في وداع
كونشيرتو الغياب.. جائزة الدولة لأحمد طوسون
أسامة الزيني
أحياناً لا تعرف من أين تبدأ. نعم لم يعجزك
الكلام من قبل، لكنك هذه المرة مرتبك جداً. هل لأنك فرح فوق العادة مثلاً؟ لا
أبداً، فلقد فرحت لمثل هذا كثيراً من قبل. إذن لعلك تواجه أزمة مع تلك الحدود
البعيدة التي تحول دون عناق طويل لصديق العمر ورفيق الرحلة يليق بحضور لحظة فارقة
من الحياة تأخرت عمراً؟ أجل ربما هذا الأخير، لكنه ليس كل شيء. ثَمَّ مشاهدُ
تجتاحك بعدما كسرَتْ جدار سدِّ ماضٍ بعيد في طريق فيضان نهرها الثائر جنوناً
وبكاءً بمذاق الفرح، بينما أنت واقف لا تصدق أن الحياة أفرجت أخيراً عن فرحة مجنحة
لم يكن يخطر لك على بال أن لها مكاناً في عالمك، فرحة طالما ظننت أنها خُلِقَت –فقط-
للأساطير. فرحة اعتدت ورفاق الدرب في موسمها من كل عام أن تشاهدوها بعين عاشق يلوح
بيدين مغلولتين وعين مترعة بدموع العجز لمعشوقة تزف كل عام إلى عجوز وعينها على
أحدكم، أنه كان أولى بها أحد أولئك الذين ينبضون فتوة وفحولة وعشقاً لنزال جسد
مستسلم للفتك الجميل، عينها على فارس من أولئك الذين اعتادوا أن يُدعَوا إلى الموت
ويُدعَى غيرهم من الناعمين معطري الأردان إلى المجالسة، لكنه لم يكن زمان الفرسان،
وأعراسه كانت أقرب ما تكون إلى وقائع الاغتصاب المقنن المقنع لكل حق في وطن تواطأت
أغربته الناعقة لعقود على أطياره الصداحة فضنت عليها بكل شعاع للصباح، بكل قطرة
للندى، بكل أفق من فضاء الله تضرب فيه بأجنحتها. لكنّ قلبك كان صادقاً أيها
العاشق، وزندك كان قوياً، حتى إن معشوقتك أخيراً تمردت على أسرها، وأفلتت يدها من
يد سجانها، وركضت إليك بقوة، وارتمت أخيراً بين ذراعيك، قبلتك طويلاً، ثم عادت
لعناقك من جديد، أرسلت تنهيدة طويلة ورأسها مدلاة على على كتفك، همست في أذنك:
"أنت".
أخيراً اقترن اسمك باسم الدولة يا صديقي..
أخيراً أصبحنا جزءاً من ذاكرة هذا الوطن.. أخيراً أصبح لفرحنا وطن، وهو الذي ولد
غريباً في أوطان الآخرين، يتلقى مسح الغرباء على رأسه كأنه يتيم يطمع الناس في
ثواب إحسانهم إليه.. كأن الوطن كان يصغي إلى خفقان قلبك كلما عدتَ إليه من تتويج خارج
حدوده، وعينك على حضنه، ولسان حالك يقول: متى؟.. لعلك عرفت الإجابة الآن يا صديقي.
قهوة العودة هذا الصيف ستفقد كثيراً من
مرارتها.. لن أقبل بأقل من قطعتي سكر دفعة واحدة، قبل أن نخرج إلى هواء الموج نبثه
صراخ قلوب مفعمة بالانتشاء، وقبلُ كنا نبثه خرسها وصمتها أمام كل حق يضيع، وكل حلم
تبتلعه صفحة ماء بحيرة عزلة الأزل التي قدر الله لها ألا تكون عزلة الأبد، ثمة
فرصة مواتية لرقصة مع نسمة لعوب تنتظر هناك عل الشاطئ الفرِح، ثمة فرصة لتأبط
البهجة أيها الفارس المغتسل من غبار الرحلة، المعطر بروعة النصر، ثمة حلبة بالخارج
تنتظر إشارة البدء لرقصة كاريبية أكثر صخباً تعلن نهاية كونشيرتو الغياب.
"مبروك يا أحمد".
هناك 3 تعليقات:
رائعة واكثر , دائما شكرا لإبداعك أستاذ أسامة الصديق الراقي
كل التقدير والاحترام لك أستاذ أحمد وألف مبروك
حين تحضرين يغمر الدفء كل شيء يا صديقتي النقية.
إرسال تعليق