قصّة قصيرة
بقلم: محرز راشدي
أخذ كلّ
مسافرٍ زاده ومقعده وأنيسه وحديثه في حافلةٍ أخضر لونها، تشقّ طريقها على غير
اهتداءٍ. حافلةٌ بدت للوهلة الأولى سليمةً معافاةً قادرة على التّجاوز والتخطّي
وبلوغ نقطة الوصول. مقود الحافلة بيد رجلٍ في منتصف العمر، ربع القامة، قليل
الحديث بل معدومه، يحدّق في الطّريق ويواصل المسير. أمّا المسافرون، فستّة وخمسون
راكبًا، يحملون زادًا ضنينًا، يعيشون زمنًا شحيحًا. الوجوه منهم باهتة، تحجب أكثر
ممّا تشي، والابتسامات مائتة باردة تلسع أكّثر ممّا تنفع.
كنّا
نجلس مثنى، لا يلغو الأخ مع أخيه، بل الوجوه متنافرة، اتّجاه اليمين واتّجاه
اليسار..الأمر الذّي أغدق مناخًا من الكآبة والاختناق واعتصار الرّوح. اتّخذت لي
الواجهة البلّورية المحاذية وجهة أُطلّ منها على العالم. الحافلة تلتهم الطّريق،
تبتلع العامرة والغامرة، وأنا متسمّر..تنهب المفاوز والمعمار، النّبت والجدب،
الحيوان والإنسان، وأنا مُتجمّد، لا يطرف لي جفنٌ. رأيتُ العاديات والأعاجيب،
سجّلت حافظتي ما سجّلت، وأسقطت ما أسقطت. سجّلت الحافظة مشاهد في غاية الإغراب:
تراءى لي قطيع من الأغنام والخرفان في مواجهة
ذئبٍ متوحّدٍ، أو يبدو كذلك..الخراف النّاعمة نبتت لها قرونٌ مسنونةُ، وأنيابٌ
مسمومة،..العيون منها شهبٌ، والمناخرُ تسيل
خيوطًا من الدّماء...خرافٌ ثارت ثائرتها، ويمّمت الذّئب هدفًا، فسعت في إثره سعيًا
لا رادّ له، إلى أن غاب الكلّ في السّراب وبقي لي موسم العجاج أثرًا أستمسك به.
تراءى لي
في إحدى المفازات حمارٌ بدينٌ، لا تبدو عليه علامات الشّيخوخة أو الإنهاك، يمتطي
ضربًا من السّباع، يُعرف في الحكي بـملك الغاب..إنّ الأسد مركوبٌ. كذّبت عيني، عركتها
جيّدًا حتّى استعادت الصّفاء، وأعدتُ الكرّة فلم يعد النّظر حسيرًا. أخذتني
الرّعدة، تملّكتني الشّفقة، استطعمت الحسرة والمرارة وأنا أرمق من ذوات الحافر نوعًا
يُعربد فوق ظهر الأسد..لقد استطاب له المقام هناك علفًا ومشربًا ورفثًا وروثًا،
والسّبع في هزالٍ، يترنّح في المسارب، الرّأس منه مُطأطأ، والزّبرة في سقوط
وتناثرٍ.
تراءت لي
–ويا للعجب – نبتات طفيليّة عائشة في كفالة الأشجار العظيمة تخرج عن طورها..طفيليّات تتسامق وتتشامخ وتأخذ
أشكالًا عملاقة وتفرز ثمارًا أشبه برؤوس الشّياطين، فيصيب الغابات ماردٌ من
الإفلاس، ويكون الإجداب عنوانًا جديدًا مصكوكًا بالبنط العريض.
تراءى لي
حشدٌ من الصّغار، يصدر لغيطًا أشبه بأصوات الذّباب المتحلّق حول الجيف، يُطاردُ
أمرًا جللًا، ويرجمُ كائنًا مهيبًا، يُسمّى عند الأقدمين رسولًا. نعم، إنّ الحجارة
ما عادت من سجّيل، وأخطأت أهدافها الأولى، لتُصيب هدفًا حادثًا..وتُلحق الأذى
بالقيمة والمعنى..لقد تراءى لي الألم ينتعلُ الأرض، ويتأبّط محفظة، ويأمل في
الخلاص..إنّها رؤيا بنكهة العمى!!
تراءت لي
جوقةٌ تعزف على وتيرةٍ واحدةٍ، وتغنّي في كلّ مرّة نشيدًا واحدًا، لها من الألوان
لونًا يتيمًا لا يُشقّ له غبار. جوقةٌ تصطفّ في كلّ نشيدٍ وراء قائدٍ، تزكّي
مراميه، وتبرّر مساعيه، وتحسّن أحواله وأقواله وأعماله، وتوجّه الأعناق برفقٍ
نحوه. أعجبني العزف، وفتنني الإنشاد، وتملّكني الأداء...لكنّ صوتًا في أعماقي
يُحفّزني على الارتياب، ويستحثّني على أن أقتلع عينيّ من هذا المرأى مثلما يقتلع
البنّاء مساميره الصّدئة من الأخشاب السّميكة.
تراءى لي
الإنسان، في أسمالٍ، يطرق أبواب الحياة وهي موصدة، ويطلب ألواح المنجاة وهي في
نأيٍ، ويستغيث فيرتدّ الصّدى "ليس هناك من مُغيثٍ". رأيتُه رضيعًا جفّ
ثدي أمّه فصرخ إلى أن ابتلعه الصّراخ، رأيته طفلًا يطلبُ في العيد كساءً زاهيًا،
ويأمل في لعبةٍ يُشاركُ بها الأتراب فإذا بالفاقة تغرس فيه الإحباط وتثلمه بثلمة
اليأس، رأيته كهلًا يعبّ من ينابيع الحياة كؤوس المواجع والمرض والإخفاقات ويُنضّد
التّعب والحاجة والقلق والأرق جنبًا إلى جنبٍ..إنّي رأيته شيخًا أتى بياضه على
سواده، وساد عند الجفاف على ماء الحياة، فتسيّدت التّجاعيد، وهيمنت الأخاديد،
وتعملقت الحُدبة، وتقارب الخطوُ في تعثّر، وتقدّمت العصا الخشبيّة مُتّكأَ يُبشّر
بعطالةٍ عُضويّةٍ.
كنت على
هذي الحال، سلالم متواشجة، ومدارج متنافذة، إلى استفقت على هزّة كادت تقسم ظهري،
وهرجٍ ومرجٍ، وحافلة أصفر لونها، تترنّح في طريق وعثاء ذات اليمين وذات الشّمال
كمخمورٍ هتكت ستره بنت العنب...لأوّل مرّة أخرج عن صمتي: يا إلهي، ماذا يحدث؟ لم
أحصد جوابًا من هذه الكثرة من الفلانيين...لعلّ خطبًا حدثَ حينما كنت في نومتي
الصّغرى ورؤياي الكبرى!!
وقفت
أتطلّع ناحية المقود، ناحية السّائق الذي وقع تفويضه في رحلتنا هذه..وكانت
المفاجأة. إنّ السّائق الذي كان في منتصف
العمر، ربع القامة، صار شيخًا كبّارة، ترهّل منه الجسد، وشاخت الرّوح..يمسك
المقود بيدين راعشتيْن، ويُثرثر كثيرًا..بجواره شيخ آخر يبادله النّظرات والقهقهات
والكلمات..يقايضه كلّ شيءٍ...هل المسافرون غير راضين عن السّائق أم هل انقسمت بهم
الثّنايا بين الشيخيْن...أجدني في غفلةٍ، وأبعد عن ترجيح الإجابة.
كلّ ما
يعنيني أنّ الطّريق ما عاد يؤدّي إلى الهدف، إذ انخسفت بنا الأرض، ووجدنا أنفسنا
في جوف الأرض، في بطن الظلمة، نفتّش عن دليلٍ ولا من دليلٍ..نبحث عن آيةٍ أو
علامةٍ دون جدوى...فكان منّي أن وقفت بين المسافرين العالقين في الخراب خطيبًا:
أيّها النّاس أطرقوا أبواب قلوبكم ودقّوا نواقيسها...علّها تشفع لكم!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق