بقلم: عبدالقادر صيد
لأول
مرة من فوق قمة الجبل تبدو القرية لخادم سيدي بعيدة جدا ،لا تكاد تتبينها العين..
نزوة سحيقة هي في قلب تقي ، كما بدت لصغرها نقطة لا تتسع للمعاملات و العواطف .. خانة حسن هي تزيّن خد
هذا الجبل الأحمر .. يصافح النسيم الصافي وجه الشيخ فيتنفس معه الإباء و التميّز ،
وتحدثه نفسه في مكر:
ــ ألم تكن هذه
الجبال تدلل القرية ببركة سيدي؟! و حياء منه تهدهدها برقة و لطف ؟ ألم تهدها المياه العذبة و الفواكه
اللذيذة و الزيت الفاخر؟!
فيحرك رأسه في كمد وحسرة :
ــ نعم كان ذلك يوم كانت تعقد مع سيدي صفقات الحب و
الولاء والخير و الرخاء.
و راح في
تلك القمة البعيدة عن الضجيج يستمع إلى همهمات الأشجار.. يتنصت إلى نبضات قلب
الجبل .. هذا القلب الذي طالما نبض بالسرور
فدفع إلى السطح ماء عذبا يثلج الصدر و ينبت الأشجار ، و نبض بالحزن فدفع ماء ساخنا
يستشفي به الناس من أدوائهم ، و نبض منذ زمن بالغضب فدفع حمما يتغذى بها النبات .. فما أعظم قلب هذا الجبل و
ما أرحمه بمن يقلهم!
عبثا حاول أن يسمع هذه النبضات الآن، ترى إلى أين نقّل الجبل
فؤاده ؟أليسوا هم حبه الأول ؟ لا أعتقد أنه ذهب إلى سيدي آخر، لقد أضرب عن الحب حتما
.
حبل سُرّي كان هو الطريق الذي يربط القرية بسيدي
..يضخّ الأنغام الروحية.. قرون و أهل
القرية يحجون إليه .. لقد كانوا يرقصون على نغم واحد ، أما اليوم فقد تعددت الحبال السُرّية، و
اختلطت الأنغام .. هجروه، واستبدلوه بصحون.. لقد أصبح في بيت كل واحد منهم سيدي أو
أكثر ..هي مظلاتهم المعكوسة ضد زخات الملل و الفراغ قبل أن تكون بساط الريح المأجور إلى
جنة الفرنجة.
لقد انقطع الحبل السُرّي المباشر الذي كان يبتهل
بهوى واحد ،و جاء عصر الأولياء الذين يبتهلون بأهواء مختلفة و يتضرعون بنكهات البلوتوث
، و عوضت الشهقات بالترددات و التحكم
عن بعد.
بقي يداول النظر بين القرية و بين سيدي، كأنه يستعدي هذا
على هذه :
ــ لقد أسلمتهم
الجبال للعطش ، حمتهم في الماضي من فرنسا و قهرت العمالة و الخيانة، لكنها اليوم
تخذلهم أمام العطش. يستحقون ما يحدث لهم! غوري أيتها
المياه أعمق، فلن تغوري أكثر من ابتعادهم عن سيدي ! و لكن كيف أغادر القرية دون موكب وحداد؟! أعظم
من مصيبتي أن تمر دون أن تسجل على صفحة الزمن مراسمها !يا لفجيعة أجدادي إن علموا بخروجي الصامت من
القرية.. بخروجي و المفاتيح معي، لا أجد لمن أبيعها.
ألا بعدا لهذه القرية ! لطالما زحف كبراؤها
على عتبة المعبد و من فوق ظهورهم المنحنية تنزلق كل معاني التزلف، و معها القربات
الثقيلة و الثمينة ، وكان المحظوظ منهم هو ذلك الذي أتقبل منه قبل الآخر.. دنكشوتية
هي أن يتمسك شهر بالمكوث محتجا بعدم ظهور هلاله، أما أنا فسأرحل و أنا حامل معي
هلالي ضمن شيكاتي .
أنا
ذاهب يا قرية السوء، سأتركك لسيدي، لينتقم منك، سأمزق بنديري ليندثر معه نشيدي
الرسمي ، و سأعيش مما جمعته منكم طوال حياتي ، سأحيا الحياة اللائقة برجل غنيّ..انتهى
وقت الجمع و العد،وبدأ عهد التمتع بجد.. سأغادر المعبد الذي عشت فيه قطعة أثرية محنطة تعجب الزائرين بعراقتها، و سوف أذوب وسط أناس
آخرين كما ذاب أخر أمراء غرناطة، و لكنني محظوظ عليه لأنني لن أسمع توبيخ أمي .
لقد كان المعبد يمنح أجدادي ما شاؤوا من الأولاد،فالخصوبة
عندهم علامة مسجلة، و هاأنذا أخرج
من القرية شيخا عقيما..ألا تبا لي !كيف يدخلك أجدادي أمس جماعات محبوبين
،و أخرج منك اليوم فردا ممجوجا؟! ألا ما أمر
العقمين:عقم الأصلاب و عقم الأفكار!
سحقا لك يا
ناكرة الجميل،يا مشركة في الحب و الولاء..سجلي يا أوراق الزيتون أني ـ أنا خادم
سيدي ـ غاضب على القرية إلى يوم الدين، أما المفاتيح فسترافقني حتى أجد من يدفع
فيها ما تستحقه، ولن أمزق البندير كما قلت في لحظة غضب.. سأورثه لمن أتبناه ، وسترجع
نغمته يوما النشيد الرسمي .
للتوضيح: البندير نوع من أنواع الطبول.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق