لأشرف الخمايسي
رولا حسينات
لقد تسنى لي في الآونة الأخيرة، قراءة رواية "منافي
الرب" والتي بودي أن أظهرها للقارئ بإحساسي الأدبي بها، كقارئة تمعنت في
السطور والحواشي وبطائن السرائر للشخصيات، التي تلاعبت بخفة بإعجازية بالحبائل الروائية،
لإنتاج عمل ضخم في القيمة الإنسانية، كانسان بعث ليسود الكون ويستخلف في الأرض، لم
تأت الشخصيات الرئيسة الثلاث "حجيزي وسعدون وغنيمة"، هكذا عبثا "فحجيزي"
مر بأطواره الأولى بأريحية كاملة، فكان الإنسان منذ أول الخليقة، وكابن، و زوج وأب
وجد، مرت بأطوارها بأبعاد ممتدة، كان الإنسان الرافض لعقيدة الموت كإنهاء قسري
لمعادلة الوجود الإنساني للخليفة في الأرض. وقد أوجد الكاتب بحذاقة صيغ الصراع
الفكري بين العقل والروح والقلب، بل وفاقت ذلك لتعنون الربانية بنصية ضمنية من
المسؤولية الملقاة على عاتق الوجود الإنساني، والتي جاءت مضمنة لحديث الرسول الكريم
عليه الصلاة والسلام: " كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته". والتي لم تبعد
عن المفاهيم الاجتماعية كرب الأسرة أو رب العمل، لإحاطته بأسافين المسؤولية
العظيمة، التي صيرته ربا فيها صانعا للقرار، و محركا للعملية الإنتاجية، ومتابعا
لها وإن اضطر الكاتب بأن يوجد ما قد استفزه في فكر القارئ، الذي قد يعيب إيجاد هذه
اللفظة وكيف يكون الإنسان ربا؟؟ وهو غير قادر على الإحياء والموت، بل هو الفاني
بعفونته.
ثم
ماذا؟؟ لتكتمل الصورة التي استعصت على الموت بعقودها المائة، لتؤذن في أذن "باكير"
وهو الصورة المنعكسة للقارئ الذي لا يقوى على تغير البداية أو النهاية، بل يمتثل
بطواعية الاستجابة، دون أن يوجد تأثيرا ولو بقيد أنملة، بل سيكتب له أن يتمم إثباته
للنهاية المحتومة على البشرية بالموت، ليحفر القبر بكلتي يديه وإن لم تكن هناك حبة
برتقال أو أيّا من زهراته. وليكون" حجيزي" الابن لمحنط كائنات الله،
والذي تتلمذ على فنية وآلية التحنيط (التبريد والإزالة الكاملة) لما في الجوف، كل
شيء ليمثل الكائن مثولا بلا نفخة من روح، لتتقلص لديه المشاعر والأحاسيس، بل
لتختنق بكل مقوماتها.. لذتها ومتعها، وليكتمل المشهد بتحنيط إنسان ما أوضح التاريخ
تبعة وجوده الزمني، لكنه رصد شاكلة من الشخصية الفارسة والحصان كرمزية للعصور
المتلاحقة على الأرض المصرية، كل ما في الجوف أدركه ليرصد رغبته في البقاء مع الأحبة
ولو بصورة، لكنه أضفى ظلالا باردة، على حياة "حجيزي" الزوج الذي لم
يتمكن من القيام برجولته مع "سريرة"، الزوجة التي مثلت المرأة الرافضة
للقيد، الراغبة بالتحرر باختيار شريك الحياة، وإن مقتها المجتمع لرغبتها الطافحة،
والتي منعت من القيام بها لبرود "حجيزي" كرهه للذات الإنسانية، وإن كانت
الشهوة عنوانا لها، ولم تتمكن سريرة المرأة التي طفحت الشهوة من تغير أيدلوجيته على
مدى عقود، وقد اكتهلت فعليا قبل "حجيزي" على الرغم من سنها الصغيرة،
لكنها ماتت من قبل ومن بعد له ، وهي مدعاة في استفزاز آخر لصورة المرأة التي قمعت
نفسيا وجنسيا واجتماعيا، على الرغم من الإطلالة الخافتة لمعاناتها، لكنها أضفت
سحرا على وجود "حجيزي" واستصراخ الرغبة فيه، حتى النهاية نهاية الوجود
للشخصية التي اعتبرت الإسفنجة الماصة لإفرازات الوجود الرافضة، الغريبة و الثورية،
وإن كانت منفرة بطول لسانها وكلماتها البذيئة لكنها محبوبة من قبل شخصيتين، سارعتا
في تكوين الصورة الفكرية لدى القارئ "سعدون" الشخصية المحبة للولد وهي
شخصية الرجل الشرقي، المحب للخلفة وبالذات الولد الذكر، لكنه بمعاناته وان كانت
لذيذة بنشوته الجسدية مع "زليخة" المرأة اللعوب وإن لم تظهر كما أراد
الكاتب، وقد تعمد تكرار العبارات ذاتها لتلبية وجهة نظره في المرأة اللعوب التي
تطمح إليها شخصية "سعدون" لكنها ظهرت برقي أكبر لتضمن الزوجة الطيوب ..المحبة
لزوجها واللذيذة قسوتها، لأنها ببساطة تعرف مكامنه وتطفئ ناره، وبتضحيتها بتزويجه الأخرى
من قريباتها، بعد أن أدركت أنها الأرض البور، ولكنها تبقى الشامخة التي ترفض أن
تكون مجرد بديلة، بل تسعى لتبقى الأولى والأخيرة وهذا ضد الصورة القدرية، رغما عن
الظروف التي خطتها بمزامنة وإياه، لتموت كمدا.. صقرا لا يقبل الهوان، لتبدأ هلوسة
الشخصية في الصراع بين الرغبة المشتعلة في الزواج الثاني، ولكنه الرافض للتخلي عن
الحب الأول، ليصيّر إلى المنتحب بهيجان الفقدان، ثم ليبتلى بموت الصيغة الرمزية
للحياة بالمرأة والولد، ما أحبه وسعى لمخالفة القدر من أجله، ليحصيه الأخير بفجيعة
الموت بالاحتراق جسدا واحدا كعذراء ونبع الحياة، ثم "غنيمة" الشخصية
المثقفة التي تسبح بتجربة واقعية بمعاشرة الإنجليز والشخصية الراغبة بالتحرر،
بالثورية والمستمتعة بقراءة صفحات التاريخ، وتمعن صفحاته الشخصية التي عشقت الحب
بالخيال، بكل مفرداته لتصل لقمة الشهوة، والإبحار في الخيال، ثم الشخصية الواقعية
التي تتيقن بقدرة الله وأنه مجيب الدعاء، دعاء العبد المكروب في أصغر صوره وأبشع
قدرية وجد فيها، ثم "حجيزي" الأب الذي ما طالت يده ولده، بدافعية التعلم
ليكون تلميذه في التحنيط، بل لتكون له حرية الاختيار بما يفعله أيا كان، ليكون
المزارع البسيط بالرغائب البشرية الواقعية، وليكون الجد المتحرر من قيود الواقع،
الراغب في الكمال إله الحب والمجون والشهوة، بالتحرر لسنن الجمال من خلال معاملته
لصيغ الخيال والواقع، مع أحفاده وبالأخص "سليم"، لقد قام الكاتب بتشبيع
النص بأمتياز وبمهارة فاقت التصور، بجودة أداء الشخصيات الثانوية، التي دعمت النص الروائي بإطلالتها ك "سعداوي"،
والبساطة والحياتية والفجعة بالفقدان و"سكيرة" الإلهام البذرة، لمضمون
الحب الشقي. لقد استطاع الكاتب أن يوجد الصور الكاملة للشهوة لدى المرأة والرجل بالإشباع
الكامل للصورة، كما تمكن من رسم صورة بلاغية غاية في الجمال، استفزت المفارقة فيها
في إضفاء نوع من التشويق لمعرفة ماذا بعد؟؟ لم تأت "منافي الرب" رواية
عبثية، بل رواية ذات رؤية نوعية من التحرر الذهني لمفردات الموت بذاتيته لا
بحتميته، لأنه النهاية لمكنونات الكون كله، الموت بالهروب من الواقع، الموت
بالضياع، الموت باسم الدين، أو حتى باسم الرب، إنها المنافي التي يوصدها الإنسان
على نفسه بسراديب غير منطقية، ليس الدين القيد بل الدين الإبداع والتحرر، من قيود
فرضها البشر أنفسهم. هذه الانسيابية والتنقل النوعي في ظروف الرواية من البادية إلى
الريف إلى الحضر إلى المدينة بأسلوب ممفصل لذروات الحياة وبساطتها، رواية "منافي
الرب" رواية غاية في الجمال، ولعل نشرها عالميا بكافة لغاته هو تحد للمترجم
بالانتقاء الدقيق للفظ والمفردة والقدرة التصويرية والبلاغية لتوضيح الصورة. لم أكن
سوى قارئة للنص الأدبي الذي تمتعت وأنا امخر عباب صفحاته وكأني اعتاش اللحظات
بنشوة ولهفة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق