذكرياته مع قائده الرائد جمال ، تاكيد القائد أن البطل يقدم
الواجب بلا انتظار لمن يشكره ...
القصة لا تقدم
حدثا بقدر ما تقدم مجموعة مشاعر فياضة مذهلة فى تأثيرها على القارىء ، فالحكاية
ذاتها مكررة ، لكن شكل صياغة مشاعر الأبطال عبر لغة رشيقة مطعمة بالحوار ، يمنح
القصة تأثيرها الحقيقى .
ــ
البنية / اللغة .. وآلام السرد :
فى القصة التى تحمل
المجموعة اسمها – فتاة البحر – الوارى الحكاية بشكل لافت ، اللغة ذاتها
تمتص الحدث ، وتصهره فى بوتقة الشعر ، نلحظ فكرة الآمال المبتورة أو " الرغبات المتقطعة " كما يسميها الدكتور
مصطفى عطية فى دراسته القيمة عن المجموعة ، حيث يرصد بذكاء ودقة سيطرة فكرة وجود رغبات
لا تتحقق لدى أبطال القصص ، ومدى الرمارة التى تتركها هذه الآمال ، أما هذه القصة
فتتخذ – على المستوى اللغوى والحدثى اتجاها آخر ،
ومسربا مختلفا ، من حيث البنية الخاصة بها ،
والبنائية فى أبسط تعريف لها هى " الكيفية التى يعرض لنا بها السارد القصة " كما يذكر" تودروف" وقد اختار أحمد طوسون
أن يخلق عالما متخيلا متفردا لقصته ، معتمدا على مونولوج طويل ، استطاع ببراعة أن
يجعل القارىء بين الحقيقة والوهم دائما ، خاصة الوهم المركب المتعدد ، وهم البطل
ووهم الشخصية المحورية ، وجعل جميع عناصر الطبيعة شخوصا عاملة مؤثرة ، وكأنه
يستعيد العوالم الرومانسية المفتقدة فى قصائد ناجى ومطران والشابى والهمشرى وغيرهم
.
إن البطل فى قصة " فتاة البحر " رجل راو ، وليس الفتاة
التى صارت محكيا عنها ، القصة بلا حوار ، وهى مسألة نادرة فى المجموعة ، استعاض
الكاتب بالحوار الداخلى عن الحوار العادى ، التنقلات السردية الحدثية بديعة ، إذ
يتحول اليقين من لحظة لأخرى ، عبر لغة هى البهاء بعينه :
( جدائل شعرها الذهبى طليقة كجياد تمرح فى
فضاء بعيد )
(الحجرة التى يتقاذفها الموج بلا هوادة ،
وتسكنها كائنات الوحشة )
( رغباتى جنات ومراعٍ فى خيالى )
( يتلون الموج بسواد هائل .. يصفع الصخر والرمل
والمحار )
لغة محملة بكثافة بلاغية مرهقة لقارىء القصة
الذى يسعى لحكاية يستمتع بها ، لكن المجموعة لابد لها من سحر يضىء جنباتها ، بصرف
النظر عن القارىء وما يتمناه ، يرى طوسون أن اللغة " تمثل أداة تعبير وتوصيل
للأفكار، كما أنها عنصر أساسي في البناء الفني للنص الأدبي وتوليد الدلالة (وهو
الأهم) .
فتاة البحر هى
المرأة / الحلم ، التصور الأسمى للرقة والجمال ، الأنوثة فى قمة تألقها ، الاشتهاء
فى رقيه ونقائه ، ولذا يعتمد السارد هنا على لغة انتقائية ، يستطيع من خلالها
تحريك مركبة الحدث فى بحر السرد الهائج ببراعة ، تتخلى فتاة البحر عن صورتها
الخيالية لحظة بلحظة ، الأفكار مثل أشباح – كما يقول الكاتب – الراوى رسام تنحصر
أمنياته فى نموذج يعيده لفنه ، ولذا فصور الأشياء انعكاس لفنه ولعينيه ، ولذا
تنتهى القصة بـ :
( تطلعت إليها من بين أسلاك نافذتى ، كانت هناك ، وحدها فوق كرسيها ، متدثرة بملابس من الوبر والصوف ، وملامحها تكتسى بإحساس مزيف بالارتداء ) كأنها مايا " بطلة قصيدة نزار الشهيرة:
( تطلعت إليها من بين أسلاك نافذتى ، كانت هناك ، وحدها فوق كرسيها ، متدثرة بملابس من الوبر والصوف ، وملامحها تكتسى بإحساس مزيف بالارتداء ) كأنها مايا " بطلة قصيدة نزار الشهيرة:
مايا تغنّي من مكانٍ ما..
ولا أدري على التحديدِ أين مكانُ مايا ؟!
كانتْ وراءَ ستارةِ الحمّام ساطعةً كلؤلؤةٍ..
وحوَّلها النبيذُ إلى شظايا !
***
يملك أحمد طوسون
صوتا قصصيا منفردا ، صوته يقوم على الصدق الخارق ، ومن هنا يأخذ تأثيره الفعلى على
القارىء ، عبر لغة محكمة متزنة ، بعيدة عن التقليدية ، وكأنها اتسجابة لتحذير أمير
الرواية العربية نجيب محفوظ ، حين كان يقول " الأن لا شىء يثير أعصابى قدر
التقليد " .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق