السيرة السمعية لأُذن مواطن صالح
في البداية استرعى انتباهه صوت انسكاب كوب ماء في إحدى أذنيه.. عرك أذنيه بكفه وابتسم.
قال لنفسه مذكرا:
ـ سبحان الله..
ـ ما أعقد تركيب الإنسان وما أعظم قدرة الخالق!.
وأرجع الأمر لتفاعلات كيميائية داخل الجسد لا يفهمها ولا تستدعي القلق!
ضاجع زوجته واغتسل ونام نوما عميقا.
في الصباح زاحم وعارك للوصول إلى باب الأتوبيس والتعلق بأحد أعمدته الحديدية حتى حمله إلى عمله.
فعل كل ما يتوجب عليه كمواطن صالح.
وقع في دفتر الحضور.. بحث عن مقعد خال وجلس مع زملائه، بادلهم تصفح وقراءة الجرائد القومية وشاركهم بعض النميمة المتداولة على شاشات الفضائيات عن نجوم كرة القدم أو نجوم الفن.
بدا متعاطفا معهم في ظل التهكم الذي لمسه في كلام زملائه.. لم يسترح لمسحة الحقد الطبقي التي بدت في حديثهم.
قال مستنكرا:
ـ ليس ذنبهم أن أصبحوا مشاهير وأغنياء..
ـ لتُلصق التهم بهم جزافا.
سحب كرسيه بعيدا واختلى بكوب شاي طلبه أحد المواطنين جاء لينهي أوراقه.
لم يجد أي شبهة في شربه، فهو لن يوقع على ورقة ولن يفعل شيئا.. الرجل تطوع وطلب شايا لكل موظفي المكتب!
مع انتهاء الدوام تكالب مع الجميع على دفتر الانصراف.
مع انتهاء الدوام تكالب مع الجميع على دفتر الانصراف.
انتظر - دون نقمة - الأتوبيس.
لم يتبرم أو يعترض لتأخره، فقط تمنى لو كان معه سيجارة لأشعلها في هذا الوقت.
لكنه عاد وقال لنفسه:
لم يتبرم أو يعترض لتأخره، فقط تمنى لو كان معه سيجارة لأشعلها في هذا الوقت.
لكنه عاد وقال لنفسه:
ـ لا بأس
ـ هكذا أفضل..
ـ هكذا أفضل..
ـ ربما لو أشعلتها وجاء الأتوبيس سأضطر إلى إلقائها أو الصعود بها..
ـ ساعتها من يضمن أن يتم ضبطي وإلزامي بدفع الغرامة..
ـ بالتأكيد هكذا أفضل.
ومنى نفسه بسيجارة يحتفظ بها في البيت، يشربها بعد تناول الطعام مع كوب شاي أسود من يد أم محمد زوجته.
***
صوت خرير الماء تكرر في أذنيه مرات ومرات لكنه لم يتضايق.
قال لنفسه:
ـ إنها نعمة يا أبو محمد تستحق أن يحسدك عليها الناس
ـ الناس تدفع من دم قلبها لتحجز في مصيف لتستمتع بالشمس والرمل والبحر..
ـ من أجل ماذا؟..
ـ من أجل صوت البحر..
ـ وها هو صوت البحر يأتيك أنت خاصة من دون البشر إلى سريرك!
و ردد شاكرا بعد أن قبل بطن كفه وظهرها:
ـ الحمد لله.. الحمد لله
ـ يا لها من نعمة!
لكن حين وجد زوجته تثور لأتفه الأسباب.. تصرخ في وجهه وتقول: إنها لم تعد تطيق أن تكلمه ولا يرد عليها.
انزعج..
فهو لم يعتد إلا احترام زوجته على ما تبذله من جهد ما بين عملها وما بين البيت والأولاد.. تدبيرها لمصاريف البيت حتى تسير بهم سفينة الحياة إلى مرسى لا علم له به.
قال متأسفا:
ـ والله لم أسمعك يا أم محمد!
لكنها قالت بأسى:
ـ كلما جاءت سيرة مصاريف المدارس..
لا تسمعني وكأنك بذلك ستحل المشكلة.
صمت ولم يعلق.
فهي من أصرت على أن يلتحق أولادهما بمدارس خاصة كأبناء زملائهم..
قالت: ربك سيدبرها، لكن مع بداية كل عام تفشل كل الخطط التي يدبرانها لدفع المصاريف مع بداية العام الدراسي.
بعد ملاحقات مدير المدرسة لصغاره وتهديده لهم بالفصل إن لم يسددوا المصروفات يضطر إلى استدانتها من أحد أقربائه أو زملائه ويسددها له على مدار العام.
أما العام الفائت فما زال الدين عالقا برقبته بعد الغلاء الفاحش الذي عاشته الأسواق والمبالغ الباهظة التي يدفعها للدروس الخصوصية.
بعد صمت خيم عليهما قال منكسرا:
ـ وماله التعليم العام؟!
رأى شفتي زوجته تتحركان لكنه لم يسمع ما قالته.
قال لنفسه: (لعلها تفرج عن نفسها بكلمة، أم محمد ليست معيابة ولا يمكننا أن نحاسب الناس بما يدور في أذهانهم أو يجول في خاطرهم!)
***
شعر بثقل في أذنه شبهه بكتلة أسمنتية صماء صبها أحدهم في أذنه اليسرى ولم يفلح عركه المستمر لها في تحريكها.
حين يحجب أذنه الأخرى بكفه يكاد لا يسمع.
قال لنفسه:
ـ لا تكن جاحدا وكافرا بنعمة ربك يا رجل
ـ الناس حولك اختبرهم الله بأمراض الكبد والفشل الكلوي وأنفلونزا الطيور وأنفلونزا الخنازير..
ـ أمراض لا حصر لها
ـ حكاية أذنك بالنسبة لها مثل مزحة
صحيح أنه قضى يوما طويلا ومريرا بمستشفى التأمين الصحي أعطاه بعده الطبيب اسم قطرة يضع منها ثلاث نقاط مرتين في اليوم ووعده أن يتحسن بعدها، ورغم انقضاء أسبوع لم يحدث جديد.
فقط انتهى صوت الخرير من الأذن الأخرى!
إلا أنه يجب أن يحمد ربنا على كل حال.
حين صدمه توك توك وهو يقف في المحطة بانتظار الأتوبيس، وساعده الناس على النهوض، استشاط غضبا.
صرخ في الولد سائق التوك توك قائلا:
ـ أنت أعمى!
واستدار ليطمئن على نفسه وهل أصابه جرح أو تمزقت ملابسه ولم يلتفت إلى السباب الذي انهال به السائق عليه، ثم شاهد الناس يلتفون حول السائق ويجبرونه على الانصراف بالتوك توك.
واستدار ليطمئن على نفسه وهل أصابه جرح أو تمزقت ملابسه ولم يلتفت إلى السباب الذي انهال به السائق عليه، ثم شاهد الناس يلتفون حول السائق ويجبرونه على الانصراف بالتوك توك.
بعدها اقترب أحدهم منه وقال:
ـ لا تهتم يا أستاذ فهم أولاد عديمي الأدب
حينها سأله ببلاهة:
ـ وهل قال شيئا؟
الرجل نظر إليه باحتقار وقال:
ـ يا خسارة.. الرجال أصبحوا خرتية
لكنه بالطبع لم يسمعه.
لكنه بالطبع لم يسمعه.
***
نصحه أحد الزملاء في العمل بأن يذهب إلى أستاذ في جراحة الأنف والأذن والحنجرة بعد أن بات ملحوظا للجميع حالة الصمم التي يعيشها.
صاح بصوت عال إنه ذهب إلى مستشفى التأمين وأعطوه قطرة لكنها لم تأت بنتيجة..
ربما شعر بعدها بتدهور حالته بشكل أكبر.
صمتٌ مدو تضج به حياته.. حيوان صغير تسلل إلى أذنيه ورقد فيهما ثم مات هناك.
فاتح زوجته بما قاله زملاؤه وأعطاها اسم الطبيب الذي نصحوه بالذهاب إليه.. قالت إنها على كل حال كانت ستبيع السلسلة التي بقيت من مصاغها لتسدد مصاريف الأولاد. وصحبته معها إلى الصاغة ثم إلى الطبيب الكبير.
الطبيب ابتسم وقال إن الأمر لا يستدعي كل القلق الذي يراه في وجهيهما.
قال إن بعض الوسخ ترسب في أذنه وسبب حالة الصمم، وسيحتاج إلى غسيل الأذن وسيعود بعدها إلى أفضل حال.
وأمرهما أن يذهبا إلى الممرضة ليدفعا الحساب.
زوجته قالت أنهما لم يدخلا إلا بعد أن دفعا الكشف بالخارج، لكن الطبيب قال إن الغسيل له حساب آخر بخلاف الكشف.
خرجا من عنده وهما يتبادلان نظرات صامتة.. دفعا 200 جنيه للكشف ثم يقول إن للغسيل حسابا آخر..
لكنهما في النهاية اضطرا للدفع.
وضعت الممرضة القمع في أذنه وسكبت الماء..
انفجرت ريح ثقيلة شمطاء ثم هدر شلال في أذنه حمله بعيدا إلى خيالات نزقه، حيث النساء صغيرات وجميلات وفاتنات والسماء صافية الزرقة والرمال شلالات من الحنو تحت قدميه، والبحر يغسله بماء الحياة فيعود فتيا.
أفاق على صوت الطبيب يستحثه على النهوض.
ابتسامة رضا عريضة ارتسمت على وجهه بعد أن سمع صوته بوضوح، صافحه بامتنان وظل يردد حتى غادر العيادة:
ـ أنا متشكر
ـ أنا متشكر
ـ حقا لقد خلق الله لكل داء دواء
***
عاش لأيام سعيدا ممتلئا نشوة وفضولا للأصوات التي هاجمت أذنيه.
أصوات غامضة، هي مزيج من ضحكات قويه مغوية جعلته دائم الاستثارة طالبا للفراش مما جعل زوجته تتهرب منه وتذكره أنهما لم يعودا صغيرين على ذلك النهم الذي لا يُشبع، وجعل زميلاته في العمل يزجرن نظراته العطشى ويتغامزن فيما بينهن ويضحكن على حاله.
أصوات باعة، كركرة أطفال، خرير مياه لتدفق نهر صغير،حفيف أوراق لأشجار تتمايل، اصطكاك أطباق وملاعق وفناجين قهوة تتكسر.
أو مزيج من نداءات ومزامير وأصوات آلات تنبيه سيارات تتجشأ آلاتها واستغاثات هلعة وفحيح لا ينقطع..
صيحات مرعبة قادمة من أعماق سحيقة تجره إلى عوالم موحشة وتجعل روحه الغضة تنزف ألما.
ـ لك الحمد يا الله
هكذا قال لنفسه بعد أن استعاد صوت الحياة.
***
مرت أيام يشتكي فيها من صداع قاتل.. يصحو في أنصاف الليالي ليضع الوسائد واحدة بعد أخرى فوق أذنيه وفوق رأسه، ينهض ليخبط رأسه في الجدار ويعود ليحاول النوم دون فائدة.
بات نزوله إلى الشارع كابوسا.
آلات تنبيه لا تتوقف عن الصفير في أذنيه.. سباب وملاعنة على الرصيف وفي الشارع وأمام واجهة المحلات وداخلها.
قاموسه اللغوي نما بسرعة لم يتوقعها.
مئات الشتائم التي لم يسمع بها من قبل تناقلتها أذناه في عذابهما اليومي.
انطفأت الاستثارة الوامضة في عينيه وحلت مكانها سحابة سوداء كبيرة جعلته يسير متخبطا في الشوارع.
أحد زملائه قال له:
ـ يا أخي المسألة بسيطة، ضع قطنتين في أذنيك وسترتاح وتريحنا من شكواك المستمرة!
جرب وصفته التي لم تنجح كثيرا في تخفيف الضجيج.
مع الوقت بات يجيب على محدثيه بإجابات لا علاقة لها بأسئلتهم.. يطلب زميله أن ينهي الأوراق التي يطلبها المدير منه، فيرد:
ـ ابن الكلب
حين يسمع صوت زوجته وهي تنحشر في الأتوبيس وتطلب من الراكب الملاصق بها أن يكف عن مضايقتها والاحتكاك بها.
وحين قالت زوجته أن أمها مريضة وستذهب لرؤيتها والاطمئنان عليها.. كان يسمع جارته وهي تسخر من زوجها الذي أضاع راتب الشهر على الفياجرا التي لم تأت بنتيجة.. ورأته يضحك دون أن تعرف سببا للضحك.
ثم اعتاد أن يطلق صرخات تحذيرية وهو في العمل أو في البيت بين أولاده من عينة (حاسب - استر يا ستار - خد بالك - لا حول ولا قوة إلا بالله - ابن الكلب - لصوص أبناء لصوص- فسده ومرتشين - ابن ال....).
صيحات تفزع كل من حوله وتجعلهم يقفزون في أماكنهم قفزة خفيفة يتساءلون بعدها:
ـ فيه حاجة يا أبو محمد
ـ لأ مفيش!
ـ فيه حاجة يا بابا
ـ لأ مفيش
ـ فيه حاجة يا أستاذ
ـ لأ مفيش
ـ فيه حاجه يا أخ
ـ لأ مفيش
هناك 3 تعليقات:
تهنئتي على قصتك الرائعة ..فما كتبته هو بالفعل الواقع المرير للتلوث السمعي والبصري الذي كل يوم بلا توقف يصدمنا .. تمنياتي لك بالتوفيق والتقدم .. وشكرا لمدونتك الجادة التي تجمعنا والتي أعتبرها أهم المدونات الأدبية ..د.سوسن أمين فنانة تشكيلية وقاصة
د.سوسن
كل عام وأنت وأسرتك بخير وسعادة
شكرا على مرورك الكريم وتعليقك الودود
تحياتي
شكرا لك استاذ احمد طوسون على إبداعك الجميل في هذهِ القصة ..
فعلاً هذه القصة تصور واقعنا العربي وواقع الأمة وفيها إشارات رهيبة للأنساق التي يعاني منها المجتمع والأمة أجمعها أبو محمد لا يعلم بما يجري معه في المجتمع الذي يعيش فيه وهو إنسان بائس مغلوب وهو مع ذلك يحسن صنعاً الزوجة تنجرف مع الأمهات نحو كل شيء جديد نحو المدارس الخاصة نحو الحداثة الجديدة القصة تناولت المشكلة الاقتصادية .. العالم ينقلب ويتطور ويهتز على كل المستويات لكننا نائمون ونشعر بالصمم ولا نشعر بشيء ولا نستمع للتاريخ أو التجربة ..
مرتضى العظيمي
قاص ومسرحي / العراق
إرسال تعليق