2018/09/14

دلالات القهر والاغتراب لدى القاص بدوي الدقادوسي ،قراءة فى اللغة والبناء (الرجم على أعتاب الحياة)أنموذجا بقلم : د.أمين الطويل


دلالات القهر والاغتراب لدى القاص بدوي الدقادوسي ،قراءة فى اللغة والبناء (الرجم على أعتاب الحياة)أنموذجا
بقلم : د.أمين الطويل

  لغةٌ تسبحُ فى الحزنِ، وتقبضُ على جمْرِ الألم، وتسير حافيةً على شوك التمزق، وتشربُ نخبَ الاغترابِ المرِ، تلك التى تباغتُ عين المتلقي بالمجموعة القصصية ” الرجمُ على أعتاب الحياة” (للمبدع بدوى الدقادوسي)، حتى وهى تغترف من فيض الرومانسية الحالمة، أو تهوم فى فضاء الفانتازية العاشقة بصدر المجموعة. فالعاشق الذى انتظر ألف عام ؛ أملا فى حصد غرس الانتظار، وبذار القلق والترقب لمحبوبته، لم يجن غير صوت فيروز يصدح منبعثا من شريط للكاسيت ، يستحضر من خلاله صورة نصفه الآخر الذى آل لغيره ولأولادها  الصغار، فاستحالت مـحبوبته أداة مُسخرة تجلب الطعام الذى يسد رمق أفواههم النهمة، حتى لو كان هذا الطعام من مخلفات أطعمة البشر(حبيبي تركت في صحن بيتي صغارا يتضورون جوعا، ومن جوعهم أشعلت تحت الماء يغلي الحطب. أشاغلهم عن جوعهم بالأمل. ولا زلت أبحث عن لقيمات خبز في مخلفات البشر.لقد أزرى بكِ الدهر وبال على ثوبك الطاهر هذا الزمن. ألستِ من أطعم العالمين بقمح يفيض على كل الوطن؟ ، هَمّتْ تروح سريعا؛  فقلت: يا حبيبي انتظر…..قامت تسابق خطاها وناديت لعلكِ ترجعين ولو بعد ألف عام أنا هنا أنتظر –فقالت: تأخرت وقلب وليدي من الجوع انفطر…..فألقتْ شريطا وقالتْ حين تريد أن تراني اسمعه.عدت سريعا أدرت الشريط جاءني من بعيد صوت فيروز..(بعت لك يا حبيب الروح بعت لك روحي وقلت لك مادام هتروح خد معاك روحي) .
من ثم فلا خيار مع الحزن سوى اللجوء لعرافة تستشرف مستقبلا  غائما يلف الشخصية بثوب ثقيل يصطبغ بألوان الرجاء الغائمة…. و أصبح خيار الذات الساردة السادرة فى الهم أن تبقي رهينة الأسي،  وصيْده الثمين وفق ما قررته تلك العرافة ، قالت لى العرافة(وآلام ظهرك لن تنتهي إلا مع آخر نطفة فيه, ينبت منها ولد يزرع شجرة تورق عدلا يملأ كل الكون، ويذبح الظلم ويلقي جثته للسباع وينير السرداب، ويُصلب على يديه العذاب.. كنت أحلم بالشفاء.ولهذا جئت إليكِ الآن….قدرك يا ولدي أن يحمل كاهلك كل عذاب وآثام البشر) وتنفتح جرار الأسي لتسكب وجع الذات وهى تروى مأساتها موظفة تيار الوعى الذى يستخدم غالبا لحظات التشظى والانكسارلروح مأزومة مهومة  بكل درب بحثا عن خلاص.. ناهيك عن تجسيد المفردات والتراكيب حالة من الهذيان والثرثرة بأصوات متعددة باعثها الرئيس سلطان التذكر.إنه هذيان التداعى الذى يكتسح الحاضر من أمامه ويمنح الماضى موقع الصدارة فى الحكى، وفى التشخيص لصراع الفرد بين إقبال وإدبار.
ويتوكأ  المبدع على عنوان أو عتبة سردية  غاية فى الخداع والمراوغة(من زمن المص إلى زمن اللحس) فعلى الفور يسيل لعاب القارئ المتطلع لحرارة المتن السردي  لقصة إيروتيكية ملتهبة، ويشمر أذرع الخيال لالتقام تفاصيلها  المثيرة، بيد أن اللحس غير اللحس والمص يجاوز ما اعتادت تجسيده أفلام الإثارة وسينما الابتذال ، إنه الحرمان يعض احتمال الطفل الصغير البائس بكل  ضراوة ووحشية (.. يقولون حين ولدت حاولت أمي أن تجد في ثديها لبنا لإرضاعي ؛ فلم تجد ؛حالة غريبة أثارت دهشة القابلة ! فهي تعرف أن والدتي ولود ومرضعة ؛ومع مرور الوقت وفقدان الأمل في نزول قطرة واحدة أشارت عليهن إحدى جاراتنا أن يسلقن حبات أرز ويأخذن ماءه ويخلطنه بقليل من حليب الماعز ويقمن بإرضاعي ؛ فكانت أمي تعطيني ثديها لأكتفي بمصه….محاولة أن تناغيني وتضحكني فلم أستجب) مكملات أخر تضيف لحيوات الذات التعسة مع امتداد القص شحوبا وقتامة…منها القهر الذى تعرض له أحد الإخوة الصغار من الأخ الأكبر الممسك ، والقابض  على مقاليد أمورالأسرة وزمام مصيرها :
(ولكن أخي الأكبر غير الشقيق كان جادا عبوسا نرتعد منه ولانضحك فى حضرته بهذا يحضر الحزن في كل المواقيت، بل يؤكد سطوته في كل حين، على اعتباره كائنا فاعلا قادرا على تغيير الواقع تغييرا كاملا، فاعلا لا رجعة فيه ! إنه يلف الكائنات كلها في أرديته الضبابية التي تُحيل على الوجود، بإقرابه وإبعاده ! فيفضي بها إلى عوالم غير معهودة.
 فضلا عن الغبن الكبير الذى تعرض له والده الذى مُورِستْ بحقه صنوف الظلم والعسف..لأنه منع  قليلا من الأرز لم يقم بتوريده للجمعية الزراعية..حتى يتوافر لأطفاله الصغار ما يقيم أودهم ويسد رمق بطونهم النهمة.
وتمتد دائرة القهر لتشمل الذات السادرة حتى وهى تتلقى تعليمها متوازيا مع  كدها فى العمل بالحقول والمزارع فى هذه السن الصغيرة مساعدة للأب الفقير المعدم (عجزت عن النوم بملابسي المبللة وفي الصباح اتجهت للمدرسة والأرض الطينية وبرك المياة استوجبت أن أسير ببطء وعلى حذر حتى وصلت المدرسة وقد بدأت الحصة الأولى ؛فجمع المدير المتأخرين كعادته،وجلس على كرسي ونحن أمامه مصفوفين ومن يأتي عليه الدور يضربه بخيرزانه طويلة لاتعرف على أي مكان من الجسد تهوي ؛حين جاء الدور عليّ سألني:اتأخرت ليه ياكلب؟) .
وتصنع المفارقة التصويرة الصورة المقابلة للبؤس وجحيمه…صورة الغنى الفاحش والتفاهة المتورمة للأغنياء بالقرية… وتجسد  اللغة البسيطة واقعا بئيسا لسطوتهم على الفقراء والمهمشين…ومنهم بالطبع شخصية الرواى(لقد استفاد أغنياء الحرب من كل شيء،تاجروا بكل شيء حتى ساق أخي.. إنه عصر الانفتاح ياسيدتي مما جعل هؤلاء الشباب يكفرون بالعمل الجاد، فصفقة واحدة من لحم غير صالح للاستهلاك تفوق في دخلها عمرك كله لو أفنيته تزرع ليل نهار، أو تدرجت بوظيفتك لأعلى الدرجات.كفروا بالنجاح ؛كنت أتوارى منهم لأذاكر فحين ينتصف الليل أخرج بكتابي تحت أعمدة النور وأنا أتلفت حولي حتى لايضبطني أحدهم متلبسا بجريمة المذاكرة ؛لايدخلون المسجد إلا يوم الجمعة فإذا صعد الخطيب المنبر أخذوا يتبادلون النكات البذيئة وترتفع قهقهاتم ويخشى الناس الالتفات لهم لإسكاتهم أو معاتبتهم خشية ألسنتهم) .
ولم تعد المعاناة قاصرة على ما يأتيه البشر  من عنت وجور بحق الأسرة الضنينة…. بل إن القدر هو الآخر أسهم عبر دراميته ومفارقته فى اقتناص الأخ الذى  سافر متنكبا فى أرض الله….بحثا  عن لقمة عيش تبقي على الحياة  ولا تريق ماء الوجه تحت أقدام  الذل… لقد مات الأخ بعد أن داهمته سيارة طائشة أودت بأحلامه فى العيش الهانئ الكريم،  و ذرتها هشيما مبعثرا(صاحب المعرض غدر بأخيك أبلغ عنه الشرطة ؛ولما شعر أخوك بقدومهم فر مذعورا نحو الطريق العام داهمته سيارة طار إثر ارتطامه بها ليسقط خلفها لافظا أنفاسه وفرت السيارة هاربة !! آآه ياسيدتي ؛لم أر أشلاءه لم أره وهو يدفن ؛ لقد فر من أخيه ليحتضن الموت) .
والثيمة الثانية فى المجموعة أو الخيط البارز  توغل المكان فى مخيلة السارد…وهو القرية التى لم تبرح تفاصيلها الصغيرة والكبيرة وعيه، وبدت مكانا ضيقا يضيق عليه ويعتصر هناءته… تاركة لغير رجعة  صورتها المحببة المعتادة فى النفوس… فالطفولة يراق دمها الطاهر بتلك القرية… يبرزه صراخ الطفلة التى اقتادوها رغما عنها لزيجة لم تدرك معناها أو ماهية دورها فيها(جاءت النامصة وأعدت الطفلة للزفاف وحشت صدرها بالقطن ما يكفي لإظهارها في الكوشة كأنثى ومن المساحيق ما يكفى لإظهارها كعروس. وفي المساء كان صراخ الطفلة يشق ظلام القرية ؛فلم تكن تعلم المسكينة أنها(عِجْلة) يدور بها الجزار في شوارع القرية والأطفال خلفه يزفونها قبل الذبح)) فالقرية ذاك المكان الهانئ الذى كان مناط الفخر بطهر ناسه ونقاء سريرتهم مقارنا بزيف  المدينة وضمور قيم المحبة والترابط  بها أضحت مرتعا لسرقة مواد البناء وبيع أقوات المساكين من السلع المدعومة..فضلا عن كونها مكانا للمتعة الحرام لمن أراد أو رغب (بين العمال جلسنا؛ ومعهم صعدنا المقطورة ؛ألقي بسمعي لحكاياتهم عما حدث ليلا بالقرية ,فليل قريتنا مسرح لأحداث لاتنتهي،فبعد صلاة العشاء يزحف كل ٌ لغايته ؛ شيخ الخفر يجمع الخفر ويسرقون مواد البناء المخصصة للصرف المغطي الذي تشقه الحكومة في الحقول لخفض منسوب المياه الجوفية الذي يهدد خصوبة الأرض الزراعية ,وخليل صاحب البقالة التي توزع السلع التموينية تأتيه السيارات من البندر لتحـمل أجـولة الدقيق المدعـمة لبيعـها في السـوق السوداء ؛ والمعلم عبد الستار يتسلل لمضجع نعيمة التي تفتح بابها للراغبين)
 
يضاف إلى ماسبق تلك اللوحة الآسنة العفنة التى تصف المكان كأبشع مايكون الوصف فالروائح الكريهة تنبعث من كل مكان في الغرفة؛ بقايا أطعمة؛ جوارب ملقاه من شهور؛ ملابس غيّر العرق والزمن لونها ؛ يتمدد على فراش في جانبها الأستاذ عبد الناصر الورداني ؛ يحملق في سقفهاالذي تتحرك فيه العناكب بأمن ) .
ويجسد القاص صورة أخرى من صور ضيق المكان وضغطه على الشخصية ودفعها دفعا للانتحار..فقد أسهم بمؤازرة قهر السادة الغلاظ..أصحاب الحظوة  والغنى فى إسلام الشخصية للانتحار… فارة بما تبقي لديها من رفض للمهانة والانسحاق(ملأتُ الحوض ماءً فاترا وسكبت الشامبوهات مراعيا النسب التي طلبها ؛هممت بالخروج فور قدومه أشار بيده أن أغلقْ الباب وانتظر هنا. تجرد من ملابس نومه؛تمدد في( البانيو)مستلقيا على بطنه.بعد دقائق أشار لي بالاقتراب وقفتُ على بُعد خطوتين،فأشار بالاقتراب أكثر  وقال:ارتكز على ركبتيك واستند على حافة(البانيو)وقم بتدلك ساقي بما تراه أمامك ؛ لم أصدق عيني ! مستحيل !!أكاد أفرغ ما في جوفي.. قطع البراز تطفو سابحة حول جسده،انقلب على ظهره أطلق ضحكة وقال:امسك بيدك قطعة وادعك بها ساقى ظننت أنه يختبرني ليرى مدى اتزاني انفعاليا ,ظللت أنظر إليه تارة وللروث تارة ؛صاح آمرا:  انتهي ؛ليس لديّ وقت. يدي ترتعد ؛تتحرك رويدا رويدا باتجاه الروث ؛لم أعرف معنى كلمة الدعاء بحرقة من جوف الروح وسويداء القلب إلا هذه اللحظة ,, يا رب شل يدي..يارب اقطعها ؛لست أدري كيف أمسكتُ بها وكيف دلّكت ساقيه؟وكيف سكبت كميات( الشامبو)؟  فور انتهائي من التدليك ؛ناولته ثيابه وتأكدت من  إحكام رابطة العنق. وانطلقت لغرفتي ؛عافت نفسي الطعام طوال اليوم؛ رحت في غفوة أشبه بالغيبوبة ؛حتى  صباح اليوم التالي ليتكرر اختبار الموت والتقزز؛  وكلما انتهيت تمنيت لو أثقب الجدران وأهرب أو يسخطني المولى لذبابة تطير من فُرَج النافذة ,كيف أهرب وأين؟…ربَتُ على كتفه محاولا سحب كلمة من هوة مشاعري التي مزق أوصالها تقززي ولكني عجزت ؛عدنا للقرية ؛يغشانا ليل الصمت ؛لم أتركه حتى اطمأننتُ عليه في فراشه ؛ حين استيقظت وجاءني خبر انتحاره ؛صليت ركعتين شكر لله أن فك أسر صديقي بالموت) .
ولا تغيب تأثيرات السياسة عن نصوص المجموعة من خلال حضورها الضاغط على الشخصيات والأحداث فالأب بقصة(من زمن المص إلى زمن اللحس) يـحبس ويضرب ويتورم ووجهه من سلطة  الدولة  الباطشة  لتقاعسه فى توريد محصوله كاملا (حين وصلنا كان (بوكس) البوليس يقف أمام دوار العمدة يشحنون فيه الناس رجالا ونساء فرحنا نبكي وأخبرنا أحد العارفين بالأمور أن أمن الدولة أرسل للعمدة قائمة بأسماء المتهربين من توريد الأرز للجمعية الزراعية، انطلق أخي صوب الضابط ليؤكد له أننا قمنا بتوريد حصتنا ومعنا وصل بذلك، ولكنه لم يعره.انتباها ) والأخ بذات القصة لقى حتفه بعد أن فرطت الدولة بحقه وتركته نهبا للإهمال والتجاهل بعد أن فقد إحدى ساقيه فى الحرب -شأنه شأن الكثيرين – الذين ضاعت أعمارهم سدى بحفر الأهرامات وقناة السويس(ظل أخي بالخدمة ثلاثة أعوام، لا نراه إلا نادرا وفي السنة الأخيرة لم نره ؛ علمنا أنه محاصر في(الدفرسوار) وفجأة في منتصف الليل قمنا على قرع للباب فكدنا نموت فرحة حين وجدناه. لفت انتباهنا أنه كان على عكاز يتحرك وانتبهنا لنجد ساقه اليمنى مبتورة. صحيح أرسلته الدولة لفرنسا مع مصابي الحرب للعلاج ولكنه مات بعد شهرين من عودته مع أنه كان يمتلك قدما صناعية أشبه تماما بالطبيعية.مات ولم يسجل اسمه بين الشهداء.. هل يذكر التاريخ أسماء الجنود الذين يموتون في المعارك؟ هل يذكر التاريخ اسما واحدا للذين ماتوا وهم يبنون الأهرمات؟هل سجل التاريخ اسما واحد لمن ماتوا تحت لهيب الشمس في حفر قناة السويس)
 
إن الفقراء كما يشى منطوق إحدى شخصيات المجموعة بقصة(بين العجزوالحيرة) خاضعون لاشك لمشئية الحاكم المتجبر وسلطة مؤسساته القاهرة (الفقراء في الدول الرأسمالية مسيرون والأغنياء مخيرون ؛وفي الدول المتخلفة كل البشر مسيرون لمشيئة الحاكم)
 
وبقصة(الموت بين أحضان الكفيل) صورة سوداوية أخرى لما فعلته سياسة الحكام بدول العالم الثالث..لقد تركوا لرحمة الكفيل فى بلاد النفط..فالمدرس فى القصة يموت كمدا فور إبلاغه من كفيله بإنهاء عمله بالرغم من إجادته وثناء مشرفه عليه،  وإخراجه نهائيا  من وطن اغترابه وإعادته إلى وطنه الذى سلبه كل مقدراته ويصنع القاص من خلال اللغة عالما فانتازيا موحيا…وهو يصور يد  جثته تضغط على رقبة الكفيل دونما قدرة لأحد على نزعها حتى بعد أن قطعت, ينبت مكانها ثلاثة أذرع طويلة تلتف حول رأس الكفيل وتحول دون إنقاذه(كاد الذهول يقتل الواقفين حاولوا فصل ذراع الشيخ عن الرقبة فشلوا خرج أحدهم عليهم بقوله:اتصلوا بشيخ المسجد الكبير( للديرة )واستفتوه.
افتنا ياشيخ لقد التفت يد الميت حول رقبة الكفيل حاولنا فكها عجزنا.تقدم الشيخ ناحية الجثة قرأ آية الكرسي ؛ ازدادت الذراع التفافا حول الرقبة…والكفيل يكاد يلفظ أنفاسه, قال شيخ المسجد الكبير: (الحي أبقى من الميت)  اقطعوا الذراع. فقطعوها وما كادوا يفعلون حتى نبت مكانها ثلاثة أذرع طويلة التفت حول رأس الكفيل ورقبته ووسطه فالتصق بالجثة التصاقا تماما والناس على صيحة واحدة:الله أكبر) .
ومن الخيوط اللافتة أو الثيمات البارزة التى  تتوزع بين تضاعيف  المجموعة خيط المرأة متفاوتا حضورها سلبا وإيجابا..نورا وإظلاما… فعلا وانسحاقا……فبدت تارة حلما مستحيلا يعجز فى الوصول إليه , كما بقصة أنتظرك من ألف عام……فقد كبلها أطفالها المتضورون جوعا وقيدوا فاعليتها الدلالية ؛ ومنها حلم  اللقاء مع من أحبت…وبدت أُما مخلصة مضحية كما بقصة (من مذكرات بطل صغير)…وحملت على عاتقها طورا ثالثا  مر المعاناة  في مجتمع لا يرحم أو أسرة تحكمها منظومة القهر(الأخ الكبير) كما بقصة (من زمن المص إلى زمن اللحس ) (تنهدتُ طويلا فلقد ذكرتني بهذه المسكينة التي تخشى ولدها وتتحاشى صدامه حتى لايصرخ في وجهها سابا أباها ولامانع من دفعه لها فتسقط على ظهرها باكية.
ولكنها بعد أيام تسللت نحوي باكية مش هتشوف أخوك فين)؟ قلت سأذهب للسؤال عنه ؛ناولتني قرطها وقالت اعطه هذه الأمانة)  المجتمع لايرحم ولا يتيح لها الحق فى الزواج بعد وفاة حليلها….بل تركها نهبا للتفكير والحيرة تأكلها نار الداخل…. مثلما أجهزت على احتمالها وفاعليتها نار الخارج…فبقصة ( الجلادون) تروى معاناتها من خلال حديث الراوى عنها (سياط الناس تلهب ظهرها لو فكرت في الزواج وتجلب العار لبنات عائلتها ؛ فتنبو عين الخطاب عنهم للأبد.لقد كان إزميل الموت قاسيا حين حفر بعقلها ألف علامة تعجب واستفهام وحيرة ؛كيف ستزرع أرضها؟كيف ستقف بين الرجال؟ وكيف يكون الزرع؟ وكيف يكون الحصاد؟ وهي التي لم تخرج من بيتها من قبل ولو غادرت حارتها تتوه؟ وابنها الوحيد لايعرف إلا لعب الكرة في مركز الشباب وابنتها التي لم تتم العاشرة لاتعرف إلا الطريق لمدرستها *(ومن ملامح) تجليها  المغاير للسائد صورتها زوجة لا تقنع- جسدا وروحا – زوجها وتقنع صديقه المقرب..ففى قصة( بين الضلع والوتر) لا يقتنع كلا الصديقين بزوجته ويرى بزوجة صديقه حلمه المشتهى ورجاءه الذى أفلت من بين يدى أمنياته… وذهب لغيره… لكن الكاتب يضفى على القصة حكمته البالغة وذكاء تجاربه الجمة… عندما ينهى مصير الزيجتين بالطلاق الثانى  بعد أن تبادل الصديقان الزواج بامرأة كل منهما بعد الانفصال عن حليلته ….وكأنه أراد التأكيد على فلسفة لايدركها الكثيرون وهى( كمال  المرأة غاية مستحيلة)أو(السعادة المطلقة وهم كبير) ومن صور المرأة كذلك صورتها –كخائنة-  تتعرض لظلم زوجها الذى يعجزه عن إدراك حاجاتها الجسدية والروحية فتلجا  من ثم لفضاء الإنترنت بحثا عن حب ينتهى بلقاء محرم مع من عشقت…. ذاك الحب يقودها للسجن ولا تجنى  بعد سقوطها وخيباتها المتواصلة سوى  العار والمذمة والفشل…ومن تجسيدات المبدع لها أيضا صورتها -بغيا -تردم الترع وتبنى المحال والمقاهى العمارات الشاهقة…. بل يمتد دورها الاجتماعي والسياسي ليكون  مضجعها مركزا لقرارات قادة الجماعات الدينية المتشددة(حولت نعيمة عشتها لعمارة شاهقة وأخذت تضع يدها على شاطئ الترعة تردم كل يوم أمتارا وتبنيها أكشاكا ومقاهي ؛لم يتحرك أحد لإيقاف سرطانها ؛ عمّ السخط الشباب كفروا بشيوخهم قصروا الثياب ؛ أطالوا اللحى ؛ صنعوا من أنفسهم قضاة وجلادين ؛أيقنت نعيمة أن الطوفان قادم ؛ذهبت لأميرهم ؛أعلنت توبتها وتنقبت ؛لم يعد زوجها المخمور رجل المرحلة ؛انتظرت حين خروج الرجال من صلاة الفجر ؛أتت بحلة مليئة بالبيصارة وضعت نصفها على فرش زوجها والنصف الثاني رفعت ثيابة ودهنت به مؤخرته ؛صرخت بكت تقاطرت القرية صوب مصدر الصوت ؛ هرب الزوج بفضيحته من القرية ومنذ هذا اليوم وقرارات أمير الجماعة تصدر من فراش نعيمة) ويشيع الاغتراب وهو من الخيوط اللافتة فى المجموعة موزعا بين الداخل….فثمة شخوص تعانى اغترابا على مستوى الداخل يقض هناءتها ويجفف آبار أمنها الشخصي وهى تطالع العالم ,من هذه الشخوص البطل الذى لم يسم فى قصة روث جنسي..إنه ممزق الروح مغترب عنها نتيجة حتمية للقهر الذى ران على كيانه كله وأسلمه لغيبوبة أولا ولتمنى الموت ثانيا ولاشتهاء المسخ فى الأخير لذبابة تطير من النافذة ويضع الاستفهام بنهاية الدفقة خاتمة لمشهد الاغتراب والتشيؤ الذى اعتراه(؛ رحت في غفوة أشبه بالغيبوبة ؛حتى  صباح اليوم التالي ليتكرر اختبار الموت والتقزز؛  وكلما انتهيت تمنيت لو أثقب الجدران وأهرب أو يسخطني المولى لذبابة تطير من فُرَج النافذة ,كيف أهرب وأين) وقد يمتزج اغتراب الداخل والخارج معا فى عناق عبر فضاء سليكوني هو فضاء الانترنت وذلك بقصة(الموت بين أحضان الكفيل)…فالزوجة مغتربة عن جسدها وروحها بالداخل..ينهشها ذئب الحرمان الضاري(حرمانها من دفء الزوج) والزوج فى المقابل مغترب عنها بجسده…آلة تبحث عن المال بين بقعة زيت متجبرة فى بلاد الخليج والفضاء الوحيد الذى يلم شتات أنفاسهما اللاهثة للحظة انصهار وتوحد هو فضاء شبكة الاتصالات العنكبوتية بإحدى غرف الدردشة..وتضيع مسؤولية الغياب بين لجج حديثها الظامئ حيث يدفع كل منهما تهمة الغياب(جلس على فراشه ألقى برأسه على الجدار بالأمس في حديث ملتهب مع زوجته على (الياهو)أكدت له أنها لن تتحمل الوحدة عاما آخر وعليه أن يعجل في إنهاء أوراق استقدامها. أكد لها وهو يلامس بيده جسدها شبه العاري على الشاشة: إنه أكثر منها شوقا؛  ولكن ما باليد حيلة فأنا لم أسدد نصف ديون الزواج التي أضيف إليها ديون السفر. ياه يوم سفري تجمع أصدقائي لتوديعي..قال أحدهم:ربنا يعوض عليك يا شيخ فراج.في العشر سنين اللي اتسجنتهم ظلم وضاع فيهم زهرة شبابك طول عمرك دماغك ناشفة قولنا لك احلق لحيتك(..ويواصل القاص  تكريس غربة شخوصه الممتدة بين مسام المجموعة بقصة أخرى(بطانية…مورا)ويستهل فيها الكاتب سرده على لسان الشخصية مبرزا دوافع الاغتراب الذى يغطى على ماسواه من الحرمان من الأهل والولد..فالراتب الكبير يسيل لعاب أى متطلع للثراء والانتقال من سكنى الفقر إلى عتبة الغني(.رغم أن هذه أول مرة أركب طائرة…إلا أن بكارة التجربة لم تتملكني فلقد سرقت حسبة الراتب كل اهتمامي العقد ب320 دينار والدينار ب20 جنيه مصري يعني سأستلم 6400 جنيه مصري كل شهراستمرت رأسي مستغرقة في الحساب يعني في الستة سأستلم 76 الف جنيه و800..أي سأتسلم في عام مازيد عما تسلمته طوال خدمتي التى امتدت 17 عاما ب21800جنيه)  وتضطلع اللغة برسم حالة الضعف وهزال الاهتراء اللتين آل إليهما مصير البطل…كاشفا عنهما  منولوجه الداخلي(في جحيم أتلظى…. الحصة مقدارها ألف يوم مما يعده الناس واليوم دهور. ونهايته حلم.أصبحت بلادي بعيدة والعودة إليها مفقودة) ولم يكن الفقر والبحث عن لقمة العيش المغمسة بالذل سببا وحيدا للاغتراب…فالثراء هو الآخر بقصة(قسيمة وفاة عرفية *) صير البطل العائد من أروقة النجاح والثراء فى الولايات المتحدة لفاقد لأواصر القربي مع أقرب الناس إليه..فأخته التى انتظرت أن تجنى من وراء عودته ثمار شبابها الضائع ذودا عن نبتها الشقيقة والتى يرهص السرد بالإفصاح عن تضحيتها(. سرق نشاطها وذكاؤها ويتمها تعاطف الجميع..تربي الطيور في عشه بمدخل البيت وتذهب بها للموظفات من نساء القرية في بيوت تعد على أصابع اليد وتنفق من ربحها اليسير على ابن أمها وعزوتها في الحياة. سار قطار حياتهما بلا محطات على وتيرة واحدة هي لطيورها وهو لمذاكرته) هذه الأخت كان جزاؤها الأوفى : الطرد واللعن من أخيها بعد أن نعقت طيور عزته بوجهها عند ذهابها لزيارته(..فتجنب حتى الذهاب للمسجد ولما زارته أخته يحدوها الفخر والفرحة تجر خلفها أبناءها الستة ضج من همجيتهم ولهوهم بالتحف الثمينة ؛ طردها وطردهم خرجت تتكفى لاترى أمامها من البكاء) أما عناوين قصص المجموعة أو عتبات نصوصه ومرسخات متونها  فهى عَتَبة مهمة للولوج إلى بنية النص السردي، فليست طارئة عليها  أو متطفلة على أنساقها العميقة المتشظّية، وإنما هى نابعة من أعماقها، ومشتبكة بأحداثها.وتتراوح العناوين  ما بين الإسمية والفعلية ,فمن العناوين التى اتخذت بناء الجملة الإسمية(ثلاثية الفناء ,الجلادون , صفحة من مذكرات بطل صغير, – روث نرجسي, نعيمة ,الرجم على أعتاب الحياة, شجرة الزقوم….إلخ) ويطرد فى المجموعة تقدم الجار والمجرور أو الظرف متشحة برداء الإسمية ومنه(من زمن المص إلى زمن اللحس, بين العجز والحيرة, بين الضلع والوتر, على حافة ضلع الدائرة ) .
 أما العناوين التى تتخذ بناء الجملة الفعلية، فلم تكن بنفس درجة الإطراد والشيوع ومنها(قالت لي العرافة, أنتظرك من ألف عام..) وتصطبغ عناوين المجموعة بصبغة الحزن ويشكل أغلب ألوانها السواد والألم ,فلا غرو أن تجد عناوين منها(الجلادون, بين العجز والحيرة ؛الرجم على أعتاب الحياة, شجرة الزقوم, الموت بين أحضان الكفيل, قطار العمر لايقف في محطات,, حين بكت سيارتي, قسيمة وفاه عرفية).
 واللغة فى المجموعة تبدو يسيرة الفهم سلسة رقراقة, مفعمة بطاقاتها الدلالية المناسبة لمضامين نصوصه لكن الكاتب يعمد فى بعض قصصه إلى  شحنها وشحذها بغير قليل من الانزياحات والاستعارات والصور الجمالية المكثفة ,من تلك الصور الرائعة التى تؤكد براعة الكاتب اللغوية فى توظيف اللغة بمستوياته العميقة (حين أطل في عينيك أشعر بأني أطل من شرفة على النيل أرى منها… كل البشر. سواد عينيك حزن على ماضٍ أليم وبياضها أمل في غد بعيد, فما أنا إلا صعلوك يحارب الأيام ويفني المحن يجوع أحيانا ويشبع حينا ويقضي الثواني يناجي الأمل, أصبحت على شفى حفرة من الإفلاس والجوع,.لقد كان إزميل الموت قاسيا حين حفر بعقلها ألف علامة تعجب واستفهام وحيرة)وتنحو اللغة صوب العامية فى بعض النصوص ملتحمة بحرارة الشخوص, مجسدة لمنطوقها وجوانبها الاجتماعية والنفسية ورصيدها المعرفي , فنجد مفردات عامية على شاكلة(ربنا يستر ؛ الله يرحمك يا جمال., خليك في نفسك, الغلط فين, مش هتشوف أخوك فين؟ ورجعوا بقرشين حلوين, الشغل مش عيب وإن ماكانش عاجبك خدها معك,:الحجارة أحن عليّ منك ومن أبيك.سأموت مرة وأتركك تموت بعارك كل يوم., شيء لله يا شيخة زاهية ’ خير يافندم: الوكيل قال لي:إن حضرتك عايزني…..إن شاء الله خير.ترى ياولدي كل شيء بيد الله ولكن حنا ما نبيك معنا السنة الجاية., ترى ياولدي ما لي شغل بالسوالف,  أقصد سبت بلدك ليه.؟ أمك دعيالك  ؛ أما يناموا أحسن ما يتهاوشون) وترتفع اللغة حينا لتحلق بأجواء علوية ميتافيزيقية منسجمة مع السرد وطبيعة الشخصية ممسكة بجلباب الرمز ومفسحة الباب لأكثر من فضاء للتأويل , فالحوار بين حبيبين فى قصة(أنتظرك من ألف عام) ينعتق من ربقة الزمان والمكان ,فيدخل تحت عباءته الشفيفة زمرة من العشاق والمحبين فى كل صقع ووقت(حين التقينا، ومن ألف عام لم نلتقِ، تعانقت الأعينُ وكان السؤال على شفتينا. كنت أجوب البلاد وأتصفح الوجوه في الأسواق والمحافل لعلي أراكِ أو أعثر لكِ على أثر.. انتحينا جانبا يتأمل كل منا الآخر.حين أطل في عينيك أشعر بأني أطل من شرفة على النيل أرى منها    كل البشر. سواد عينيك حزن على ماضٍ أليم وبياضها أمل في غد بعيد.
قالت مبتسمة: أما زلت شاعرًا؟
قلت حزينا: ليتني كنت شاعرًا !فحين ألمس يدكِ يسري دفءُ الشتاءِ في كل البشر وحين تبكين يعانق دمعك الرياح فيسقط هذا المطر.
ههه ألا زلت تحلم؟؟
أعيش على الأحلام من ألف عام من يوم فارقتني وأنا لأميرتي أنتظر. وفي كل يوم أجوب الحواري أجيل النظر.
-تعبت ياعمري وكان عليّ أن أعتذر.
-أتعرفين أن ما ببلاد الخليج من نفط هو شعرة سقطت من رأسك وتحللت من ألف عام وأن ما بها من خضرة هي قطرة عرق سقطت من جبهتك فعاش عليها كل الأنام؟
وحين امتدت راحتك لتمسح جبيني فارقت البشرية كل الآلام؟–إنك لأنت يوسف.
أين أنا من يوسف الصديق!! أواختلط عليكِ الأمر لطول الزمن؟؟
فما أنا إلا صعلوك يحارب الأيام ويفني المحن يجوع أحيانا ويشبع حينا ويقضي الثواني يناجي الأمل) واللغة تحمل الشخصية بقصة(قالت لى العرافة)على جناح الاستشراف وترفعها لمصاف الأنبياء والرسل ,متكئة على عصا النرجسية والأنا (ستكون المسلم الوحيد الذي يحمل الصليب ويذهب لنهر الأردن ليعمد البشر….حينها فقط سيرقد يوحنا المعمدان مستريحا في قبره فقدحملت عن كاهله هموم كل البشر. وستكون الراهب الوحيد الذي يعشق النساء ويدخن التبغ. وستأتي بالنسخة الأصلية لإنجيل يسوع وتقود جيوشا من صلبك ويباركها الرب ؛  نعم . وآلام ظهرك لن تنتهي إلا مع آخر نطفة فيه ينبت منها ولد يزرع شجرة تورق عدلا يملأ كل الكون. ويذبح الظلم ويلقي جثته للسباع وينير السرداب. ويُصلب على يديه العذاب  .
كنت أحلم بالشفاء.ولهذا جئت إليك الآن قدرك يا ولدي أن يحمل كاهلك كل عذاب وآثام البشر).
إذن فالصورة لها أضواء عجيبة وأنوار هائلة تخترق عقل وقلب المتلقي، فكأنه يشعر في أعماقه بأن تجربة المبدع هي تجربته، ويتقلب وجدانه ألمًا وأملاً تبعًا لما يبثه المبدع من ومضات الفرح أو أنواء الشجن والانكسار في أدبه، وهنا يتجلى الفارق الكبير ما بين الإيحاء والوصف المباشر، فوصف الشيء قتل له، وفي اللمح سرالحياة. أما الميزة الثانية لانزياح اللغة  فى المجموعة فهى التركيز الذى يعنى  شحنة كبيرة من الفكر والإحساس فى حيز قليل من اللفظ وذاك مما يكسب العبارة اكتنازًا وقوة نفاذ، وأن يكون لهذه الشحنة مدىً دلاليًا واسعًا، بحيث لا يقف القارئ أو السامع على نهايته، ولا يقدر على الإلمام به – فضلا عن الإحاطة والاستيعاب – إلا  بعد إمعان النظر والتأمل ويبقى مع ذلك معين الدلالة مسترسلاً لا ينضب ولا يستطاع استنفاذه والتمكن منه وإنما هو دائم الاستماع متجدد الطاقة، منبعث الخصب، موفور الحياة، وكأن تحت اللفظ أعماقًا لا قرار لها وأغوارًا دونها أغوار.
ومن صور تشكيل الصورة فى المجموعة توظيف الكاتب للمفارقة التصويرية  وترتكز المفارقة التصويرية على طرفين متقابلين يخلق من خلالهما الأديب صراعا دراميا مؤثرا،  وفن المفارقة ينتسب إلى المجاز  ويعد خاصة أسلوبية  مميزة تحتاج من الأديب إلى مهارة من نوع نادر ؛ لأنها تقوم على ظهور معنى حرفي وآخر خفي فى العبارة ذاتها   وهذان المعنيان يخالف أحدهما الآخر  وهذا المعنى الخفي لا يكتشف بغير التأمل وتدقيق المرامي وهذا الخفاء نفسه يدخل بالعام إلى دائرة الغموض, وتوليد الاحتمالات”والمفارقة من أقوى الدلائل على حرية التصور وقوة النفاذ إلى الأشياء وإدراك كنهها وأغوارها البعيدة  حيث يمكن الأديب الحاذق من خلالها من إدراك المعاني التى لم يسبق إليها غيره” ومن ثم تكون هذه” المماثلة” الفنية سببا للدهشة والإعجاب , استجابة للبداهة المتولدة من كشف التناقض فيما ألفته الطبائع وسلمت به العقول” يعقد الكاتب مفارقات تصويرية جمة فى تضاعيف المجموعة ,بل إنها تشكل دعامة رئيسية للسرد فى المجموعة ,من هذه المفارقات ما تجلى بشخصية نعيمة تلك المرأة الداعرة التى اجتاحت جرافات ذكائها ثوابت وموروثات القرية الوادعة البسيطة ,وراحت تبنى عمارات شاهقة وأكشاكا ومحالا تجارية بالقرية ,بل امتد نفوذها لتسيطر على أقطاب التيار الديني المحافظ فى القرية وتخرج الفتاوى والقرارات من تحت شراشف سريرها الدنس(حولت نعيمة عشتها لعمارة شاهقة وأخذت تضع يدها على شاطئ الترعة تردم كل يوم أمتارا وتبنيها أكشاكا ومقاهي ؛لم يتحرك أحد لإيقاف سرطانها ؛ عمّ السخط الشباب كفروا بشيوخهم قصروا الثياب ؛ أطالوا اللحى ؛ صنعوا من أنفسهم قضاة وجلادين ؛أيقنت نعيمة أن الطوفان قادم ؛ذهبت لأميرهم ؛أعلنت توبتها وتنقبت ؛لم يعد زوجها المخمور رجل المرحلة ؛انتظرت حين خروج الرجال من صلاة الفجر ؛أتت بحلة مليئة بالبيصارة وضعت نصفها على فرش زوجها والنصف الثاني رفعت ثيابة ودهنت به مؤخرته ؛صرخت بكت تقاطرت القرية صوب مصدر الصوت ؛ هرب الزوج بفضيحته من القرية ومنذ هذا اليوم وقرارات أمير الجماعة تصدر من فراش نعيمة) .
 ومن المفارقات الرائعة التى حملتها قصة بين الضلع والوتر تتبدي فلسفة الحياة القاسية التى لا تمنح أحدا السعادة الكاملة ولا الرضا المطلق ,فقد تزوج الصديق زوجة صديقه الحميم ,ظنا منه أنها ستملأ حياته هناءة وتصبح بديلا مشبعا لرغبات الجسد والروح ,لكن هيهات تسير الحياة على غير إرادتها هى وقوانينها الساخرة ,ففى الحوار بين الصديقين الذى انتهى مخضبا بالدمع الحار ما يكشف سرا عميقا من أسرارها الكثيرة(استكمل أشرف كلامه ’تعلم أني تزوجت من زوجتك عرفيا وطلقتها من شهر.اكتفى عبد الناصر بنظرة حائرة.عاد مسرعا للبيت لم يجدها ولا ابنها.تنهد طويلا وراح في نوم عميق وفي الصباح أرسل لها ورقة الطلاق……أفاق الشيخ الهرم من شروده على صوت طرقات عنيفة ,جفف دمعته ,تحامل على آلامه.فتح الباب فإذا بصديقه أمامه.أحتضنه وانخرطا في البكاء) .
ويأتى الاستدعاء أو التضمين أو التناص على اختلاف تسميات النقاد لامتصاص اللغة للموروث  الديني والأدبي..فمن امتحاء الكاتب من المعين القرآني  ذكره على لسان الشخصية الاستثنائية فى القصة والتى تفارق الصفات البشرية لتدخل لمناطق الأنبياء والرسل(وحين امتدت راحتك لتمسح جبيني فارقت البشرية كل الآلام؟إنك لأنت يوسف) ولا يخفى استدعاء الآية الكريمة من سورة يوسف استدعاء مغايرا بمتن القصة ,إذ إن الاصل فى القصة حديث سيدنا يعقوب لابنه لما رآه بعد غيبة واشتم برائحة اليقين كونه ولده .
 وبقصة( صفحة من مذكرات بطل صغير) يستمر امتصاص الكاتب للنص القرآني,إذ يستحيل الطفل الصغير ذو البنيان الهزيل لصاحب كرامات كالنبي موسي,ويتمكن وهو بسن صغيرة من مجاراة الكبار فى أعمال الفلاحة الشاقة(وأعطاني عصا قائلا اضرب بعصاك بقوة على الصفيحة لتطير العصافير التي تتجمع على عناقيد العنب ؛ هذا عملك حتى غروب الشمس.) يتناص الكاتب مع الآية الكريمة بسورة البقرة (إِذِ اسْتَسْقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ ۖفَانفَجَرَتْمِنْهُاثْنَتَاعَشْرَةَعَيْنًاۖقَدْعَلِمَكُلُّأُنَاسٍمَّشْرَبَهُمْۖكُلُوا وَاشْرَبُوا مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ )(60)
ويستدعى الكاتب الشخصيات الدينية ومنها شخصية يوحنا المعمدان من الكتاب المقدس وشخصية  المهدى المنتظر الذى يملأ الدنيا عدلا بعد أن ملأت جورا وذلك فى آخر الزمان…..( حينها فقط سيرقد يوحنا المعمدان مستريحا في قبره فقد حملت عن كاهله هموم كل البشر.وستكون الراهب الوحيد الذي يعشق النساء ويدخن التبغ. وستأتي بالنسخة الأصلية لإنجيل يسوع وتقود جيوشا من صلبك ويباركها الرب…. نعم وآلام ظهرك لن تنتهي إلا مع آخر نطفة فيه, ينبت منها ولد يزرع شجرة تورق عدلا يملأ كل الكون.
ويذبح الظلم ويلقي جثته للسباع وينير السرداب.ويُصلب على يديه العذاب) ويستدعى الكاتب بيت النابغة الذبيانى الشهير كأن مثار النقع فوق رؤوسنا وأسيافنا ليل تهاوت كواكبه للموائمة بين كرب المعركة والكرب الذى تصطلى الشخصية تحت نيره المحرقة..فلا تصادف الشخصية المأزومة بقصة(روث نرجسي) فى الليل البهيم أية وسيلة من وسائل الترفيه أو الإيناس فلايوجد تلفاز ولاحتى قصاصة صحيفة والليل لايتحرك كأنه ليل النابغة الذبياني ولا يقتصر الاستدعاء على الموروث الديني والشعري فقط بل يمتد للموروث الغنائي ,فالشخصية بقصة(أنتظرك من ألف عام * لاتجد راحتها ولا خلاصها من رحلة التيه والفشل فى لقاء من تحب سوى اللجوء إلى صوت فيروز عله يخفف عنها آلام روحها الكروبة(عدت سريعا أدرت الشريط جاءني من بعيد صوت فيروز..”بعت لك يا حبيب الروح بعت لك روحي وقلت لك مادام هتروح خد معاك روحي” كما لا تخلو لغته من استدعاء الأغنيات الشعبية كما بقصة شى الله يا شيخة زاهية(تتمايل مع( الصييت)المنبعث صوته من مكبرات الصوت صادحا:
مشيتْ تدور على الأولاد     **    حُرُم عليها النوم والزاد
وكذلك(يا جودة يا ورك النملة مين قالك تعمل ها العملة؟) إن أكثر المبدعين أصالة من كان تكوينه الثقافي مستندًا على مجموعة من الروافد الثقافية المتنوعة، فالمبدع يتكئ على رواسب التجارب الماضية، ويسترفد من التيارات المعاصرة التي يعيش في أجوائها حتى تتحقق ذاته المبدعة، ويمارس فاعلية الإبداع ونشاطه، والتناص في أبهى صوره ما هوإلا حضور لإشراقات الآخرولاينفي نتاج الكاتب أوالمبدع .
بقى أن نقرر كون الكاتب بدوي الدقادوسي من الأقلام الواعدة التى تختط لنفسها مكانا بارزا مستقلا ووعيا مختلفا  بين مبدعي القصة القصيرة..لكونه يجمع إلى جوار اللغة الرقيقة الرقراقة المقدرة على التكثيف والإيجاز وانتاج المفارقة وامتصاص حيوات الآخرين بقصصه المتنوعة .

ليست هناك تعليقات: