2017/03/26

فاكية صباحي تبحث عن الإنسان عبر النوافذ الموجعة



فاكية صباحي تبحث عن الإنسان عبر النوافذ الموجعة(***)

حاورتها د. دليلة مكسح – بسكرة – الجزائر
الكتابة القصصية في فضاء التيمة / تيمة الإنسان:
       ما أصعب أن نبحث عن الإنسان في زمن اختلت فيه الموازين، وتداخلت القيم، وتراكمت العوائق، لكن في عمق هذا الانفلات يظل لبعض الأصوات الإبداعية، ذلك الحس، وتلك القوة التي تمنح للوجود البشري بعض خيوط الضوء، كي يسير بسلام نحو بر الأمان، وما أهون طريقه، حين تقف الإرادة سامقة.
فاكية صباحي القاصة والشاعرة والناقدة الجزائرية، تلك المرأة التي تصر على البحث عن الإنسان في زوايا العتمة، وتحت تجاعيد الغبار، وتفاصيل الأشياء المنسية، تفاجئ قارئها بالدخول إلى دهاليز يخالها لم توجد من قبل، كل ذلك لأن الإنسان يقبع فيها صامتا، فتطل عليه الكاتبة فاكية صباحي، لتلقي عليه التحية، وتعيد تأثيث وجوده، وغرسه في مسافات الحياة.
لأجل ذلك تأتي مجموعتها القصصية " نوافذ موجعة" منفذا نطل من خلاله على فضاء رحب، يحمل من الجمال والقبح الفنيين نصيبا كبيرا، فالجمال يرقص على حواف تفاصيل الواقع اليومي، وهو يحوله إلى تحف قابلة للتذوق والتأثير، والقبح يمتثل في تلك التفاصيل الملتقطة من مشاهد اليومي والمعيش، التي يغيب فيها الإنسان بإنسانيته، ولكن الكاتبة لا تحب أن تكون كتابتها مجرد مرآة عاكسة، إنها لا ترضى لنفسها ولحروفها هذا الموئل، بل تغوص وتتجشم معاناة اللقيا مع اليومي المبتذل، لتحيي الرميم وتصنع من أشكال الموت حياة جديدة.
    تؤسس الكاتبة فاكية صباحي مجموعتها القصصية (نوافذ موجعة) على خمس عشرة قصة، القاسم المشترك بينها هو تيمة الإنسان، التي تسعى من خلالها الكاتبة إلى رصد تفاصيل واقعية عديدة، تحيل كلها إلى مسألة تغييب الإنسان، وإعاقة حركته في الواقع المعيش، مستلهمة أحد العناصر الهامة، التي تجعلها قرينة للتيمة، وهي فكرة فوات الأوان، ففي كل قصة هناك صراع باطني مع سيرورة الزمن وصيرورته، خوفا من ضياع هذا الإنسان، الذي تروم الكاتبة إلى تحريره من حركة الزمن، محيلة في الآن نفسه إلى قيمة الذات في مواجهة الصعوبات، داعية إلى إعادة غرس روح الجماعة، التي بفضلها يعاد تشكيل المنظومة الإنسانية.
    إن الكاتبة لم تسع إلى تحرير الإنسان من قيد واحد، بل هي قيود عديدة، ولعل أهمها تحريره من الخوف الذي يحول دون وصوله إلى تحقيق الأفضل، وتحريره من قيوده الذاتية، ودعوته إلى احترام نفسه، وقد بدا ذلك بشكل أفضل في قصتها (مسحوق رمادي) حين كانت الشخصية الرئيسة تبحث عما يخفي تجاعيدها، ولكن الكاتبة تصدمها كما تصدم القارئ حين تستعين بعنصر المرآة الكاشفة، دلالة على ضرورة مواجهة الذات مهما كان الوضع.
لأجل كل ما ذكرنا كان هذا الحوار الشيق مع الكاتبة فاكية صباحي، وهي تفتح لنا نوافذها الموجعة:
س- نبدأ أولا بالعنوان لِمَ النوافذ موجعة ؟
ج- قبل البدء يطيب لي أن أبعثر بعض أزهار الشكر والامتنان بين يدي الأديبة الفاضلة، والأخت الغالية الدكتورة دليلة مكسح، راجية من المولى أن يجعلنا دائما على ما لا يبلى بالذاكرة، أما عن سؤالك..فهذه النوافذ التي تركتــُها طي الأوراق، هي سهام تلقيتها تباعا من كنانة الحياة، لتستقر بالصدر؛ وتبقى موجعة في صمت..ومن هنا أردت أن يشركني وجعها القارئ، إذا ما وجد بعض جراحاته بين قصة وأخرى..فقلمي كما تعلمين أيتها الكريمة قلما يجنح إلى الخيال، إذا ما أراد اقتناص مادته.
س‌-  يقول فرانسوا مورياك: إن قيمة أثرٍ ما هي بمقدار ما ينعكسُ فيه مصيرٌ ما؟ فإلى أي حد تؤمنين بذلك؟
ج- إن القيم –أيا كانت- لها فعل تغييري بشكل أو بآخر، لتترك أثرها على شخصية الإنسان ..فالذات كانت، وستبقى نقطة لقاء بين الفعل ورد الفعل، الذي أكيد سوف يبدو جليا في قابل الأيام ..فاختلاف الأشخاص من حيث أنماط السلوك، يعود بالدرجة الأولى إلى اختلاف المحيط، أو الدوائر التي يتحركون في مناخها، وبالتالي فكل ما يترتب من آثار داخل تلك الدوائر، سيبقى بمثابة الرواسب بمنطقة اللاشعور؛ لأن القيم الإيجابية تُنمي في الإنسان حب البناء، بينما تنمي القيم السلبية حب الهدم، الذي بدوره يبقى يشد ذلك الإنسان إلى الحضيض مهما تطور، ومن هنا ندرك جيدا قوة تأثير القيم وانعكاسها على المصير..
لذا يمكننا القول بأن قيمة أثر ما سوف تتغلغل في النفس، وتتجذر بها، لتصير مدماكا مُهمًّا يتغير على حده مصيرٌ ما، مما يترتب عنه تشكيل جديد، ونظرة أخرى وفقا لقوالب تلك القيمة، التي كانت اللبنة الأولى في بناء صرح شخصية الإنسان.
س- اشتغلتِ في نوافذ موجعة على موضوعة الإنسان المحاصَر، المحتَقر، المنسي، اليائس،...تلك الموضوعة التي ارتبطتْ غالبا بفكرة فوات الأوان، فما الذي تريد أن تقوله فاكية صباحي؟ هل الواقع بشع إلى هذا الحد؟
ج- فعلا ..لقد حاولتُ قدر المستطاع أن أطرق أبواب أولئك المنبوذين، الذين يعيشون على هامش الحياة، وهم يحملون ظمأهم على ظهورهم قرابا مطوية ما آن لها أن تمتلئ ..غير أنني ما أردت القول بأن الواقع بشعٌ إلى هذا الحد كما تفضلتِ ..بل أردت التنبيه إلى فئة لا تزال تتخبط في عتمتها، وهي تطرق أبواب النور -الموصدة دونها - بأيدٍ مثقلة بأرزائها ..
س- ولِمَ هذه المأساوية، هل قَدَرُ الكاتب أن يتتبع مواطن العتمة..؟
ج-هذه ليست مأساوية، وإنما هو واقع يعيشه غيرنا، ومن الخطأ التنكر له.. فالكاتب أو الشاعر هو المرآة التي تنقل واقعها بصدق دون تجميل أو مراء؛ لأنه شخصٌ شفافٌ تنعكس على صفحته كل الأشياء كما هي، ومن المؤكد أن أجمل النصوص هي تلك التي وقّعها حبر الألم؛ لأنها كثيرا ما تكون صادقة، لتستقر في قلب المتلقي مباشرة دون الاحتياج لدروب معبدة ..فالمآسي كثيرا ما تختصر المسافات لتوحد بين نبضات القلوب؛ لأن الجرح الذي يتفتق في صدر المتلقي، قد ينزف بصدر الكاتب، إذا ما اتحد النبض بالنبض ..والآهة بالآهة بعيدا عن محطات الزمان، وفواصل المكان.. ولأنني بالفعل مسكونة بأوجاع الناس -ولا أطل عليهم من الشرفات بل أعيش معهم أفراحهم وأحزانهم، وأخلدها بذات الوجع الذي أخلد به أحزاني وأفراحي، بعيدا عن الزيف والتنميق لأتحدث بلسانهم في أغلب الأحيان - حاولت أن أتحد مع كل ذرة من ذرات الواقع بعيدا عن الخيال الذي لا حاجة بي إليه، وأنا أحاول أن أمتشق قلمي مشرطا عساه يستأصل بعضا من تلك الأورام، التي رصدتها عن كثب ..لأن هدف الكاتب الجاد أولا وأخيرا هو محاولة تغيير بعض ما يُشوّه عالمه إلى الأجمل، وبالتالي هو يحاول جاهدا أن يتتبع مواطن العتمة، لعله يزرع بين جنباتها بعض النور..فوحدها قلوب الكتاب الصادقين من تظل معلقة من نبضها، وهي تئن مع أنين هذا، وتحلق مع أحلام ذاك.
     س-ألا يمكن للكاتب أن يقدم ما هو جميل ومشرق في هذا العالم..؟
ج-بلى هو قادر دون أدنى شك على تقديم ما هو جميل ومشرق، فوحده الشاعر أو الكاتب من يستطيع أن يجمِّل العالم بقلمه، ويرسم الحياة أزهارا منمقة برحب خياله، ولكن هذا إذا كان ممن يتجردون من واقعهم عن قناعة ورضا، ليتنكروا لقضايا مجتمعهم، ويصنعوا لهم عالما وهميا لا يريدون الصحو منه، متناسين نسغ الكتابة الحقيقي المتمثل في الصدق، الذي أراه دائما الحد الفاصل بين نص وآخر، فقد نقرأ لكاتب متمكن، ولا تصلنا صوره وتراكيبه مهما تجملتْ، بينما نقرأ لكاتب بسيط ونشعر أنه يكملنا، أو يتحدث عن جرح غائر بأعماقنا ما استطعنا الوصول إليه،  فمن السهل جدا أن نكتب نصا أدبيا، ولكنه من الصعب أن نبث الحياة ناطقة بين جنبات ذلك النص؛ لأن الصدق وحده من يبعثر الحرف ناطقا، ويوقع           الكلمة خالدة لا تحتاج إلى جواز عبور، كي تستقر بقلب المتلقي، ليشعر وكأنه يبحث عنها منذ سنين عددا، حتى تترقرق بصدره نبعا فياضا، يعبُّ منه كلما خاتله صفيرُ اليباب.                                      

    س-  قدمتِ في المجموعة القصصية رؤى ممكنة منحتِ من خلالها بدائل للواقع، مثل المقاومة، وبعث الذات من سباتها، والبحث عن الحرية؟ هل هذا كاف بالنسبة إليك لتشكيل منظومة إنسانية متماسكة؟
ج - نعم كما تفضلتِ لقد قدمت في مجموعة نوافذ موجعة بعض الرؤى، التي انفلتتْ منها بعض البدائل بطريقة ضمنية ..بينما تركتُ رؤىً أخرى مغلقة الأبواب، بهدف أن يشركني القارئ في البحث عن بدائل لها، ولكن هذا ليس كافيا بطبيعة الحال لتشكيل منظومة إنسانية متماسكة؛ لأنني عرضت الجرح فقط على المتلقي، ذلك الجرح الذي سيظل غائرا بين الضلوع..وأنّى لحرفي المتواضع أن يشفيه، وأنا أراه يزداد اتساعا يوما بعد يوم .
س-وما القيمة التي ترين أن لها الأثر الأكبر في بناء الإنسان إيجابيا؟
ج - أما القيمة التي لها الأثر في بناء الإنسان، والتي سوف نبقى نجري وراءها ظلا غافيا، فهي الإنسانية التي أتمثلها نورا، لو انبثق يوما من دواخلنا سوف يجرف جبال العتمة، التي ظلت جاثمة على صدورنا، فالحياة دربها طويل، ومذاقها مرير، ولا يجعل مرها حلوا سوى بسمة صادقة، تستقيم بين وجهين أشرقا معا في لحظة إنسانية محضة.  

س - ماذا تعني لك الكتابة القصصية؟ وهل ترينها قادرة على بناء مصير الإنسان؟
ج‌-   الكتابة القصصية هي المرفأ الذي ترسو به مراكبي بعد رحلة التطواف بهذا الكون الفسيح..وهي الهواء الذي أتنفسه؛ لأنها تُعبّد الطريق إلى التفكير الإيجابي..وتصقل الذات لتصير أكثر قوة وصمودا أمام تيار الحياة الجارف..ومن هنا يتغير سلوك الإنسان من الفعل إلى القول..فبالكتابة سواء أكانت قصصية أم شعرية يستطيع الإنسان إعادة هيكلة ذاته، أو برمجتها على أسس أقوى، ليمحو أي نقطة سوداء علّمت على دفتر الذات بأقلام الآخرين..وبالتالي سوف يصير للكتابة الدور الفعال في بناء مصير الإنسان، وتثبيت خطاه على كل الدروب مهما تشعب مسارها.
س- كيف ترين الكتابة القصصية اليوم؟ هل تبشر بخير؟
ج - الكتابة موجودة والحمد لله..والمواهب متعددة لكن الثابت منها، الذي يحاول المساهمة في بناء المجتمع، متكئا على ركائز مستقرة، قليل جدا، وقد صار كل من هب ودب يدعي الكتابة بحثا عن الأضواء، لنفقد الكثير من القيم التي كانت، وستبقى أساس الأدب الهادف الملتزم، غير أنني لا أستطيع أن أنكر كثيرا من التجارب الرائدة، والأقلام الجادة التي مازالت تناضل، وهي توقع على دروب التألق والإبداع بحروف من ضياء.
س - ما رأيك في التواصل الافتراضي من ناحية التأثير على العملية الإبداعية؟
التواصل الافتراضي هو سلاح ذو حدين..فالإيجابية لا توجد إلا حيث توجد السلبية..ولكن الإنسان الواعي المتزن لا يمكنه إنكار ما لهذا التواصل من فوائد جمة، تعود على الأديب بالمنافع، وتلاقح الأفكار، والاستفادة من خبرات الآخرين، وسرعة انتشار النصوص بين القراء..حيث قضى هذا التواصل على القيود، واختصر المسافات لتصلنا تجارب جادة، ما كنا لنصل إليها لولا هذا العالم الافتراضي..لكن في ذات الوقت هناك مساوئ لا يمكن أن نغفل عنها، ولا يسعني رصدها في هذا المقام ، وأظن أنه لا يزال الوقت مبكرا لتقييم مثل هذا العالم، ونحن مازلنا مشدوهين أمام أضوائه، التي نسأل الله تعالى ألا تثقل البصائر كما أثقلت الأبصار.
    أخيرا أكرر الشكر والامتنان أديبتنا الكريمة الفاضلة.

-         شكرا سيدتي الفاضلة على ما تفضلت به من حديث شيق في رحاب الكتابة القصصية، والإبداع عامة، ومصير الإنسان، وحاجاته، أتمنى لك التوفيق، ومزيد من الإبداع الأصيل الذي يترك بصمته في الحياة؛ لأن ديدنه الإنسان، والإنسان فقط .


***
- فاكية صباحي شاعرة وقاصة وفنانة تشكيلية.
  درست الحقوق واحترفت الفن التشكيلي.
*صدر لها سنة 2013 الجزء الأول من مجموعة قصصية (نوافذ موجعة) عن دار علي بن زيد للنشر والتوزيع، بسكرة، الجزائر.
*صدر لها سنة 2016 ديوان شعر نزيف على مقصلة الصمت عن دار ابن الشاطئ للنشر والتوزيع، الجزائر.
*لديها عدة مخطوطات تحت الطبع.
*متحصلة على الجائزة الأولى على مستوى مدينة بسكرة بالمرحلة الثانوية بقصيدة "درب الخلود".
*متحصلة على الجائزة الأولى للشعر الفصيح على مستوى القطر الجزائري "ملتقى الشعر النسوي قسنطينة " بنصها " نزيف على مقصلة الصمت" والذي أطلق عليه النقاد اسم الأوديسا، سنة 2011.
*متحصلة على الجائزة الثالثة عربيا ( جائزة الأرض) بقصيدة "نزيف على مقصلة الصمت" سنة 2011 ، مناصفة مع البروفيسور محمد إسحاق الريفي من فلسطين، والدكتور خليل عليوي من اليمن.

 *ترجم النص الفائز " نزيف على مقصلة الصمت" إلى الفرنسية من طرف الأديبة التونسية منيرة الفهري، وإلى الإنجليزية من طرف الدكتور فيصل كريم "الكويت"، وإلى لغة الأطياف السبعة من طرف الفنان التشكيلي سائد ريان "فلسطين ".
*متحصلة على الجائزة الأولى للقصة القصيرة في مسابقة جائزة القراء، التي أقامتها ولاية بسكرة سنة 2012  بقصة "وتهب أعاصير الندم "، وقد قدمت القصة آنذاك بالحصة الإذاعية "صحوة ضمير" للمخرج يوسف خليف بإذاعة بسكرة.
*فاز نصها عيد على طللي (شعر عمودي) بملتقى بلغراد الدولي سنة 2014 .
*فاز نصها ضفاف على النوى  (شعر عمودي) شهر جويلية 2016 بمهرجان الشعر الفصيح بعميرة الحجاج بتونس.

ليست هناك تعليقات: