2017/03/18

خواطر في النّقد .. بقلم: عبد الله لالي



خواطر في النّقد ..
الجزء الأوّل
بقلم: عبد الله لالي
النّاقد الأوّل.
01..
من تجربتي في مجال القراءة أوّلا ثم الكتابة ثانيا عرفتُ أنّ النّاقدَ الأوّلَ هو المبدعُ نفسُه ..
وتعلّمت أنّ الشاعرَ أو الكاتبَ الذي يستشعر الحاجةَ الملحّةَ لكتابة شيء ثمّ الرّغبة في عرضه على النّاس فقد أصدر حكمَه الأوّل على أنّ نصَّه يستحق أن يُقرأ ويبدي فيه النّاسُ رأيَهم.
ولا تجد مبدعا حقّا يرضى عمّا كتبه أو أبدعه تمامَ الرضا ، وتلك خطوةٌ نقديّة ( ذاتية ) ثانية تحفّز صاحبَها على مَزيد من التنقيح والتجويد واحترام القارئ والمتلقّي .. ومن يفعل غير ذلك فقد هوى في دَرَك الغرور الذي كثيرا ما يصحبه الضّعف والإسفاف ..
02..
النّاقد والقارئ..
القارئ هو النّاقد الثاني للعمل الإبداعي ، فالعمل الأدبي أو الفنّي يتلقّاه القارئ بمستويات مختلفة تتراوح بين القَبول والرّفض ، وعادة لا تخطئ ذائقة القارئ ( المنتجَ ) الإبداعيَّ الجيّد ، لكن لا تتضح قيمة ذلك ( المنتج ) بشكل منهجي ومفصّل إلا إذا أُتيح لها ( قارئ ممتاز ) قارئ ذو بصيرة نافذة ورأي سديد ، اُصطلح على تسميته ( النّاقد )..
النّاقد يغوص في التفاصيل الجماليّة للعمل الإبداعي ، ويشير إلى مناطق الظِّلال المُعتمة ، ويقول للقارئ هذا الذي أعجبك ..! وهذا الذي كدّر عليك صفو الاسترسال في متعة القراءة .. فيقول القارئ بلسان الحال أو المقال :
إي وربّي ..هذا هو ..هذا هو ..
03..
بين المتن وصاحبه..
النّاقد الحصيف عندما يضع المتن الإبداعي بين يديه أوّل ما يخطر بباله هو أن يتساءل لمن هذا النّص ..؟
فإذا عرف الجواب كان للاسم تأثير - نسبي - في قراءة المنتج الإبداعي أو الانصراف عنه، ثم تتوالد أسئلة أخرى بعد ذلك :
-       لماذا كتب المؤلّف هذا النّص ..؟ ماذا يرمي من ورائه ؟ هل تمكّن من استخدام الأدوات الفنيّة اللازمة لكي يخرج للنّاس نصّا متقنا إبداعيا وفكريّا ..؟
وتطفو الأسئلة إلى سطح الذّهن كلما خطا خطوات أكبر في قراءة النّص وتملّى جوانبه المختلفة جماليّا وفكريّا .. لماذا وضع هذه الفكرة هنا ..؟ لمَ اختار هذه الصورة بالذّات ..؟ هل كان يخطط لنصّه ويضع له تصميما مسبقا ؟ أم أنّه كان يكتب بتلقائيّة وبشكل عفويّ..؟
ما هي إيديولوجية المبدع ؟ هل يريد أن ينشر فكرا معيّنا ويبلّغ رسالة ما للنّاس ؟ هل هو عابث ، يكتب لنفسه وحسب ولا يهمّه القارئ ( ولو ادّعاءً )..؟
النّاقد الخبير الذّواقة لا يمكنه أن يفصل النّص عن صاحبه ..؟ لا يمكنه أن يعلن موت المؤلّف، لأنّ المؤلّف حيّ في نصّه رغم النّاقد الذي يدّعي الموضوعيّة !! ورغم ( رولان بارت ) ونظريّته السّخيفة.. !!
بين المؤلّف والنّاقد
04 ..
هل يصحّ أن يردّ المؤلّف على النّاقد إذا ما أحسّ أنّ هناك إجحافا أو تحاملا من النّاقد في قراءة نصّه أو فهم إبداعه..؟
بعض المؤلفين والمبدعين يفعل ذلك ، ولا يجد فيه حرجا ، وبعضهم يرى أنّ النّاقد حرٌّ في فهمه لنصّه ، وهو حرّ أن يبدع كما يشاء وليس بالضرورة أن يكون النّاقد مترجما أمينا لحقيقة متنه الإبداعي الجمالية والموضوعيّة.. !
وقد يتحوّل – في الحالة الأولى – المبدع ( المؤلِّف ) إلى ناقد ولو مؤقتا ، ليردّ على النّاقد (بالأصالة ) ويبطل أحكامَه ويهدم عليه كلّ ما حاول بناءه في ذهن القارئ من صورة يعتقد أنّها مزيّفة عن إبداعه ..وربّما نجم عن ذلك معارك أدبيّة تخلد في التّاريخ.
وفي الحالة الثانية قد يكون سكوت المؤلِّف ( المبدع ) فرارا من الزّحف ، وخوفا من ملاقاة العدوّ فيؤثر السّلامة ، برفعه لراية التواري خلف ( حريّة تعدد الفهوم ) .. وربّما تلذّذ بعض المبدعين بهجوم النّقاد عليهم ، لأنّ في ذلك نوعا من الدّعاية والترويج المجاني لهم من النّاقد بغير قصد منه ..
وقد قرأت مرّة أنّ أحد الكتّاب الكبار كان ينقد نفسه وإبداعاته باسم مستعار ، ويردّ على ذلك النّقد باسمه الحقيقي حتّى يلفت إليه الأنظار .. فيا لهذا الجبّار المسمّى النّقد .. ! وقد قال عنه الدّكتور عبد الملك مرتاض:
" النّقد الأدبي ، وما أدراك ما النّقد الأدبي ؟ !إنّها كلمة ترتجّ لها الأسماع ، وتهتزّ لذكرها الأفكار ، وترتعد لوقعها فرائص المبدعين.. "[1]
05..
النقد الجمالي..
هو نقد يبحث عن أفياء الحياة في النّص ، ينقّب عن الجواهر.. يكسّر من أجلها الصّخور ، وينبش التراب ، ويحلّق في أجواز الفضاء حتّى يلتقطها ، هي لا تخفى على القارئ النبيه ، لكنّه يحتاج إلى من يبيّن له سرّها ، ويقرّبها إليه حتى تكون ( قاب قوسين )..
ومن شرط النّقد الجمالي أن يكون النّصّ بالأساس جميلا يحتوي على معاني الإبداع الباهر ، والصور الفاتنة المعروضة للناظرين رَخْصة غير متمنّعة ، لا تتوارى في سجف الرمزيّة الموغلة في الغموض ، وبين أسوار الإعضال اللّغوي الممجوج .. ثمّ هو نقد لا يخضع – بعد ذلك – إلى جمود المدارس النقديّة الغربيّة وقوالبها الخشبيّة الميتة ، بل يجعل من النّاقد ( فنّانا ) يغوص على المعاني ويتأنّق في عرضها على القارئ في قالب جذّاب ، وينقّب عن الصور ويغري بها المتلقي حتّى يفتنه فيكون مثل اللائي قطّعن أيديهنّ وهنّ في غيبوبة الجمال، ولكلّ نصّ جميل صورته اليوسفيّة المبهرة ..
06..
بين الإيحاء والقراءات المتعدّدة.
النّصوص الجميلة القيّمة ذات إيحاءات قويّة ومستويات متباينة من الفهم ، تترقّى من البسيط إلى المركّب ثمّ إلى المعقّد ، وذلك يعني أنّ النّص يختزن في طواياه زخما هائلا من المعاني والأفكار التي تمدّ القرّاء بعطاءات متلاحقة يفهم منها كلٌّ حسب مستواه وحسب قدراته الذهنيّة والتذوّقيّة، وهذه التي يمكن تسميتها قراءات متعددّة..وهي في الحقيقة مستويات من الترقي في فهم النّص ، وهي في الجوهر متكاملة يرفد بعضها بعضا..
أمّا أن يختلف النّاس في قراءة النّص إلى درجة التناقض والتضاد فهذا ما لا يعدّ تعددا في القراءة ، فالكاتب بلا شك لم يكن يقصد إلا معنى واحدا – وإن يكن ذا مستويات متباينة – وأيّ قراءة مختلفة لما قصده المؤلّف أو المبدع فهي محض تجنٍ على النّص ، ولا يمكن للمبدع الذي يحترم نفسه ويعتز بنصه أن يقبل بها ، إلا إذا كان ما كتبه هو من قبيل الهذيان الحداثي.. !!  
07..
بين الرّواية والشّعر
قيل قديما : " الشعر ديوان العرب " وطار هذا القول في الآفاق ، وسرى مسرى النّار في الهشيم ، ذلك أنّ العرب لم يكونوا يكتبون أو يقرأون ، فهم أمّة بدويّة تتكئ في خطابها على الحديث المرتجل والمشافهة المباشرة ، وأخفّ وأجمل إبداع أدبيّ يسهل حفظه وروايته هو الشعر، فكان الشعر السّجلَّ الذي فيه أخبارهم وأيّامهم وتاريخهم كلّه.. وما كان من خطب أو حكمة ومَثَل فهي مسجوعة ومغنّاة تنقل كما ينقل الشعر ، ولكن بشكل أقلّ..
فلما جاء الإسلام تعلّم العرب الكتابة والقراءة ، وظهر التأليف بينهم ، بدأت تظهر أنواع أدبيّة أخرى غير الشعر ، لكنّها لم تقف منافسة له أبدا .. وبقي هو ديوان العرب وسجّلهم الحافل بمآثرهم وأخبارهم ..
وظهرت القصّة والرواية في الثقافة العربيّة بدايات القرن العشرين متأثرة بالثقافة الغربيّة ، وتفاقم أمرها وعلا شأنها حتى ارتفعت أصوات تزعم أنّ الرواية حلّت محلّ الشعر، وصارت هي ديوان العرب في العصر الحديث ، فهل صدق من زعم ذلك ؟ أم أنّها مجرّد حماسة مبالغ فيها نصرة للرواية ..؟   



[1] - من كتابه ( النّقد الأدبي في المغرب العربي "بين القديم والحديث " ). ص05 دار هومة للطباعة والنّشر والتوزيع الجزائر 2014 م

ليست هناك تعليقات: