" باعوها بعلبة
سردين ووقعوا "
بقلم
د. سمير محمد أيوب
تجليات قصصية ، في لوحات مركزة ، مضمونا
وإفصاحا ، للمبدعة سناء الشعلان . تحاكي الالتزام بامتياز . تصعد برحلة وعيها
الأدبي إلى سوية فلسطين . تروم عبرها بمسؤولية جريئة ، استكمال رصد ما سبقَ لها ،
وأن سجلته من وقائع كئيبة مثقلة بعذاباتٍ حسِّية أو تميل إلى الحسية ، تخلخل
الحياة اليومية للفلسطيني ، المحاصر بالاحتلال وهزائم الآخرين ، في مجموعتها
القصصية التي أصدرتها عام 2015 بعنوان " تقاسيم الفلسطيني " .
وفق غائية منحازة للحياة ، تقتحم الكاتبة
بعضا من وقائع العلاقة الصراعية المباشرة ، مع المحتل الذي يتفنن في توظيف كل
ادوات الإرهاب والقهر الممنهج ، لتحقيق أهدافه القريبة والبعيدة ، وما يلف تلك
العلاقة ، من فضاءات مشحونة بمفردات ، تؤطر لوجع فائض عن قدرة التحمل ، وبرفض
فلسطيني سلبي ، أو فعل مادي مقاوم ، للانعتاق من قيود تلك المكابدات اليومية .
يتحرك الإبداع في هذه المجموعة ، إلى مناطق شديدة الارتباط ، بالذات المبدعة
من جهة ، والقيمة الإنسانية لأصولها الفلسطينية . تتأرجح الأبنية الجمالية فيها ،
بين ذوات منفعلة ومتوترة بهمومها اليومية ، وذوات عنصرية تتخفى تجسيداتها
الإرهابية على الأرض ، بمنظومة أقنعة ، متغيرة وفق تغير ظروف المجابهة معها .
تتكون هذه المجموعة من 13 قصة متفاوتة
الطول . تمتزج في بناها رؤى جامعة ، تستحضر الأبعاد الحقيقية للمحتل ، في صورته
الكلية ، وفي تجسيداته الفرعية في الزمان وفي المكان . موزعة على
128 صفحة من القطع الصغير . صدرت طبعتها الأولى عام 2016 ، عن دار أمواج للطباعة والنشر
والتوزيع ، في عمان - ألأردن .
الكاتبة :
لا أجافي الحقيقة حين أقول : أن كل
متذوق لهذه التجربة الإبداعية للكاتبة ، كما إبداعاتها الأُخَرْ ، يدرك على الفور
أنه أمام موهبة متعددة الأبعاد ، غير متوارية في المشهد الأدبي . تعمل بمهنية
رفيعة المستوى ، على تطوير مضامين مشروعها الثقافي وأدواته . مكنها دأبها من إنتاج
إرث إبداعي ضخم ، متصل الوميض في كل جنس أدبي قاربته . انتزعت به لنفسها ، مكانة
وشهرة مرموقة ، في فضاءات الأدب العربي الحديث والمعاصر .
تتكئ الكاتبة في تجسيد مشروعها الثقافي
، على مخزون لا ينضب ، من أحاسيس وطنية وإنسانية نبيلة . تغرف بجرأة من وعي ثقافي
، قابض على زمام اللغة . لها بصمتها الأسلوبية
ألبانية لنصوصها ، دون أن تحيد عن مقتضياته العلمية .
بدأت سناء رحلة الكتابة في العام 2004،
أصدرت في هذه الأثناء 15 مجموعة قصصية . فضلا عن العديد من الإصدارات الروائية
والنقدية والمسرحية وقصص الاطفال . تجاوزت الخمسين إصدارا حتى الآن . بالإضافة إلى
مئات الدراسات والأبحاث والمقالات والبرامج الإذاعية والتلفزيونية والندوات وورش
العمل والمؤتمرات . نحتت لنفسها عبر كل هذا
النتاج ، ذاتــــاً إبداعية متفردة ، استحقت
وفقها ، عشرات الجوائز والتكريم ، في العديد من المحافل الثقافية .
كلما قرأت لهذه المبدعة ، أجد نفسي أمام
موهبة تشاغب الواقع وهي تباشره ، مفـتقة أو ملتقطة بوعي ، للمعاني والدلالات
الكامنة فيه ، لتتساوق مع غرضها الذي تختاره كثيمة ، تمنح نسيج أعمالها الأدبية ،
تماسكا وبعدا ، مطابقا لمقتضيات بناء النص ، ويحقق قصدية الكتابة من التأثر والتأثير
، وفق رؤيتها الآنية لتجليات واقعها .
فخ العنوان :
أوّل ما أثار انتباهي كمتلق ، لهذه
المجموعة القصصية ، هو عنوانها السردي الرئيس
" حدث ذات جدار " . هو
فخ مبهر ، أنشأته وأبرزته مبتدعته ، تعمدا لا اعتباطاً . لاتساع مساحة الغوايات
المشفرة فيه ، وانفتاحه أثناء محاولات
الفهم ، على عوالم من التكهنات والتأويلات ، وما يتولد أثناء القراءة
التفكيكية ، من جدل حول ثنائية المعنى
الحرفي والمعنى المجازي للنص . اختيار اقتضته رغبة الكاتبة في أن لا تبقي المخبوء
في خطابها رهين قراءة أُحادية ، ملتبسة التأويل
.
العتبة الرئيسة للمجموعة ، تشتت أفكار القارئ ، وتحيله إلى مجموعة كبيرة
من الرموز والمعاني ، التي يمكن أن يشير إليها الجدار . تستفزه ليتوسَّع في خياله
، لمعرفة ما وراء العنوان .
تَعْتَبِرُ د. سناء أن العتبات السردية ، بوابات تشاطئ
النص ، وتُفضي إلى استلهام عناصره من الداخل . وهي من أكثر المبدعين العرب تميزاً ، في نحت
العتبات السردية الصادمة ببلاغة رمزيتها ، لبعض الصور الذهنية عند المتلقي . تهتم
في معظم نصوصها السردية ، بانتقاء العتبات المناسبة لها . ويمكن ملاحظة ذلك في
روايتها (السقوط في الشمس) 2004، ومجموعة (الجدار الزجاجي)2005، ومجموعة (مذكرات
رضيعة) 2006، ومجموعة (قافلة العطش ) 2006 ، ومجموعة ( مقامات ارض الاحتراق ) 2006
، مجموعة ( رسالة إلى الإله ) 2009 ، مجموعة ( تراتيل الماء ) 2010 ، مجموعة (
الضياع في عيني رجل ) 2012 ، ورواية (أعشقني ) 2013 ، مجموعة ( عام النمل ) 2014 ،
مجموعة ( تقاسيم الفلسطيني ) 2015 ، ومجموعة ( الذي سرق النجمة ) 2015، وهذه
المجموعة ( حدث ذات جدار ) 2016.
العنوان جملة فعلية . بدأت بفعل "
حدث " ، الدال على نتف من سيرورة كلية ، تتصل بزمان ومكان وأناس محددين .
متبوعا بشبه جملة " ذات جدار " . جاءت نكرة فاقدة للتعريف . لتدل على
رمزية الجدار الإنشائي المعني .
تتكرر كلمة ” جدار ” في نسيج الرؤية
العامة للمجموعة ويشغل مساحة واسعة على امتدادها . تأتي صريحة ، أو يتم الحديث
عنها بضمير المخاطب أو بضمير الغائب . توظفها الكاتبة لتحقيق أغراضها ، دون أن تقصد الجدار كمفهوم
معماري ، بل كصفات معينة ، ولدتها الكاتبة من ذاتها ومن ثقافتها ورؤيتها للصراع .
وعلاقة هذه الصفات بحياة الفلسطيني في وطنه المحتل .
ولكن ، لماذا اختارت الكاتبة ثيمة الجدار دون غيرها ؟ فغرضية العدو ، تتخلل
بحقد وكراهية وإرهاب ، كل مساحات حياة الفلسطيني و معارجها . ولم تعد هناك جدران
تفصل بين عذاب وعذاب .
" حدث ذات جدار " جملة مشبعة
بالدلالات . لها إيقاع حسي قوي . في ظل عدو يجيد أبجديات البطش ، تحيل الجدر الى
العزل والاعتقال والعنصر ية . من أجل هذا ، اتخذت الكاتبة غموض العتبة شرفة تطل
عبرها ، وهي حاضرة الذهن ، حقائق الصراع المتصل مع العدو الصهيوني ، المثقل بإرهاب
يومي ، مدجج بمنظومات من أدوات القتل والتنكيل والاستلاب والنفي ، وكل أشكال
التكيف والتحدي الفلسطيني ، لبشاعات المحتل ومقاومتها .
رؤية الكاتبة للصراع مع المحتل
تؤمن الكاتبة ، بأن فاقد القدرة على
فكفكة رموز الأحتلال ، لا يمكنه الإحساس بوطأته على أصحاب البلد . ولا يمكنه بالتالي فهم طرق وأدوات مواجهاتهم
ومجابهاتهم الفردية والجماعية لمحتلهم . لتضييق أطر إحساسهم بالعجز الناتج عن
حرمانهم من إشباع منظومات حاجاتهم الإنسانية .
لتفهم الصراع مع العدو ، استحضرت
الكاتبة الكثير من الماضي واستقرأت الحاضر واستشرفت المستقبل . لم تنقصها التفاصيل
. غربلت ما رأت وما سمعت . واكتفت بانتقاء بعضها. وربطت بين الجزئيات . وقرأت جيدا
. فوجدت أن اغتصاب فلسطين ، جريمة تكاملت فيها كل عناصر العنصرية .
وأن وراء الكثير من الانجازات الميدانية
للعدو المحتل ، قوى عربية ، في متاهات الهوان والخراب العربي ، تفوق صهيونيتها
أسوأ التوقعات . تعمل في السر وفي العلن ، مباشرة وغير مباشرة ، على تمكين وتعزيز
قوى الاحتلال ، ومخططاته.
الثابت الوحيد في هذا الصراع ألذي لا
يمكن تجنبه ، هو ألرؤية الإستراتيجية لطرفيه . على أنه صراع وجودي لا حدودي . وأن
الصراع على ألجغرافيا ممره الإجباري هو ديموغرافيا العرب الفلسطينيين .
الديمغرافيا الفلسطينية هي المحرك
لمخاوف العدو . وهي ألأمل المتحرك لأهل البلد . الفعل ورد الفعل اليومي ، يتفاذف
بينهما متشابكا . في الفضاء الديمغرافي ونطاقاته تتمدد فوبيا المحتل .
ألصراع مع العدو ليس وهما ولا غبارا .
بل مخططات طويلة الأمد ، وتطبيقات يومية لخلخلة حياة الفلسطيني ، وتفكيك أوصاله ،
واقتلاع من لم ينجح حتى الآن في اقتلاعه من أرضه ، ونفيه بعيدا عن فلسطين .
في ظل فوبيا الديموغرافيا ، يشهد عالم
اليقظة في حياة الفلسطيني ، تنويعات وجع ، أعمق من حرب باردة ، وأشرس من حرب
عسكرية . مفردات المعاناة ، ليست كوابيس
خيال . مقيمة ليست عابرة أو آنية أو أحادية البعد . وإنما هي سيرورة حياة يومية .
تتشكل في لجتها حياة الفلسطيني .اكتفت الكاتبة لغرضها في هذه المجموعة بانتقاء
بعضها ، المعبر مباشرة وضمنيا عن المعاناة اليومية .
تدرك الكاتبة ، وهي تقدم شخصيات قصصها
وتلاحق حركاتهم وردود أفعالهم الداخلية والخارجية . فإنها لا تلغي من فكرها ما قد
ينمو في دواخل طرفي الصراع من مشاعر، تتأثر بتناقضات الصراع ، وارتطاماته اليومية
، التي تفقدهم الكثير من توازناتهم النفسية والتعبير عنها دون حرج .
عتبة الإهداء
افتتحت الكاتبة مجموعتها القصصية ، بإهداء
وجّهته إلى بطلين واقعيين . تعتبرهما أسطورة أزمانها ، في الصبر على المكابدة ،
والقوة في الصمود ، والعزم في المواجهات للخلاص . البطل الأول بطل عام ، هو شعب
الجبارين في فلسطين ، والثاني بطل خاص بالمبدعة هو والدتها . خاطبتهما بفخر قائلة :
(( إلى من لا تهزمهم الأسوار ، مهما علت
وتجبرت ، وإلى امي القامة السامقة الطاهرة ألتي لا تهزم ولا تنكسر )) (ص5 ).
فالإهداء أيقونة تبين قوة العلاقة
الوطنية والإنسانية بين الكاتبة وبطليها . الذين تعرفهما عن قرب بالمعايشة اليومية
. فليس هناك انفصامٌ بين الذات القاصة وهمومها ، والوطن وهمومه ، بل تفاعل والتزام
وتأثير.
وألاحظ أنّ الكاتبة ، تتكئ في إهدائها
على صورة لشعب الجبارين ، كبطل أسطوري عاش وما يزال ، في عصر الانهزام والاستسلام
العربي الرسمي ، صورة تعطيها القوة والأمل في الاستمرار ، واستعادة وطن محتل ،
خاصة حين تقول : ((لا تهزمهم الأسوار ولا
تكسرهم )) ، صامدون في الوطن ، متشبثون به
رغم جمر المكابدة اليومية .
العتبة التقريرية
أما العتبات الصغرى الداخلية للقصص ،
بمعنى تلك التي جاءت قبل كل قصة ، فقد مهدت لها بعتبة تقريرية متماسكة ، عن الجدار
الإنشائي . تبقي المتلقي قريبا من تضاريس جدار العزل العنصري ومفرداته ، أطلقت
عليها اسم : إضاءة على ظلام . جسمت من خلالها ، الماهيات ألمادية ألبشعة للجدار
ألمتوحد مع الاحتلال . بما يكفي لإدراكه بالحواس الخمس . وجعلت من مفرداته قنطرة ،
يعبرها انتباه القارئ . وتثير توقعاته . وتجعله أكثر تحفزا لسماع ما ستقوله الكاتبة
. والانتباه للرموز التي تخاطب ذهنه ووعيه . وتستحوذ عبر منافذ متعددة ، على انفعالات
وجدانه ، بالكثير من صور الفعل العنصري ألوارد في ثنايا البناء المعماري لقصص
المجموعة . وما ترتب على هذا الفعل العنصري الممتد زمنيا ومكانيا ، من معاناة
متصلة ممزوجة بوجع وطن ، وجثث أبناءه . ومشبعا بتدفقات الاقتلاع والنفي والغربة
والحنين .
العتبات الصغرى
تتمحور الوحدة العضوية لكل قصة ، حول
بؤرة مركزية تربط البناء اللغوي المكثف ، بالاحتلال الذي يتجلى بهيئات عنصرية
وإرهابية متعددة ، تتشاكل معه بثيمات دلالية صاخبة .
فمفهوم الجدار فيها ، يتخطى معناه
الوجودي ، ليحل ويتحد مع كل الموجودات الفاعلة للمحتل . هذا التماهي اليومي في
رؤية المجرد ، من خلال المرئي في الواقع ، يتجسد في القصص علة فاعلة ومحدثة .
ويكون وجوده بذات الوقت ، علة غائية . لذا انفردت المجموعة بعتبات مكثفة . تعتمد على الإزاحة والمفارقة ،
التي تثير الدهشة . وتهيئ القارئ لانفتاح مخيلته ، واندماج وعيه مع الغائية
المركزية المشفرة للكاتبه . ( وبكى الجدار ) ، ( المقبرة ) ، ( حالة أمومة ) ، (
الصِّديق السِّري ) ، ( شمس ومطر على جدار واحد ) ، ( من أطفأ الشمعة الأخيرة ) ،
( عندما لا يأتي العيد ) ، ( وادي الصراخ ) ، ( الغروب لا يأتي سرا ) ، ( سلالة
النور ) ، ( ما قاله الجدار ) ، ( بعيدا عن الجدار ) ، ( البوصلة والأظافر وأفول
المطر ) ، ( خرَّافِيَّة أبو عرب ) .
تختتم الكاتبة مجموعتها ، ب
" خرَّافية أبو عرب " . تُتْمِمْ بها
، الوارد في متون العتبات السابقة عليها . وتقلص الالتباس المحتمل الذي قد
يحصل للمتلقي .
لسرديات القصص السابقة على
هذه القصة ، أهمية خاصة في التأسيس للدخول ، إلى عناصر التشويق في الصراع . وكشف
العناصر الماورائية الغيبية ، في جدل العلاقة بين الواقع المثقل بكلّ أشكال العذاب
، والصبر الخارق على المكابدات اليومية ، والمقاومة العجائبية لليأس والإحباط
والتحدي ، الواردة في متون العتبات السابقة عليها .
تكشف هذه العتبة ، مدى اغتراف
ألمبدعة ، من التاريخ والذاكرة ألجمعية ، والتراث الديني وغيره ، وتكشف أيضاً أن
همومها ألوطنية والقومية ، تثقل عليها حياتها . وتدفعها إلى التعبير عن واقع معاش
، بأسلوب أدبي مبدع . يطغى عليه الجانب التعبوي ، الذي تتفتح فيه مناطق تأويلية
كثيرة ، لا يمكن حصرها ، إلا بتوجيه ألمتلقي ، إلى الفكرة ألأساسية ألتي يحتويها
النص بمجمله . والتي تكشف عن رؤية ألمبدعة للصراع مع العدو المحتل .
العتبات السردية - في
" خُرَّافِيَّةِ أبو عرب "
ما شدني إلى وهج هذه
الخُرَّافيَّةِ ، وما قد يثير اهتمام المتلقي لها
، هو عنوانها . المكوَّنٌ من جملة اسمية تبدأ بكلمة " خرافية " .
وهي كلمة عامية ، مستعملة بكثرة في السياق اليومي عند كبار السن من الفلسطينيين .
وتعني حكاية أو قصة . وهي مشتقة من كلمة خرافة أو أسطوره . وهذا إيحاء مُبْكر إلى
أن النص خلطة من وقائع ومن تهويمات . والعنوان مع ما فيه من غموضٍ وحذَر ، لا يشي
بوقائع محددة واقعية أو موهومة ، على الإطلاق . فهو دعوة تحض على الدخول ، في
ثنايا أبو عرب ، وما يعج بها من حقائق وأساطير ، من خلال ما تروية الجدة عنه .
ثم أعقبت الكاتبة ذلك ، باسم " ابو عرب " . انتقاء الاسم لم يكن
عبثاً عابرا . بل محصلة إيمانِ الكاتبة أن النكبة إرث عربي في فلسطين . وأن
تحريرها لا يمكن له أن يتمّ إلا بمحصلة قوى الأمة مجتمعة . من أجل هذا اتّخذت لبطل
القصة اسم أبي عرب ، تبركاً وتفاؤلاً وإيماناً بالعرب أجمعين ( صفحة 92) .
قد يرمز الاسم إلى رجل عادي
من أمة العرب ، أو إلى سياسي أو مناضل أو قائد ، أو غير ذلك من الناس . ولكن
الكاتبة أراحت ألمتلقي من التخمين والتقصي . فأبانت في توطئة القصة ، بلغة بسيطة
ذكية ، أنّ " أبو عرب " فدائي
عربي ، من خيرة شباب ألتجربة ألثورية ألفلسطينية . قاتل العدو الصهيوني بالسلاح ،
إلى أن تم أسره وهو يقاتل في فلسطين . صمد بصلابة في معتقلات العدو ، رغم بشاعة
التعذيب الذي مورس عليه . ( صفحة 92 ).
وبلغة ملتزمة متخطية
للمحاذير ، تقول الكاتبة بتكثيف شديد : ما أن خرج أبو عرب من معتقلات العدو
الصهيوني ، بعد قضاء محكوميته فيها ، حتى تلقفه سجن عربي ، بتهمة أنه مناضل من أجل
تحرير فلسطين . لبث في السجن العربي طويلا . عذبوه هناك ، حتى أفقدوه عقله وذاكرته
، ثم أفرجوا عنه . ليتشرد في الحارات والأزقة العربية الأخرى . ( صفحة 92-93 ).
من هو أبو عرب الآن ؟
على خلفية ومفارقات ما كابد
أبو عرب وما يزال ، من حلف الصهاينة -
والمتصهينين ، بات بمظهره الخارجي وشكلانيات منطقه ، موسوما بالجنون . ضائعا في
المتاهات العربية . ولكن ، رغم كل ما يتعرض له من تداول المناخات السياسية ، لم
يخلع معطفه العسكري المرقع ، ولا قبعته
الجيفارية المهلهلة . وهنا تود القاصة أن
تقول ، أن الثائر الفلسطيني ، رغم كل ما كابد من أعدائه ومن خصومه ، لا يزال متمسكا بخياره المسلح ( المعطف العسكري
المرقع ) ،وثوريته الأممية (قبعته الجيفارية المهلهلة ) .
( صفحة 91-92 )
ومن النقاط اللافتة في عرض
د. سناء لشخصية أبو عرب ، ذاك التطابق في سلوكه ، رغم مكابداته الفردية ، وحقيقة
مواقفه العملية من جهة ، ومنطوق خطابه
الهجائي والتخويني ألمخادع من جهة أخرى .
فقد رسمت الكاتبة عبر هذا
التطابق خواطرها في توصيف ما حدث ، ومواقف الأطراف التي شاركت في صنع ما حدث .
بذرت الكثير من الأسئلة . وأسقطت ألكثير من علامات السؤال . وأشهرت وميض أجوبة على
النحو الذي يلقي ضوءً مفسرا لبعض وقائع التجربة الفلسطينية في المنافي .
أما زال حيّاً على قيد
الحياة ؟
في زمن الانهزام والاستسلام
العربي ، تغيرت الوقائع المادية في بعض الحواضن الرسمية حتى قتلوه على قارعة طريق
عربية . ( الصفحة 93 ) .
ولكنّه كطائر الفينيق لا
يموت ، رغم ما يلفه من مآسي الإحباط ، يبعث حياً من رماده ، المرة تلو الأخرى ( الصفحة 95 ) . ليتسلل يومياً إلى فلسطين ، متشبثاً
برمزيات العصر الذهبي للنضال . يمتشق جمر
الاستشهاد اليومي ، ليرمم به نفسه
المأزومة وروحه المعذبة . ويعطيه الأمل وقوة البقاء . من أجل هذا ، بات أبو عرب
متواجداً في كل مكان من فلسطين وفي
المنافي ، بطل أسطوري يتحمل مسؤولياته تجاه وطنه . يقارع العدو رغم عصر الانهزام
والاستسلام ويهابه العدو ( الصفحات 94-98 ) . لم يعد فردا مخلوعا من محيطه ، ولا
من بعض دواخله ، ولا فاقداً لطعمه أو منتهي الصلاحية .
بات في كل ثغور الصمود ومقارعة المحتل . أضحى يملك كل الأسماء . ويسكن جميع الوجوه والأعمار .
ويحكي بكل اللغات .
ماذا يفعل ؟
الكاتبة وهي محقة ، مفتونة
بقلب أبي عرب ، المتقد بحب فلسطين . تحاول دون مغالاة ، توظيف جملته الاتهامية في
محاربة التواطؤ والتخاذل والإلحاد النضالي والعدمية السياسية . بات أبو عرب ، هو
المعبر الحقيقي ، عن تطلعات الفلسطينيين وطموحاتهم وآمالهم . يلعب دوراً أساسياً
في تشكيل وعيهم الجمعي . يقارع الظلم اليومي . يسعى إلى التحرير ، بالتنوير واستنهاض
ألهمم ، بانتظار اللحظة الأنسب .
عاش "أبو عرب" ،
عازفاً عن التنظير ، وعن الشرح الصريح لكل موقف . يضع بعض النقاط على بعض الحروف .
ولا يسمي الأشياء بأسمائها الحقيقية . مدركاً في سياق التجاذبات العربية ، محاذير
المشي على أكثر من حبل عربي مشدود ، من قبل قوى غير متجانسة . فاعتمد خطاباً
تعبوياً ، من جملة اتهامية واحدة . يلامس المستمع حرارتها . ويحفظها عن ظهر قلب .
فأبو عرب يصف أحداثاً وأنظمة حكم وقادة ، على النحو الذي يمكن أن يثير امتعاض
الكثيرين من الوارثين لمواقعهم . ففي جملته تلك ، أينما أشهرها، ظل أبو عرب ، على
الرغم من تبدل الأحوال ، ملتزماً بما تشير إليه من وقائع مثلما يراها.
تستهل الكاتبة خرافية أبو
عرب بجملة أدبية جميلة ، مغرقة في الرمزية والتأويل والتعليل . ممزوجة بعنصر
التشويق . لتشد المتلقي إلى مغزى القصة : " باعوها بعلبة سردين ووقعوا "
( صفحة 91 وما بعدها ) . ثيمة عميقة ذات أهمية خاصة . تسمح بالنفاذ عبر عتباتها ، إلى
لمتن الحكائي للقصة . تقودنا إلى بعض اللقطات . وهي تدخلنا إلى مطبخ السياسة
العربية ، في زمن الثورة الفلسطينية .
الغموض المكثف ، في هذه
الجملة الافتتاحية ، مثقل
إلى حد كبير في الاتهامية التقريرية . وهي تذكر عناصر البيع ، نلاحظ أنّ القاصة
بدأتها بذكر الزمن ، وهذا الزمن ممتد منذ بداية النكبة ، حتى الآن .
جملة اتهامية افتتاحية كهذه ، تحتوي حزناً شفيفاً، يخالج
القلب والوجدان… تخدم فكرة النص عامةً ، والإيقاع العام لكل قصص المجموعة . يكتفي أبو عرب بجملة واحدة اختارها بعناية
على سبيل المشاركة لا أكثر . ويصمت اختيارياً عن التلفظ بأسراره . ليأتي غموض صمته
، ليس منفصلا عن تلك الجملة الملتبسة ، بل كامنا في ثناياها .
فيتحول المسكوت عنه اختيارياً عند أبي عرب ، إلى
قول ضمني لدى المتلقي الفطن . ويعمل عبر آليات الإحالة الداخلية في النص ، بواسطة
التلميح والافتراض ، على إفهام المخاطَب شيئاً دون كلام .
هيمنت الكاتبة في نصها على
عوالم أبو عرب . وتوارت خلف أشكال وتجليات عديدة ، من صمته الاختياري وصمتها الاضطراري
. لتوهم المتلقي بحياديتها . ولكن ، عواطفها نحو شخصياتها ، لم تنجح في التخفي .
فهي لا تقف عند ظاهر أفعالهم ، بل وهي تصف أفعالهم ، تحكم عليهم دون إطناب . وفق
رؤيتها كساردة للأحداث وتواترها داخل النص
، لتكمل ما لم يقدر أبو عرب عن قوله أثناء تواصله مع الناس ( الصفحات 97-99 ).
خلاصة الكلام
ونحن نودع انثيالات المبدعة
د. سناء في تجربتها الإبداعية هذه ، أقول إنّ
تجليات وعيها السياسي وذخيرتها المعرفية ، وإرثها الثقافي ، نجحت بسحر أسلوبها
ألمتميز ، في بناء هياكل نصوص سردية ، تحاكي الواقع وتناجيه . وفي أن ترتقي
وتتماهى برسائلها نحو مغاز عميقة في فضاءات العمل من أجل فلسطين . وفي أنّ تصهر وجداننا
، في أتون ما يطل علينا ، من شقوق ما يعانيه أهلنا من عذاب متوسع ، نابض بأسى
المكابدة ، في وطن ذبيح .
تكمن أهمية " حدث ذات
جدار " ، وفلسطين في مفترق الخناجر، وفي فالق الزلازل ، وارتداداتهها
الصهيونية والمتصهينة ، بما إشتمل عليه من صرخات غضب مدوية قوية ، في كل الاتجاهات
التي شاخت وهرمت ، وانطفات فيها جذوة العزيمة والنخوة والإرادة اللاهثة وراء
السراب .
تتجاوز المبدعة زمن الحدث ومكانه ، فتحول شيئاً
من الواقع إلى رصاص مشفَّرٍ عارمٍ فاعلٍ
، ينبعث منه تحدي البقاء والأمل
اللامتناهي ، في خلق وقائع جديدة على طول جبهات الصراع .
ولا يسعني ، وأنا كغيري
أنتظر المزيد من إبداعات العزيزة الدكتورة سناء الشعلان ، إلا أن أهمس لها : واصلي
قصفك ، في نفس الاتجاه .علَّه يمزق الكثير من أقنعة الضياع والتشظي الذي يهيمن على
الكثير من مفردات الحياة الفلسطينية ، في
الوطن أو في المنافي .
لكل ما ذكرت ، تستحق هذه
المجموعة أن تقرأ بتبصر .
الأردن : 8/12/2017
.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق