عندما يحثنا الموت على الحياة!
إطلالة على ديوان (ليس للموت اسم آخر)، للشاعر "هاني قدري"..
عمرو
الرديني
((الجواب بيبان من عنوانه)):
ذلك المثل الشعبي الشهير قد
يصدُق في كثيرٍ من الأحايين، لكنك لا يمكن أن تطبقه على الدواوين الشعرية، فكثيرًا
ما يكون العنوان صادمًا أو مغايرًا للمألوف والمعتاد، لتفاجأ بمحتوى هو ربما عكس
الصورة الموجهة لك!
هذا بالضبط هو ما حدث معي
عندما أهداني صديقي الشاعر/ المعلم "هاني قدري" ديوانه الثاني، والفائز
في مسابقة النشر الإقليمي لإقليم غرب ووسط الدلتا الثقافي، فرع ثقافة البحيرة، في
العام 2017 م..
فقد فاجئني العنوان، كما صُدمت
من الغلاف المقبض للروح، والذي جاء بألوانٍ غامقة، للوحة (تابوت) مُحكم الغلق!
ولا أعرف لماذا انتابني ذلك الشعور الغامض
وأنا أفتح الديوان بأنني أقوم بفتح ذلك التابوت ذاته؟ لأتوقع بديهيًا أن أجد قصائد
تتسم بالسواد، أو مرثيات وصور جنائزية، وربما كل ما يمت بصلةٍ للعالم الآخر..
لأفاجأ بأنني قد فتحتُ بابًا على.. الحياة!
*****
جاء إهداء ديوان الفصحى
(عائلي جدًا)، لكنه يحوي إشارات هامة:
إهداء
إلى/
أميرة ورقية ومروان
الجنَّة
التي فتحت أبوابها أمامي
ولم
تمنعني ذنوبي من الدخول
إلى/ أبي
وأمي واخوتي
عصاي التي
أتوكأ عليها
إهداء رقيق نراه مقسومًا
لنصفين: النصف الأول لأسرة الشاعر الصغيرة، وفيه يعترف لنا بذنوبه وخطاياه.. وكأنه
يعاهدنا منذ البداية على الصراحة والمكاشفة، وفي النصف الثاني يخاطب أسرته
الكبيرة، وفيه إعتراف أيضًا بالضعف والاحتياج بأن الشاعر رغم تعمقه في بحر الحياة
إلا أنه لا يستغني أبدًا عن العون وخاصة من أقرب الناس إليه..
نحن إذن أمام (شاعر/ إنسان) يذنب، ويحتاج..
وبكل ما تتخلله الكلمتان من تفاصيل يولج بنا إلى عالمه الشعري الفصيح كبشرٍ وليس
كملاك.. لا يكذب، ولا يتجمَّل.. ليعترف لنا ويبوح دون أن يقدم أبدًا النصائح،
فربما فعل ذلك في فصله المدرسي لكن ليس هذا دوره هنا.
*****
ضمَّ الديوان 28 قصيدة متفاوتة الطول، من شعر
التفعيلة والنثر.. وذلك في 96 صفحة من القطع المتوسط، وجاءت أغلب عناوين القصائد
لاعبة على نفس الخط العام للديوان، والذي يتخلله فكرة الموت بشكلٍ أو بآخر.. ولعل
ذلك قد تجلى في صورة مباشرة كعناوين: (فقدكِ يعلن موتي- من طقوس موتي- للموت
فضاءات أرحب- مقاطع تشتهي موتي..) إلى جانب القصيدة التي حمل العمل عنوانها (ليس
للموت اسم آخر)..
كما حملت عناوين أخرى رائحة
الموت، أو مقدماته ومتعلقاته مثل قصائد: (تجاعيد يخطها الصبر- سأحفر لنفسي
وطنًا..)
ويبدأ "هاني
قدري" مشواره بقصيدتين مكثفتين حملا عنوانيّ: (أما قبل- أما بعد).. وفيهما
تساؤلان يطرحهما دون محاولة للإجابة عنهما فهو ليس دوره كما أشرنا من قبل، وإنما
هو يفتح لنا نافذة من التفكير والتأويل، ويهيئنا لما سنقابله
من علامات استفهام وتعجب!
*****
ويسير بنا الديوان في لغة
رهيفة/ سهلة.. تبتعد عن التراكيب المعقدة، والجمل المتكلفة.. كما نلاحظ أن للشاعر –والذي
يكتب أيضًا أدب الطفل- مجموعة من الكلمات والمفردات تتكرر على مدار القصائد بشكلٍ
ملحوظ، مما يحيلنا إلى دلائل هامة لما يريد أن يوصله لنا من رسائل:
**فنجد مثلاً كلمة (موت)
بصفتها المباشرة، وبمشتقاتها الكثيرة مثل (قبر- لحد- دفن- عزاء- إحتضار- جثة- كفن-
...) نجد أنه قد ذكرها 24 مرة! مما يؤكد أهمية المعنى الذي قد عنون به العمل،
واشتغاله عليه كفكرة وكمضمون، وهو لا يقلقه كهاجس بقدر ما يراه دافعًا لاقتحام
الحياة، والاستمتاع باللحظة الحالية.
**(حلم) ورد ذكرها 25 مرة، لتكون هي الأكثر
تكرارًا على طول صفحات الديوان.. مما يرسخ شعورنا بمدى رغبته في تغيير الواقع،
فحلم "هاني" ليس حلمًا خاصًا، بل هو حلمًا إنسانيًا يسع الوطن ككل.
**وبذكر (الوطن) نجده كررها 13 مرة، فهو مهموم
به وبمشكلاته رغم أنه قد يضيق به أحيانًا لدرجة أن يشبهه بالقبر عند قوله (سأحفر
لنفسي وطنًا)، أو عندما يقول (وطني يشاطرني زنزانتي)!
**نجد بعد ذلك كلمات تكررت بصورة متفرقة،
وكلها تشكل عالم الكاتب الشعري وتجسد دلائل شخصية، ومنها: (بحر) 9 مرات، (عرق) 6
مرات، (ظل) 6 مرات، (خجل) 5 مرات...
ولم يخلو الديوان من التناص مع القرآن الكريم
كما في قوله (أزفت الآزفة) قصيدة (أحفر لنفسي وطنًا)، ومع الأسطورة (سيزيف) قصيدة
(مخطوطة بامتداد الوطن)..
كما إستطاع إعادة صياغة بعض الحكم والأقاويل
الموروثة، مثل الحكمة القائلة: (من لا يملك قوته لا يملك حريته)، فأعاد الشاعر
كتابتها ببراعة في قوله (فمن بات يحلم بالرغيف/ لن يرفع رأسه يومًا/ في وجه
خبَّاز) قصيدة (زيارة لم يدركها السجان).
لم يغفل كذلك
"قدري" ذكر الأنثى بين جنبات قصائده، فنجده يخاطبها كحبيبة أو زوجة أو
أم أو حتى كوطن.. فالمرأة في عالمه الإبداعي لا نستطيع حصرها في صفة واحدة، أو أن نرسم
لها صورة محددة!
فهي أحيانًا الحبيبة السابقة التي يتمنى
العثور عليها كما في قصيدة (فقدك يعلن موتي) والتي جاء منها كلمة ظهر الغلاف.. أو
الحبيبة المفقودة (حماقات شمعية).. وأحيانًا هي العانس التي يشفق على حالها/ وعلى
حاله كما في قصيدة (تجاعيد يخطها الصبر)، (الحلم الذي اشتهاني).. كما جسدها كفتاة
تغويه رغم فلسه من كل شيء، قصيدة (غواية أرهقها الفلس).. وذكرها كذلك كزوجة بصورة
مباشرة كما في قصيدته العائلية (طقس يومي)، والتي أهداها لإبنيه.
*****
أخيرًا: لا أزعم أنني قد
ألممت بالجوانب المختلفة لذلك الديوان الجميل، والذي أسعدني معه الحظ مرتين.. مرة
بقراءته، والأخرى بمحاولة فك شفرته، وإلقاء الضوء على بعض خصائصه.. آملاً أن يكمل
المشوار من هم أجدر مني بتلك المهمة النبيلة في متابعة إبداع شاعر واعي/ مثقف، يحمل
على عاتقه هموم ناسه وبلده.. مكافحًا برسالته في الحياة كمربي أجيال، وكصاحب قلم
حر له مني كل التحية والتقدير، وفي تلهف لتلقي أعماله القادمة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق