حركـة الترجمة والتعريب بين العصرين الـعباسي والـمملوكي
بقلم:الدكتور محمد سيف الإسلام بــوفـلاقــة
لا
مندوحة من أن الترجمة تعد بالنسبة لأية أمة من الأمم ركيزة أساسة،وشرطاً رئيساً من
شروط النهضة، والتقدم،والارتقاء. لذلك نرى الكثير من المفكرين والعلماء يقرنون
النهضات العلمية العظيمة للأمم المختلفة في شتى المجالات بمدى إسهاماتها في ترجمة
مختلف العلوم، والآداب،والفنون،نظراً للأهمية الكبيرة التي تمثلها الترجمة،والدور
البارز الذي تلعبه في التنمية البشرية،فالترجمة تعتبر البنية القاعدية للأمم
الراغبة في«النهوض والمشاركة في صنع الحضارة الإنسانية،لأن بداية هذا النهوض
مرهونة بالاطلاع على ما هو موجود عند الأمم الأخرى التي أسهمت في تطور العلوم
والفنون وأساليب العمل والتسيير في مختلف مجالات الحياة. وقد يكون تأثير هذا
الاطلاع بنسبة محدودة على حياة الأمة،إن اقتصر على فئة صغيرة من أفراد المجتمع،لها
حظ امتلاك اللغات الأخرى،لذلك نجد الأمم المتحضرة قديماً وحديثاً،تنقل هذه المعارف
إلى لغاتها ليتمكن معظم أبنائها من المشاركة في هذه النهضة. وقد استوت في ذلك
الأمم المتقدمة للاحتفاظ بتقدمها، وتلك التي لها الرغبة في التقدم بغية اللحاق
بالركب»(1).
من هذا
المنظور فقد أدركت الأمم المتحضرة منذ العصور التليدة أهمية الترجمة«فقد مارس
أوائل المصريين، وعلى عهد الفراعنة بالذات الترجمة ممارسة احترافية؛إذ كُتب نص اتفاق سياسي وقع بين الفراعنة والهيتيّين بلغتين
اثنتين:الهيروغليفية، والهيتيّة، وذلك منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام.
كما
كان يوجد بالديوان الفرعوني بمصر القديمة مترجمون محترفون،يرث أبناؤهم آباءهم.
وكان الفراعنة،لشرف مهنة الترجمة ونُبلها،يصنفونهم في مراتب الأمراء.
كما أن
الرسائل التي كان يبعث بها النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملوك عصره كانت تترجم إلى
لغات أولئك الملوك مجرّد وصولها إلى دواوينهم،على الرغم من صمت المؤرخين ورجال
السير عن ذلك صمتاً مُذهلاً،ولم يكد يومئ إلى بعض ذلك إلاّ ابن خلدون في تاريخه.
وواضح أن العرب لم يكونوا على جهل مطلق بالأمم
المجاورة لهم قبل ظهور الإسلام،فقد كان ورقة بن نوفل مثلاً متنصراً ؛فكان يكتب
الكتاب العبراني،فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب. كما كانت
الترجمة مستعملة في مجتمع المدينة المنورة،بعد الهجرة، وخصوصاً بين العربيّة
والعبريّة، وكانت سجلات الجند، والمحاسبة،تتمّ باللّغة الفارسية منذ البدء في
تنظيم الجيش الإسلاميّ، وظلّ الأمر على ذلك على عهد الدولة الأمويّة؛ففي عهد عبد
الملك بن مروان وقع تعريب الدّواوين بسعيٍ من الحجاج بن يوسف الثقفي،ذلك بأن
الحجاج عمد إلى تعريب الدواوين من الفارسية إلى العربية.
ثم
ازدهرت الترجمة على عهد المأمون، كما هو معروف، أيما ازدهار،بفضل تشجيعه العلم
والعلماء، والمترجمين، والحكماء؛حتّى إنه كان يكافئ المترجم حنين بن إسحاق، وهو
أحد أكبر المترجمين في التاريخ على الإطلاق،بأن يُمنح وزنُ الكتاب الذي يترجمه
ذهباً. وهي طريقة في التشجيع لم يُعرف لها مثيلٌ في التاريخ، وكان بيت الحكمة
ببغداد يجمع فريقاً ضخماً من كبار المترجمين من مسلمين ونصارى ونسطوريين ويعقوبيين
ويهود.فأمست بغداد،بفضل ذلك، وعلى عهد المأمون خصوصاً أعظم مركز للإشعاع العلميّ
والثقافيّ في العالم على الإطلاق»(2).
ولا
يمكن التغاضي عن الدور الكبير الذي تنهض به الترجمة في سبيل ترسيخ قيم التفاهم،
والتقارب بين شتى الأمم والحضارات والثقافات،وتتضح«أهمية الترجمة أو التعريب عند
دارسي الفكر العربي والحضارة الإسلامية،لما لهذا الموضوع من دور عظيم في نقل علوم
الأمم وآثارها النافعة إلى لغة العرب.
والراسخ في أذهان جمهرة الدارسين لهذا الموضوع
أن العصر العباسي هو عصر النقل والتعريب عند العرب، ولا نكران لذلك،بل هو من أكثر
العصور ترجمةً وتعريباً،ولكن شمس شهرة هذا العصر كسفت ما تقدَّمه وما تلاه من عصور
لم تتعطل فيها حركة النقل والتعريب،التي أصبحت مكوناً أساسياً من مكونات الثقافة
العربية، ووسيلة من وسائل صمود هذه الأمة في وجه الغزوات العسكرية والثقافية، ولقد
ظلت قضية الترجمة أو التعريب من أكثر الموضوعات أهمية وإثارة في تاريخ الفكر
العربي،بل في تاريخ الفكر الإنساني منذ أن عرف الإنسان الكتابة، وحتى عصرنا
الماثل.
ولا ريب في أن المُطَّلع على تاريخ الترجمة في
الحضارات قديمها وحديثها يجد لها نصيباً وافراً من اهتمام البشر وعنايتهم. وما
تواصلت الحضارات، ونهل ناهضها ولاحقها ممن سبقها في العلم والمعرفة إلا والترجمة
طريقة السالك إلى الأخذ والانتفاع، والبناء، والتطوير.
ولمَّا كانت
الأمة العربية من أعرق الأمم حضارة،بل أعرقها على الإطلاق،فإنها قد عرفت الترجمة
عبر تاريخها الطويل الممتد آلافاً من السنين ذات العطاء الحضاري المتصل، والممتد مكانياً
من الرافدين شرقاً إلى النيل غرباً، ومن جبال طوروس شمالاً إلى الجزيرة العربية
جنوباً.
لقد شهدت الأرض العربية حضارات أجدادنا
البابليين والآشوريين والأوغارتيين والكنعانيين والفينيقيين والآراميين وغيرهم ممن
قدموا للبشرية الأبجدية، وهي أهم اختراع إنساني عرفه التاريخ، وهم الذين علَّموا
البشر بناء المدن والسدود، وأنظمة الري والتقويم،والصنائع والشرائع، والأخلاق
والملاحم والآداب.
وقد كانت
الترجمة أولى وسائط الاتصال والنقل المعرفي بين الأمة العربية وغيرها من الأمم،
وعنهم تعلم الإغريق والرومان، ونقلوا وترجموا، ولولا علم الشرق الذي عرفه اليونان
عن طريق الترجمة لما سمعنا بأفلاطون وأرسطو وجالينوس وأرخميدس وغيرهم »(3).
لقد أسس العباسيون« بيت الحكمة أو دار الحكمة،
وهي أول مؤسسة في الإسلام تُعنى بشؤون الترجمة والمترجمين، وأغدق الخليفة هارون
الرشيد العطايا على المترجمين، ونالوا لديه كل حظوة وتقدير،ثم آلت الأمور إلى ابنه
الخليفة العالم المأمون الذي أعطى حركة الترجمة دفعاً قوياً، ومضى قُدُماً في
تقريب التراجمة وإعظام شأنهم،حتى نقلوا روائع المصنفات العلمية في الطب والفلك
والفلاحة والرياضيات والفلسفة والمنطق وغيرها من اللغة اليونانية والهندية
والكلدانية والفارسية والسريانية إلى لغة العرب.
ولم يكتف المأمون بتحويل كتب العلوم النافعة إلى
العربية،بل أمر بوضعها موضع التطبيق العملي،فبنيت المراصد والمدارس التي أمر فيها
بتعلم الكتب المترجمة، وتعليمها للنابهين من أبناء الأمة،ونبغ في عصره وما تلاه
كبار التراجمة،وبفضل ذلك أصبحت بغداد زمن العباسيين أعظم مركز للترجمة والنقل في
العالم»(4).
وانطلاقاً من هذه الصفحات المشرقة من تاريخ
الترجمة عند العرب،فإن ما نسعى إليه من خلال هذه الورقة هو أن نتناول كتاب الدكتور
سمير الدروبي؛الأستاذ بقسم اللغة العربية
وآدابها بجامعة مؤتة الأردنية، الموسوم ب:«الترجمة والتعريب بين العصرين العباسي والمملوكي»، بالتحليل
والنقاش ،من خلال الوقوف مع أهم الأفكار والرؤى التي أدلى بها في هذا الكتاب، الذي
نحسبه واحداً من أهم الكتب التي عالجت هذا الموضوع،نظراً لجملة من المواصفات التي
ألفيناها فيه، ولم نُلفها في سواه من الأسفار،ومن أهمها عمق الرؤية، وجدة الطرح
لموضوعات تعد غاية في الأهمية لم تنل من العناية ما هي جديرة به.
الترجمة والتعريب في العصر العباسي
إن
حركة الترجمة عند العرب تعتبر من أكبر عمليات الترجمة وأضخمها في تاريخ
الإنسانية،هذا ما نستشفه من خلال متابعتنا لتلك الأصداء الطيبة، والتقدير الواسع
الذي لقيته لدى الكثير من الباحثين في تاريخ الفكر الإنساني،إذ وجدت حركة الترجمة
العربية تقديراً واسعاً يفوق كل تقدير لغيرها من الحركات المماثلة كما يشير إلى
ذلك الدكتور سمير الدروبي، ولعل هذا يعود بالدرجة الأولى إلى اتساع نطاقها،
وشموليتها،حيث إنها شملت تراث مختلف الأمم والحضارات،كالفارسية، والهندية،
واليونانية، والسوريانية، وغيرها،وكما عبر أحد الباحثين الأوروبيين عن هذا الأمر
قائلاً:إن هذه الحركة الرائعة عند العرب تعود إلى جهد خارق في الترجمة،تمكن العرب
من خلاله من ترجمة مؤلفات شتى الأمم والحضارات إلى اللغة العربية.
وبادئ ذي بدء تجدر الإشارة إلى تلك الحرية الفكرية الكبيرة التي تمتع بها
المترجمون،حيث إننا نلفي المنهج الذي قامت عليه الترجمة عند العرب هو منهج قائم
على الحرية الفكرية للمترجم، وللنص في نفس الآن«فالمترجمون-على اختلاف مللهم
وأديانهم ومذاهبهم من اليهود، والنصارى:الملكانية واليعقوبية والنسطورية
والمارونية، وكذلك الصائبة، والزرادشت-تنسموا جواً نقياً من المحبة والتقدير
والاحترام، وعدم الإكراه على اعتناق دين الدولة الإسلامية،فقد ترك المسلمون
للتراجمة حرية الاعتقاد،يختارون ما يشاؤون من الأديان والمذاهب،فمنهم من أسلم
كأبجر الذي كان إسلامه على يد عمر بن عبد العزيز، وكذلك أسلم عبد الله بن المقفع،
وابن جزلة الطبيب الفيلسوف الأديب البغدادي، والسموءل بن يهوذا المغربي من أعلام
القرن السادس الهجري،الذي أسلم وصنف كتاباً في«إظهار معايب اليهود وكذب دعاويهم في
التوراة»،وغيرهم الكثير ممن دخل في الإسلام طواعية واختياراً، ومنهم من بقي
معتقداً لما يشاء دون إكراه.
أما
فيما يتعلق بالحرية الفكرية في اختيار النصوص المترجمة،فإن مناهج المسلمين تقوم
على جعل الأبواب مشرعة أمام التراجمة في نقل ما يشاؤون،وعرفت منهجيتهم تسامحاً
منقطع النظير في ذلك،فقد ترجموا عن السريانية نواميس هرمس،والسّور والصلوات التي
يصلي بها الصابؤون.
وترجموا عن الهندية الكتاب المسمى«بالسند هند»في
علم النجوم، و«بيافر»في الموسيقى، و«كليلة ودمنة» في إصلاح النفوس وتهذيب الأخلاق.
ونقلوا عن الفارسية:«عهد أردشير» نقله
البلاذري، ونقل عبد الله بن المقفع:«خدا ينامه» في السير، و«آئين نامه»في الآيين(العرف،السلوك)،و«كليلة
ودمنة»، و«مزدك»، و«التاج في سيرة أنوشروان»، وترجم جبلة بن سالم«رستم واسفنديار»،
وترجم«التاج»و«دارا والصنم»،و «أدب الحروب وفتح الحصون والمدائن وتربيص الكمين
وتوجيه الجواسيس والطلائع والسرايا ووضع المسالك».
وترجموا من العبرية«التوراة»؛ترجمها أبو كثير
يحيى بن زكريا الطبراني، وترجمها سعيد بن يعقوب الفيومي، وترجم ابن وحشية كتاب«الفلاحة
النبطية» من النبطية أو لسان الكسدانيين(الكلدانيين) كما يقول في مقدمته.
أما ما
تُرجم من اليونانية أو الإغريقية،فإنه يفوق كل ما ترجم من اللغات الأخرى،فقد ترجمت
كتب جالينوس وشروحها في الطب، وكتب أرسطو طاليس في الفلسفة والمنطق، وترجم سالم
مولى هشام بن عبد الملك رسائل أرسطو طاليس، ونقل أبو عمر يوحنا بن يوسف كتاب
أفلاطون في«آداب الصبيان»، ونُقل كتاب إفليمون في«الفراسة»، وتُرجم كتاب إبرخس، أو
إيبرخس في«أسرار النجوم في معرفة الدول والملل والملاحم»(5) .
ولا تخفى على الدارس الصعوبات الجمة التي كان
يلقاها القدماء في سبيل ترجمة كتاب من الكتب، وهذا ما جعل النهوض بهذه المهمة
أمراً شاقاً يعد غاية في الصعوبة، ومن العسر بما كان«وأسباب صعوبة الترجمة عند
القدماء كثيرة:فالنصوص كانت مخطوطة، وقراءة المخطوط أصعب كثيراً من قراءة النص
المطبوع،بل هي فن قائم بذاته لا يتوصل إليه العلماء إلا بعد طول دُربة وجهد شاق،
والمعاجم المشتركة قليلة الوجود،أو شبه معدومة في ذلك الزمن، ومعرفة لغتين لا تكفي
لصناعة الترجمان الكَفِيِّ،بل لابد للترجمان من أن يجمع بين المعرفة باللغة والعلم
الذي يترجم فيه نصاً.
وعلاوة على ذلك،فإن الفواصل بين الأمم والشعوب كانت
كبيرة، وكتب العلم والفلسفة كانت محارَبة في الدولة البيزنطية بعد أن تنصرت
الروم،فأتلفوا كثيراً منها، وما نجا منها إلا ما أُخفي في الهياكل القديمة.
وفوق ذلك،فإن الحصول على النسخ الخطية من كتب
الحكمة كان عسيراً، وما كان ذلك ليتم لولا الرعاية الخاصة لأعظم حماة الترجمة في
دولة الإسلام،ألا وهو المأمون الذي كتب إلى ملك الروم يسأله الإذن في إنفاذ ما
يختار من العلوم القديمة المخزونة المدَّخرة ببلد الروم،فأجاب إلى ذلك بعد
امتناع،أضف إلى ذلك أن العلماء بالكتب القديمة كانوا مطاردين في بيزنطة بعد
اتهامهم بالكفر.
إلى غير ذلك من الصعوبات الجمة، والعوائق
الكثيرة التي تحدَّت حركة الترجمة، ووقفت في طريقها الوعر المسالك الذي صور لنا
ابن وحشية جانباً منه خلال بحثه عن كتب الكلدانيين ليقوم بنقلها للعربية،يقول:«...اجتهدتُ
في طلب كتبهم،فوجدتها عند قومٍ هم بقايا الكسدانيين، وعلى دينهم وسنتهم ولغتهم،
ووجدتُ ما وجدت عندهم من الكتب، وهم في نهاية الكتمان والإخفاء والجحود لها،
والجزع من إظهارها...فاستعملت المداراة والبذل ولطف الحيلة،إلى أن وصلتُ إلى ما
أمكن من كتبهم»(6) .
وقد
كانت ترجمة الأعمال تمر بمرحلتين أساسيتين:مرحلة ما قبل الشروع في الترجمة، ومرحلة
القيام بالنقل، وتقتضي كل مرحلة من المرحلتين المذكورتين النهوض بجملة من
الخطوات،فمرحلة ما قبل الترجمة تقوم على البحث عن النسخ الخطية، والحصول عليها،
وقد كانت دولة بني العباس تتدخل في هذا الأمر رغبة منها في تشجيع المترجمين، وتقليص أتعابهم،إذ كانت
توفد عادة بعثات علمية في سبيل البحث عن النسخ الخطية، وكذلك الشأن عند بني شاكر
فكثيراً ما كانوا يعنون بالبحث عن النسخ الخطية ببلاد الروم، وقد كان حنين بن
إسحاق العبادي أكثر التراجمة عناية بالبحث عن النسخ الخطية سواءً أكانت
بالسريانية، أم باليونانية.
والخطوة
الثانية في مرحلة ما قبل الترجمة هي المقابلة بين نسخ المخطوطات للكتب المترجمة،
والوقوف على النسخة الجيدة والتامة، وهذا الأمر قد يكون دافعاً على إعادة ترجمة
الكتاب أو مقابلته،ثم وصف نسخ المخطوطات للكتب المترجمة،فتوصف النسخ إن كانت كثيرة
الأخطاء،أو جيدة،أو رديئة، ويتم نقد الترجمات السابقة،من خلال تقديم جملة من
الملاحظات عن الترجمات السابقة، وإبراز عيوبها، وهذا ما لا يتأتى إلا لأساطين
التراجمة، ومثال ذلك المترجم الكبير حنين بن إسحاق، وقد تركز نقد التراجمة
للترجمات السابقة من خلال وقوفهم على اللغة، والمعاني،وإشارتهم إلى رداءة الأصل
المترجم عنه، وضعف الترجمة، وقلة الخبرة في العمل. و من أهم الخطوات التي حرص
المترجمون عليها في هذه المرحلة تحقيق صحة نسبة الكتاب المترجم لصاحبه، وذلك من
خلال وقوفهم على ضابطين منهجيين يتعلقان بالكتب المراد ترجمتها:
أولهما
: توثيق المصدر في التعرف« إلى صحة نسبة كتاب ما إلى صاحبه،وهو ما يذكره المؤلف
نفسه في كتبه، أو في فهرسته لكتبه إن وجدت،كقول حنين بن إسحاق:«وأن التماس تعرّف أمر كتب جالينوس من
جالينوس أولى من التماس تعرفه مني».
وثانيهما:أنهم يريدون من المؤلف نفسه معلومات
توثيقية كاشفة عن أي كتاب يترجم من حيث عنوانه، وتاريخ تأليفه، وعدد مقالاته أو
أجزائه، والباعث على تأليفه، كما يريدون نبذة موجزة عن محتواه؛لتكون هادياً لمن
يقف عليه تمهيداً لترجمته.
ولما كان تحقيق هذين الضابطين المنهجيين
متعذراً في كثير من النصوص المترجمة،فإن رغبة المترجمين في تحقيق صحة النص جعلتهم
يدققون في صورته الأصلية، وعلى أية حال تركهُ مؤلفه،ثم أشاروا إلى ما طرأ عليه من
تغيير حاصل في الجمع أو الترتيب أو تغيير في العنوان»(7).
أما المرحلة الثانية التي يقوم عليها نقل النص
المترجم،وذلك بعد التحصل على نسخه الخطية،والتحقق من مؤلف الكتاب المراد
ترجمته،فتكون من خلال طريقين:طريق النقل الحرفي، وطريق النقل المعنوي.
وقد
أبرز الدكتور سمير الدروبي أهم الخطوط والسمات التي تميز بها طريق النقل الحرفي في
العصر العباسي من خلال مجموعة من النقاط الرئيسة،نوردها فيما يلي:
«-إن عبارة الترجمة الحرفية جاءت مفككة غير
مترابطة،مما يؤدي إلى انقطاع المعنى، وعجز القارئ عن الربط بين أجزاء السياق،الأمر
الذي جعل نسيج الكلام مهلهلاً متداعياً.
-بدا قصور التراجمة واضحاً في تعريب كثير من
المصطلحات اليونانية أو السريانية، وما زادوا على أن كتبوا كثيراً من هذه
المصطلحات بأحرف عربية.
-خضع التراجمة لحرفية مفرطة،مراعاة للمفردات
وترتيبها،وللصيغ النحوية والتركيبية في اللغات التي نقلوا منها.
-عجز التراجمة من أصحاب هذه الطريقة عن تمثُّل
الأسلوب العربي المبين،الذي يلتزم فيه بناء الجمل بناءً صحيحاً،كما عجزوا عن وضع
الألفاظ في مواطن استخدامها الصحيح في السياق.
-ضعف بعض التراجمة في إحدى اللغتين المنقول منها
أو المنقول إليها أو الاثنتين معاً.
-لم يكن بعض التراجمة من أهل الاختصاص والعلم في
موضوع النص المترجم؛ولذلك فإنهم عجزوا عن فهم معاني كثير من النصوص ومقاصد
مؤلفيها،فأفسدوا ما نقلوه.
-تقاعس بعض التراجمة عن بذل الجهد المناسب لفهم
النصوص المترجمة،وتعجَّلوا في نقلها،فوقفوا عند ظواهر ألفاظها، واكتفوا بترجمتها
حرفاً بحرف وكلمة بكلمة ما أمكنهم ذلك،براءة من مؤاخذتهم في عدم درك معانيها، وما
يمكن أن يؤخذ عليهم من قصور في الفهم.
-تفتقر مثل هذه الترجمات الحرفية إلى الوضوح،فهي
ترجمة شكلية أكثر منها مضمونية، وعلى الرغم من نقلها لشكل النص، والتزامها المسرف
بحرفيته، إلا أنها لم تراع روح النص وصورته الأصلية التي أرادها كاتبه»(8)،كما أن
الدقة والأمانة تكاد تنعدم في أداء النص المترجم في الترجمة الحرفية،نظراً لوقوف
أصحاب هذه الترجمات عند المدلول القاموسي للألفاظ، وعدم مراعاة ما تمتلكه اللغات
من طاقات تعبيرية، وما تتميز به من أساليب متنوعة في أداء المجاز والإسناد.
«أما الموقف المنهجي للعرب من هذه الترجمات
الحرفية،فإنهم قد ميزوا هذا النوع من النقل عن غيره، ووسموه بأنه نقل رديء ؛ولذلك
فإنهم قد نبهوا على كثير من الترجمات الرديئة،وعبّر الجاحظ عن عجز طبقة الحرفيين
من التراجمة عن نقل الكتب المترجمة نقلاً صحيحاً بقوله:«فمتى كان ابن البطريق،وابن
ناعمة، وابن قرة، وابن فهريز، وثيفيل، وابن وهيلي، وابن المقفع،مثل أرسطاطاليس؟!ومتى
كان خالدٌ مثل أفلاطون؟!»
ولم يقتصر
الموقف المنهجي على التنبيه على هذا النوع من الترجمات ورفضه،بل تعدوا هذا الموقف
السلبي، وخطوا خطوتين منهجيتين إيجابيتين:
الأولى:إصلاح النص المنقول والقيام بشرحه ؛
تقريباً لمعانيه،وجعلها سائغة مفهومة عند طلابه والراغبين في الاطلاع عليه،فكتاب
بطليموس المسمى ب«الأربعة»نقله إبراهيم بن الصلت، وأصلحه حنين بن إسحاق،وفسره عمر
بن فرخان وإبراهيم بن الصلت والنريزي
والبتاني.
وذكر
لنا ابن النديم خبراً مهماً عن أحد تراجمة القرن الرابع الهجري، وهو مرلاحي،الذي
كان جيد المعرفة بالسريانية،عفطي الألفاظ بالعربية،ينقل بين يدي عليّ بن إبراهيم
الدهكي،من السرياني إلى العربي، ويصلح نقله ابن الدهكي.
والثانية:إعادة ترجمة النصوص الرديئة
النقل،فعندما نُقل للكندي كتاب بطليموس الموسوم ب:«كتاب جغرافيا في المعمور وصفة
الأرض»،وكان النقل رديئاً،أعاد نقله ثابت بن قرة، وهناك شواهد كثيرة على إعادة نقل
الكتب طلباً لترجمة صحيحة تفي بالغرض منها، وقد يقوم الترجمان نفسه بإعادة ترجمته
للنص الواحد رغبة في الوصول إلى النص الأكمل،فقد قام الحجاج بين يوسف بن مطر
الكوفي بنقل كتاب إقليدس في الهندسة نقلين،أحدهما يعرف بالهاروني وهو الأول،
والنقل الثاني هو المسمى بالمأموني وعليه يُعَوَّل»(9).
وقد وضح
صلاح الدين الصفدي الطريق الثاني؛طريق النقل المعنوي بأن المترجم يأتي إلى
الجملة،ويُحصلُ معناها في ذهنه،ثم يعبر عنها بجملة تطابقها تكون مساوية لها في
المعنى، وإن كانت تخالفها في بعض الألفاظ،وكما يرى فإن هذه الطريقة هي
الأجود،وأشار إلى أن هذا الطريق في التعريب هو طريق كل من حنين بن إسحاق،
والجوهري، وغيرهما.
وفي
ختام الحديث عن حركة الترجمة والتعريب في العصر العباسي،فما يجدر بنا التأكيد عليه
هو أن بغداد أضحت في زمن العباسيين«أعظم مركز للترجمة والنقل في العالم،ونفذ
العلماء التراجمة إلى وضع أسس المنهج الفيلولوجي الدقيق،وتطبيقه بنجاح في ترجماتهم
التي لقيت رعاية وتشجيعاً من الخلفاء والأمراء والقادة والعلماء والأدباء،بحيث غدت
ثقافة راسخة في ذلك المجتمع،الذي ضمَّ خليطاً من جميع الطوائف والأجناس والأمم،
حيث تنسموا فيه جواً رائعاً من الحرية والتسامح الإسلامي المعروف.
وعلى
الرغم من الدقة المنهجية التي تميزت بها ترجمات العصر العباسي،فإن هذه الحركة
أصبحت هدفاً تُصوّب إليه سهام حقد وتحامل غير علمي،يشنه بعض المستشرقين؛أمثال:
رينان،وبارتولد، وجوارفسكي، ودي بور وغيرهم من المستشرقين العنصريين
الاستعماريين،الذين تباكوا على عدم ترجمة العرب للشعر والأدب والتاريخ
اليوناني،فوصموا العقل العربي بالعجز والقصور.
ولا
يخفى ما في دعاوى هؤلاء المستشرقين من هوى، وعصبية. وكما قيل:فإن الحسناء لن تعدم
ذاماً، وانصراف العرب عن ترجمة تاريخ اليونان وشعرهم وفنهم المسرحي لا يعد منقصة
تشينهم، ولا مثلبة يعابون بها،بل هو الفضل والفضيلة عينها؛لأنهم أذكى من الوقوع،
وأزكى من الولوغ في ترجمة وثنيَّات اليونان وأساطيرهم وخرافاتهم التي جاء الإسلام
منقذاً للبشر من إسفافها وقصورها.
وفوق ذلك،فإن طائفة من منصفي المستشرقين
العلماء، ومؤرخي تاريخ العلم،رأوا في حركة الترجمة للعربية من اليونانية وغيرها من اللغات القديمة
عملاً حضارياً سامياً في تاريخ العلم،فتوبي.أ.هاف يصفها في كتابه:«فجر العلم
الحديث» بأنها جهد خارق للترجمة،وديمتري غوتاس يرى في كتابه«الفكر اليوناني
والثقافة العربية»أن حركة الترجمة التي بدأت مع تولي العباسيين السلطة، وكانت
بغداد مسرحها الرئيسي،تمثل إنجازاً مذهلاً،بل يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك في كتابه
الآنف الذكر، ويعدُّها مرحلة حاسمة في مجرى تاريخ البشرية،إذ ذهب إلى القول إنها
تعادل في أهميتها أثينا بركليس،أو النهضة الإيطالية، أو الثورة العلمية في القرنين
السادس عشر والسابع عشر، وهي حرية بأن يُعترف بها، وأن تحتل مكانتها في ضميرها
التاريخي»(10).
حركة الترجمة والتعريب في ديوان الإنشاء
المملوكي
لقد ارتبطت حركة الترجمة والتعريب في دولة
المماليك بجملة من الظروف التي نشأت فيها هذه الدولة،إذ سيطرت على رقعة واسعة من الأرض شملت:مصر، والشام، وشمال
العراق، والأجزاء الجنوبية من بلاد الأناضول(تركيا في الوقت الحاضر)، والجزيرة
العربية، وبرقة، وبلاد النوبة.
فلا ريب أن دولة بمثل هذا الاتساع هي بحاجة
ماسة إلى الترجمة والتعريب«بل إن الترجمة تعد من مستلزمات بقائها، وتنظيم علاقاتها
مع جيرانها والقوى العالمية آنذاك، وخاصة إذا علمنا أن هذه الدولة الفتية قامت في
مصر في ظروف دقيقة جداً،تجلَّت في الزحف المغولي المخرِّب الذي اجتاح مشرق العالم
الإسلامي، وتهاوت أمامه الدول الإسلامية تباعاً من جانب، وفي الوجود الصليبي في
الساحل الشامي من جانب آخر.
وقد
استطاعت هذه الدولة الناشئة أن تُوقع أول هزيمة ساحقة بجيش المغول الجرّار في سنة(658هـ/1259م)
في وقعة عين جالوت بوادي كنعان من أرض الأردن، وتكون بذلك قد أنقذت مصر والشام،
والأماكن المقدسة في فلسطين والجزيرة العربية، وبقية العالم الإسلامي من سقوط وشيك
في براثن المغول التي لم ترحم إنسانية، ولم تبق حضارة.
وقد
استطاعت دولة المماليك أن تسحق الوجود الصليبي في الشام على أيدي قادة عظام؛كالظاهر
بيبرس، والمنصور قلاوون، والأشرف خليل بن قلاوون، وهي بذلك قد خلّصت العالم
الإسلامي من التحالف المغولي الصليبي الذي كان داءً وبيلاً يمكن أن يأتي على
الإسلام وأهله،لو تحققت له فرص النجاح.
وبناءً
على خطورة المهمة التي اضطلعت بها هذه الدولة، وضخامة الإنجازات العسكرية
والاقتصادية والعلمية التي حققتها،فإن حركة الترجمة والتعريب كانت من مستلزمات
وجود هذا الكيان، ومن أوثق الأسس لبقائه وتمكينه.والدّارس لذلك العصر، والمتتبّع
لمصادره الأدبية والتاريخية،بحثاً عن حركة الترجمة، وما يتعلق بها من بواعث
وأسباب،يستطيع أن يُرجع بواعثها إلى عوامل:السياسة والاقتصاد والحرب، والعلم
والدين والمجتمع،مما يجعل هذه الأسباب غير مختلفة عن نظيراتها في العصر الحاضر.
ولعل أظهرّ أسباب التعريب والترجمة هم المماليك
أنفسهم،الذين جُلبوا إلى مصر على أيدي الأيوبيين ، ولاسيما الصالح أيوب بن السلطان
الكامل الذي أكثر من شرائهم، وأطلق عليهم اسم البحرية، وعيّنهم أمراء في دولته،
وصاروا بطانة له يسكنون في قلعة الروضة بمصر»(11).
وقد نشطت حركة الترجمة والتعريب نشاطاً
كبيراً نتيجة للكثير من الظروف التي تلاحمت مع بعضها، وشكلت دافعاً قوياً لازدياد
حركة الترجمة، ومن أبرزها العلاقات الكثيرة للدولة المملوكية، والنشاطات المتنوعة
الدبلوماسية، والعسكرية، والعلمية، والدينية، والاقتصادية.
وأهم اللغات التي تمت الترجمة منها وإليها في
ديوان الإنشاء المملوكي: المغولية، والفارسية، والتركية، والعبرية،واليونانية،فاللغة
المغولية لقيت اهتماماً كبيراً من قبل المماليك لكون المغول هم العدو الأول،
والأكبر، والأخطر للدولة المملوكية،فهم في حاجة للاطلاع على أحوالهم، ومكاتبتهم،
وفهم بواطن سياستهم، وهذا ما جعل المماليك يتعمقون في سبيل فهم لغة المغوليين.
وأما اللغة الفارسية أو الفهلوية فهي تعد أعرق
اللغات علاقة باللغة العربية،نظراً لصلات الجوار بين العرب والفرس، وأهم المترجمات
التي تمت من الفارسية إلى العربية في عهد المماليك:الرسائل المتبادلة بين المغول و
المماليك، إذ أن بعضاً من الرسائل التي كانت ترد من المغول إلى سلاطين المماليك
بالفارسية،فكانت تُترجم إلى العربية، كما تُرجمت الشاهنامة المعروفة بملحمة الفرس
الخالدة التي نظمها الفردوسي،بالإضافة إلى ترجمة كتاب:«مرزبان نامه»و«الإلياسة».
وقد اهتم المترجمون في ديوان الإنشاء المملوكي
باللغة التركية بسبب السفارات التي كانت تتم بين المماليك والدول والإمارات التي
تستعمل اللغة التركية،فترجم عدد وافر من الرسائل المكتوبة بالتركية، والتي كانت
ترد إلى ديوان الإنشاء المملوكي.
ونظراً لتواجد الرعايا اليهود في الدولة
المملوكية التي عُرفت بتسامحها معهم،فقد كانت بحاجة لمعرفة تواريخهم، وعقائدهم،
وبالتالي فقد تركز الاهتمام على اللغة العبرية،فقد أمر ابن فضل الله العمري؛ رئيس
ديوان الإنشاء المملوكي بترجمة سفري القضاة والملوك من قبل أحد العلماء المتعمقين
في هذه اللغة.
وكان
اهتمام دولة المماليك باللغة اليونانية نظراً للعلاقات الديبلوماسية الوثيقة التي
نشأت بينهم وبين البيزنطيين، ومن أهم ما عُرِّب عن اللغة اليونانية إلى العربية
:المعاهدات، ورسائل الصداقة بين الطرفين. وقد اصطلح مؤرخو«ديوان الإنشاء المملوكي
على وصف المكاتبات الواردة من فرنج الساحل الشامي والجويين والبنادقة، والقشتاليين
والبيازنة والفرنسيين، وغيرهم من الأوروبيين بأنها مكتوبة باللسان الفرنجي وقلمه،
وغالباً ما تكون مثل هذه الكتب مختومة،فإذا ورد كتاب منها إلى السلطان المملوكي
فُك ختمُهُ، وترجم بترجمة الترجمان بالأبواب السلطانية،وكتب تعريبه في ورقة مفردة،
وألصقت به.
والمعروف أن اللغة التي سادت بين الصليبيين في
الساحل الشامي بوجه عام هي الفرنسية، ولكن مع ذلك استخدمت كل أقلية صليبية لغتها
الخاصة بها، وأن اللغة السائدة في الجمهوريات الإيطالية هي الإيطالية، وفي إسبانيا
القشتالية، وفي فرنسا الفرنسية،فهل يعني ذلك أن الكتب كانت ترد إلى ديوان الإنشاء
المملوكي بكل هذه اللغات،مع أن مصادر ديوان الإنشاء المملوكي تحدثت عن لسان إفرنجي
واحد؟
ويبدو
أن مصطلح اللسان الفرنجي،مصطلح عام يطلق على اللاتينية، وما تفرع عنها من اللغات
الأوروبية:الفرنسية، والإيطالية، والإسبانية»(12).
وأهم ما تم ترجمته عن اللسان الفرنجي:التقارير
الاستخبارية، والهدن، والأيمان،والرسائل، والمعاهدات التجارية، وعلى الرغم من
العلاقات« الثقافية والدينية والاقتصادية الوطيدة بين المماليك والتكرور،إلا أن
المصادر لم تذكر معلومات موضحة عن لغة التكرور عامة،أو عن لغة مراسلاتهم مع المماليك
بشكل خاص،إلا أن هناك إشارات إلى وجود ترجمان للغة التكرور في الدولة المملوكية.
و ما
يلحظه الدارس على حركة الترجمة والتعريب في العصر المملوكي هو ذلك التنوع في أصناف
التراجمة،فقد تنوعت أصناف التراجمة الذين قدموا خدمات جليلة لحركة الترجمة في
ديوان الإنشاء المملوكي،وذلك مدة ثلاثمائة عام تقريباً من مختلف الطوائف
والأجناس،من بينهم: كُتاب ديوان الإنشاء، والمهمندارية،وأمراء المماليك، والعلماء
والأدباء،وغيرهم.
فكُتّاب ديوان الإنشاء كانت لديهم الكثير من
المهام المتصلة بشؤون الدولة،حيث إنهم كانوا مسؤولين عن التعرف إلى أخبار الدول
والممالك المختلفة، وعرضها على السلطان، ونظراً لتعدد مهمات الديوان وواجباته،فإن«صاحبه
يحتاج إلى عدد كبير من الكُتّاب المضطلعين بالعربية وغيرها من اللغات السائدة في
ذلك الوقت، ولذا فإننا نجد في مصادر ذلك العصر ما يشير بوضوح إلى أولئك الكُتّاب
التراجمة الذين يحسنون العربية وغيرها من اللغات، ولو وقفنا على العصر الأيوبي
الذي كان العصر المملوكي امتداداً له،لوجدنا كاتباً كبيراً يلي القاضي الفاضل
أهمية في دولة صلاح الدين، وهو العماد الأصفهاني(ت597هـ/1200م)الذي ذكر لنا في
ترجمته أنه كان ينشئ الكتب بالعجمية. وقبيل أفول نجم الإمارات الأيوبية، وبداية
الزحف المغولي إلى بلاد الشام،نجد أن أمراء الأيوبيين بدمشق ومصر قد استخدموا في
ديوان الإنشاء واحداً من الكتّاب الأعاجم، وهو المؤيد بن الموفق بن محمد الدّفتر
خوان الحنفي الذي قدم إلى دمشق في أيام الناصر صلاح الدين داوود (ت626هـ/1228م)،ثم
باشر العمل في ديوان الإنشاء بمصر أيام نجم الدين أيوب الذي حكم بين
سنتي637-647هـ/1239-1249م ، وكان المؤيد يكتب خطاً حسناً، وينظم وينثر بالعجمي
والعربي،وكان قدومه في أيام الناصر صاحب الشام،فاستخدم في ديوان الإنشاء لأجل كتب
التتار،فإنها كانت في تلك الأيام ترد بعضها عجمي،فاستخدم لتعريبها وكتابة الأجوبة
عنها.
أما في العصر المملوكي الذي كان أكثر إيغالاً
في العُجمة؛لغلبة العناصر المملوكية من تركية وجركسية، ورومية ومغولية وفرنجية على
الحكم،فإن الحاجة إلى المترجمين كانت أكثر إلحاحاً، وقد وضّح لنا القلقشندي-مؤرخ
ديوان الإنشاء وكاتب أضخم وأجمع دستور له-ذلك قائلاً:فإن الشخص يميل إلى من يخاطبه
بلسانه،لاسيما إذا كان من غير جنسه،كما تميل نفوس ملوك الديار المصرية وأمرائها
وجندها لمن يتكلم بالتركية:من العلماء والكُتّاب، ومن في معناهم على ما هو معلوم
مشاهد»(13).
أما
المهمندارية؛ وهم من يقومون بأمور قُصاد الملوك ورسلهم،فقد أسهموا في حركة الترجمة
الشفوية إسهاماً كبيراً،إذ كانوا يستقبلون الرسل، ويقومون بأمر ضيافتهم، ويتحدثون
معهم بألسنتهم ولغاتهم.
وأسهم
أمراء المماليك في حركة الترجمة بنسبة لا تقل عن سلفهم،إذ كانوا ينتمون إلى جنسيات
متعددة،ذات لغات متنوعة،فنقلوها معهم إلى موطنهم الجديد الذي تم تعريبهم فيه، وكان
بعضهم متمكناً من مجموعة من اللغات في نفس الوقت،مثل الأمير مكلي بغا الصلاحي،الذي
كان يتكلم بالعجمية، والتركية الخالصة، وبلبان الرومي الذي كان يُراسل الكثير من
السلاطين بلغات متعددة.
وكان لكثيرٍ من العلماء والأدباء أثرٌ مهمٌ في
حركة الترجمة إبان العصر المملوكي،إذ كانت الترجمة« من اللغات الأعجمية إلى
العربية،أو من العربية إلى اللغات الأعجمية،مما اضطلع به نفر من علماء ذلك العصر،سواء
أكانوا من الفقهاء أم المتصوفة،أم المؤرخين،أم الحكماء والفلاسفة،مقدمين خبراتهم
العلمية والمعرفية،سائغة لديوان الإنشاء المركزي في القاهرة،أو للدواوين الفرعية
التي نسجت على غراره في النيابات الأخرى،كدمشق وحلب وطرابلس وصفد وغزة والكرك.
ومن
الفقهاء المترجمين:فخر الدين محمد بن مصطفى بن زكريا بن خوجا،المولود بدورك ببلاد
الروم سنة(631هـ/1233م)، والمتوفى سنة(713هـ/1313م).
ويروي
صلاح الدين الصفدي عن شيخه أبي حيان الأندلسي(ت725هـ/1324م)سيرة هذا
الترجمان،قائلاً:كان شيخاً فاضلاً،عنده أدب وله نظم ونثر،وقد نظم القدوري في
الفقه،نظماً فصيحاً سهلاً جامعاً، ونظم قصيدة في النحو تضمنت أكثر الحاجبية، وفخر
الدين هذا كتبنا عنه لسان الترك، ولسان الفرس، وكان عالماً باللسانين يعرفهما
إفراداً وتركيباً،أعانه على ذلك مشاركته في علم العربية، وله قصائد كثيرة منها
قصيدة في قواعد لسان الترك، ونظم كثير في غير فن، ودرّس بالحسامية الفقه على مذهب
أبي حنيفة، وكان قديماً قد تولى الحسبة بغزة، وكان بارع الخط،،، وقد أدّب بقلعة
الجبل بعض أولاد الملوك»(14).
وختاماً،فإن حركة الترجمة والتعريب في ديوان
الإنشاء المملوكي،كان لها أثر إيجابي كبير؛حيث ساهمت هذه الحركة في وقف زحف اللغات
الأعجمية على اللغة العربية،التي فقدت مكانتها بوصفها لغة علمية وإدارية في مشرق
العالم الإسلامي،حتى العراق نفسه الذي يُعدّ من أمنع حصون العربية،تلاشت هذه اللغة
فيه تماماً. وذلك عندما عبّر العلاّمة ولي الدين عبد الرحمن بن خلدون عن مأساة
العربية في ذلك الزمن بقوله:«وفسدت اللغة العربية على الإطلاق،ولم يبق لها رسم في
الممالك الإسلامية بالعراق وخراسان،وبلاد فارس وأرض الهند والسند، وما وراء النهر،
وبلاد الشمال وبلاد الروم...وأما في ممالك العراق وما وراءه،فلم يبق لها أثر ولا
عين،حتى إن كتب العلوم صارت تكتب باللسان العجمي، وكذا تدريسه في المجالس».
ومما زاد الأمر سوءاً أنه قد بقي كثير من
سلاطين المماليك وأمرائهم مخلصين للغتهم التركية،مقدمين لمن يعرفها ويتكلم بها،بل
إن بعضاً من سلاطينهم كان فصيحاً باللغة التركية،وباللغة العربية لا بأس به.
وفوق
ذلك،فإن الهجرة الجماعية لطوائف المغول والأكراد، والأتراك والجراكسة لأرض الدولة
المملوكية،كانت خطراً على العربية،مما حدا بكثير من اللغويين إلى التباري في تأليف
المعاجم الأعجمية.
وفي ضوء
ما تقدم،فإن الباحث يدرك أهمية حركة الترجمة والتعريب في عصر المماليك، ولولا ذلك
الجهد العلمي الرائع،لتغلَّبت لغة الأتراك على العربية، وتحولت لغة الإدارة والحكم
إلى اللغة التركية،علماً بأن الجهاز الإداري والكتابي كان متوفراً في دولة
المماليك، وقد ساهمت حركة الترجمة في ديوان الإنشاء المملوكي في نقل كثير من
مصطلحات الكتابة وأساليبها ومصطلحاتها العربية إلى دواوين الإنشاء المغولية
والتركية، والفارسية،فضلاً عن غير ذلك من التأثيرات المتنوعة»(15).
الهوامش:
(1)د.طاهر ميلة:انعكاسات حركة الترجمة على
وضع اللغة العربية الحالي،مجلة اللغة العربية،العدد:14،2005 م،ص:279.
(2)د.عبد الملك مرتاض:مقدمة في نظرية
الترجمة،مجلة بونة للبحوث والدراسات،العدد:06، 2006م،ص:39
،وما بعدها.
(3)د.سمير الدروبي:الترجمة والتعريب بين
العصرين العباسي والمملوكي،منشورات مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات،ط:01،
2007م،ص:07.
(4) سمير الدروبي:الترجمة والتعريب بين
العصرين العباسي والمملوكي،ص:14 وما بعدها.
(5) د.سمير الدروبي:المصدر نفسه،ص:37 وما
بعدها.
(6)د.سمير
الدروبي:المصدر نفسه،ص:47 وما بعدها.
(7)المصدر نفسه،ص:59.
(8)المصدر نفسه،ص:67.
(9)المصدر نفسه،ص:68 وما بعدها.
(10)المصدر نفسه،ص:15 وما بعدها.
(11) المصدر نفسه،ص:79 وما بعدها.
(12) المصدر نفسه،ص:128 وما بعدها.
(13)المصدر نفسه،ص:133 وما بعدها.
(14)المصدر نفسه،ص: 138 وما بعدها.
(15)المصدر نفسه،ص:155.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق