مثانة منتفخة بوطن يتدفق بؤسًا
محمد حسني عليوة ـ كاتب عربي
مدخل...
«من الآنَ تـُبصرونَ ابن الإنسانِ
جالسًا عن يمينِ القوةِ،
وآتيًا على سحابِ السماء»
-*-
في ميدان طلعت حرب
المتسخ كغانيةٍ تعوي تحت سفّاحٍ محترف
حيث العراءُ .. العراء،
والشارع تضبطه الفوضى، منتظرًا:
هديرَ صمتٍ عارم يدفئ خلوته بحذر
نزيفُه ذو مقاطع حزينة تترنم في أذنيّ
في يدي قلبٌ أحمق،
كشاطئ ٍ عريض المنكبين
تدوسه الأقدام،
فلا يتلوى ضجرًا أو يفصح عن صهيله
قبالة الجندي: المفكك/ المتعب/ المنهك،
وقد خلع حذاءه الميري
عند رصيف مقهى ريش
ويبكي كطفلٍ يقترن في بياته الشتوي بحليبِ أمه
فيما خانتْ حقيبة طلقاته وعودَه بقنصي
وأنا أجري كفأر ٍ مذعور:
قفزاته مثقلة بصداع ٍ رتيب الإيقاع
به قليل من الجراح ِ تتقدم في التقيّح
وصوتٌ خافتٌ يتسرب إلى فمه:
«أتظن أني لا أستطيعُ الآن أن أطلبَ إلى أبي
فيقدِّمَ لي أكثرَ من اثنيْ عشر جيشًا من الملائكة؟»
في اللحظةِ نفسها،
تشغلني أمنيتي القديمة
باعتلاء رأس طلعت حرب وتحطيمها
وتركيب مثانة في اتساع قارّة تبول بجنون
فيخلع الناس ظلالهم ويرتدون دمي، المراق ذكيًا بغزارة
**
في ميدان طلعت حرب
جلستُ أدخن قصائدي المعنيةِ بالعزلة
ضميري أزرعه في الأرض
وقدمي تصعد السماءَ المزدانة بالضبابْ..
ضباب أمسيةٍ يأتي منتشيًا
فى امرأةٍ نسيتْ فوق الذكرياتِ معطفها،
وطفلتها من رجلٍ لم تعرفه
وفي عاشقٍ متلهف من زمنٍ بعيد
لقبلةٍ أولى عند منعطف يتحسسّ فيه الحيارى
ولوطنٍ جعلوه يعيش كعلبة سردين فاسدة:
في خيمةِ كشافةٍ تحتاج إعادة توضيبٍ من كل زائر!
*****
هنا، النوافذ ُ نامتْ كالأطفال ِ الكسالى
رعبًا من تكتلات الناتو
التي حجّمت باللاسلكي:
طموحَ الأكرادِ فى سُلطة الفـُراتيين،
وقصّت رغبة الأتراكِ فى شراء بيت المقدس،
ونهَم الروس ِ فى نفطِ الكعبة المخصّب
وباركتْ ساركوزي في توحيد ليبيا إلى شطرين!
وأنا لم يعد يبقى لي من قذارة العالم، سوى:
فرشاة َ الحلاقة ومعجون الأسنان
وبودرة تسلخات الجلد،
ومشاريعَ كبرى، لا تحتاج طاولة:
كإلهامِ موسيقى نافرةٍ يذيب الفوارق
كقلبِ ملاك يترفع عن شغبِ الضغينة
كحانةٍ ليلية تفتح أبوابها لمعذ َّبين،
ولا تطردهم عند الثمالة
كمدينةٍ لا تفسر أحلامها على طريقة برايل
وكمجرةٍ تشرب من سطل البيبسي كولا
وجسمها لا ينتفخ من الصودا!
****
من ساعتين، اقتسم رجال القيصر ثيابي بينهم
«وَضفرُوا إكليلاً» من الرصاص حول رأسي
و جعلوا مكتوبًا عليها:
« خَلِّص نَفْسكَ! إن كنتَ ابنَ الله!»
وعلى جثماني ألقوا بُرادة الليل البهيم
فجلستُ في وضع قنفذٍ ينكمش
وبرودة من العيار الثـقيل تمصّ عظمي
أفكار بحجم كارثة تنتعل كابوسًا
يسحقني إلى فتات ذرّي
تحمله الأرملة ُ كحرزٍ من الرجال
ويحيله غاندي، بعصا سحرية، مدائنَ ملحْ
- ولا تظنوا غاندي ساحرًا !
يحيك من الهند كراسي وثيرة من البامبو
ويمنع ماركات المرسيدس والفورد والبيجو
من النكاح في شوارع دلهي
وينظم نسل صفائح الريكشا المهندمة
ولا تحسبوه نبيًّا نزل بدستوره السري
ومصحفه يطلق الرصاص على تشرشل
في حمام السباحة
ويرمي أصابع الديناميت في وجه معاونيه
هو حتى لا يقرأ النشرة الداخلية في علب الدواء
لأن تمارين اليوجا لم تُكتشف في دواليب الطباعة
ولأن فتيات بومباي
لا يرتدين صدريات بحزام إنجليزي..
وتعاطفًا مع الطاقات المشحونة بالفراغ
مات غاندي؛ ويده تعيد كتابة العالم
*****
جلستُ هنا،
وفواصل خشبية في جسمي مفقودة تمامًا
ثدي متورم في مكان خطأ من صدري
قعقعة حب الحياة في ضلوعي واهنة؛
من صعود وهبوط سلالم المستشفى القبطي،
وتوابل النواح توزّع بالتساوي على الجثث المشيعة
من ساحة الكورنيش، إلى القرافة
بائع الآيس كريم لا يذكر أن رأى كائنًا
ينتمي لهذا الكوكب من ألف عام
والمعاناة تسطع بداخلي كنبيذ معتق
تمنح اكفهراري بعضًا من تلذّذ الكآبة!
لكني صرتُ أهتف، لاكتشاف نفسي:
- أيها الرجل الذي لا أسمّيه،
أنا، وجهي صحراء منبعجة في خرائط الدنيا
قلبي ينبض في الهواء الطلق كفقاعة
المثانة منتفخة بثوبي الداخلي
أظافري تنهش لحمي النّي، وأنا جائع
وليس لديّ ارتياح،
يعطيني إحساسًا قويًا بأن العدالة
تأخذ مجراها الطبيعي لأرتجل أغنيتي
كشحرور، يحلّق في الملكوت:
مصابًا باحتقان وطن ٍ مزمنَ البؤس!
******
جلستُ هنا؛ أفكر في صوتِ لبنى
- يحرر وطنًا تعيسًا بحجمي-
أشتهيها مزيجًا:
من سخونةِ الشعرِ في رغيف خبز
ونبلِ إطلاق الكلابِ على طاغية
في عينيها ألتمس الصباحَ الغريب
وفي جيبِ سُترتها سريري الدافئ
أتذكر لبنى،
وهي تتدحرج لماسبيرو كقطة
تخمش الأقفالَ المزروعة بامتيازٍ من الماضي
وتكتبُ تقريرها المفصل بهاتفها الصغير
أطالع آخر رسائلها النصية القصيرة
وهي تخبرني عن صعودها حافلة جنود
عن سحب جواز سفر "برادلي"
المسحوق حبًّا في تلابيب القاهرة
عن تشهيل جثة "إستر" إلى المستشفى
بعدما نهبوا ابتسامتها المشعة نُبلاً
وتركوا بين نهديها الصغيرين
مسيحًا يُشهر قبضته باتجاه أمريكا
وهي تنشب ظُلفها المعدني
في خليج العقبة
والخليج العربي
وخليج السويس
حتى يقول قائدُها، بصلف مرتزقة:
ما عادت السواحل تكفي لدق المتاريس!
لبنى التي قالت سُحقـًا،
في وجه من كان يدير مصر كشقةٍ مفروشة..
كان يرتاد الحديقة شاهرًا جلاله المفقود،
ويخلع خِرقة السلطة ويمشي كإله،
هو الآن عند مفترق الطريق،
لا يستطيع سماع موسيقى ضميره وهى تئن،
وصراخ مدوٍّ،
من جيل كبُر على الكابوس ذاته كلَ يومٍ،
يلعنه..
بينما يتركه يغني
"كرجفة الشتاء في ذؤابة المطر"..
يتركه يمشي خلف نعش حاضره القديم..
يدغدغ جرسًا علقوه برأسه،
ويهتف في بلاهة:
- أنا كاهن الحي، أنا كاهن الحي !
ويزفه العيال في الأزقة المنسيّة
عيناه مطفأتان،
تشم منه رائحة الأفيون..
وعندما يجوع في الطرقات،
سينتف شعر ذقنه في سفاهة!
ماذا كنا سنأخذ من وجعٍ
وهب الوطنَ ضجيجًا
من شبحٍ،
مثل: كَسْر الضوء في حطام المرايا،
رسم لنا "مُدنًا من ثلجٍ أسود"
(والعالم يشكو السوادَ)..
رسم لنا:
" زمنًا يركض مذعورًا" في الشوارع..
وخيولاً غادرها الصهيل!
يطلق دومًا كلابَه الشرسة خلفنا
يرهن سيفنا المسلول في بنوك سويسرا،
ويخزّن نفطنا في خصيتيه..
ويقتل النوارس الدفيئة في شعائر الترحال!
- ألا ترى معي،
أننا الأمة الوحيدة التي تسقي ربها خمرًا ؟
"أصدرنا قانونًا يمشي كالبهلوان!"
لا يرضى تعليق حذائي كهرم رابع في صدارة المتحف
لا يسمح بنحت بَصْمتي المنوية في ذاكرة أوربا
ويقضي عقوبة الإعدام في سبابٍ فاضح
للقائم بأعمال إبليس في بلاط صاحب العصمة
ويمضى بطيئًا وفجًّا في رأس نيرون
وهو يتجلى كذئب قدموا له القطيع مجانًا فالتهمه بلا رحمة!
*******
كان العالم في حانة ماسبيرو يغيب في حضرة:
(كؤوس هائجة من دخان القنابل المسيلة للدموع)
(وهواء سياسي ذابل من تركات عبدالناصر)
فيما أرى نفسي:
في تفاصيل بشرية تراعي انفلاتها
وخوفـًا عليها من زبانية الجستابو
ثبـّتـّها بمسمارٍ في الجمجمة
ونهضتُ أتكئ على
(أرصفة لا تعرف أين تختفي)
تحت غابة من السيقان وأسطول من الأحذية
و(مسدسات لروليت نهاية السهرة)
وشعار يتيح التلكؤ لبعد ثمالة الموتى في التوابيت
و أزهار القرنفل، بصخب لا يمكن قياسه،
تتبدل فى عيون الناس إلى وحشية
بينما الصقور و الحمائم، في نزهةٍ نرجسية،
يذهب موكبهم إلى البيت الأبيض ويقلدون الهيبيز..
-----
* بين قوسين/( أسعد الجبوري) – بين مزدوجين/ "نزار قباني"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق