2018/09/21

هديـــــة النسيم فصة بقلم: وفاء محمد أبو زيد


هديـــــة النسيم
وفاء محمد أبو زيد
تفتحت عيناها الفَرِحَة وامتدت نظراتها ناحية الشباك الذى هفهفت عليه ستائر مُوشاة برسومات الزهـــر البنفسجى وتتوسطه عصفورتان مبهجتان بألوان قوس قُزح ..! أبتسمتْ للصبح وقامتْ نَشِطة وكلها حياة.....

ـ يا فتاح يا عليم.... يا رزاق يا كريم ....

صوتها الطيب كوجهها تماماً... ذلك الوجه الصَبُوح الذى يوزع تحاياه على الجميع..حتى القطة التى  لم تهملْ مرة إطعامها وتدليلها مع كل طلعة نهار..

أبنتها التى ترتدى زىّ المدرسة تجلس عند أقدامها بعدما تناولت فطورها فتصنع لها ضفيرة السنبلة التى تجيدها..وفى نهايتها تعقد الشرائط الملونة.... وولدها فى أولى سنوات الجامعة حيث يدرس علوم الطب... ينتهى من ملابسه ويقبل جبينها وترش على ملابسه قطرات العطر وهى تتمتم بالمعوذات وتلوح لهما بيدها حتى يغيبا فى نهايةالشارع....

ها هى تبدأ...شعلة نشاط وهمة....تزّهر بياضاتهم وتنشرها على الحبال فتبدو  مضيئة..  وتفوح من جواربهم رائحة حلوة فى حبل آخـــر...
تطهو أصنافاً شهية الطعام والرائحة ويبدو كل شيئ فى وجودها مريحاً.. مرتباً ...نظيفاً..متألقاً.... تفرد ملابسهم بالمكواة فتصبح صفحة حرير  وترصها فى دولابهم بأنتظام.... ولا تنسى بالطبع تهوية غرفهم وتشميسها..!!
تقودها خطواتها الى باب البيت الكبير وتفتحه... يؤرقها منظر العتبة الرخامية مختفية رسومها تحت ذرات التراب الناعم.. والشارع أمامها تكسوه الأوراق  المكرمشة فى كل مكان.. وشنط البلاستيك الفارغة والمتسخة يتقاذفها الهواء وتصدر صوتاً مزعجاً وهى تبدو من بعيد مثل البالونات... أكياس ( الشيبسى ) وأوراق الحلوى الفارغة تنتشر فى الأركان....

لايعجبها الحال..ويصيبها الضيق للحظة من المنظـــر بالكامل... تسترد بسمتها بسرعة وهى تحكم ربطة الطرحة الخضراء وتتشكل ملامحها بعزمٍ ليس غريباً عنها...

ترش المياه يمنة ويسرة بخرطوم كبير لتمنع ذرات التراب من الأنتشار ثم تنحيه جانباً وتلتقط مكنستها.... وتبدأ...

تجاوز عتبتها الى عتبة الجيران ..، ..الجيران، ..الجيران حتى تصل الى آ خر شارعهم الطويل تلتفت للخلف لترى المشهد كاملاً يفرح قلبها وتتنفس بإرتياح....بدا الشارع وكأنه فى يوم عيــــد...!!

عادت لتجمع القمامة التى لملمتها فى أكوام متفرقة بيدين مغلفتين بأكياس بلاستيكية ..... ربما كان الأمـــــر شاقاً عليها لكنها تفعله كل يوم بحب رغم كل شيئ ...! ورغم هذا الشقى الصغير الذى لم ينتظر لحظة .. وألقى الأوراق على الأرض خلفها من جديد....!!!


أعوام طويلة مرت.....

خفتت جلبة البيت الكبير ..وهدأ الصخب وسكن كل شيئ.. وجاءت تستند على حائط الغرفة...ثم حائط الطرقة ......حتى وصلت إلى مرآة الصالون..لتعدل من هيئتها بصعوبة.... شحب الوجه.. وظهرت خصلة الشعر الأمامية بيضاء تماماً..مع بعض التقاسيم الجديدة فى ملامحها .... فات عمرٌ طويل...
صارت تمشى ببطء ..يفوح منها عبق الجدات وتلك عصا تتوكأ عليها ...تنزل درجات السلم بمشقة تنظر للشارع بحزنٍ دفين.. حيث الفوضى تعم.... الأتربة تحيط بكل شيئ ...القمامة  تبلع ملامح الشارع كليةً... والكل غير مكترث...والجيران ؟؟   أين هم .... الكل يغلق بابه عليه ؟؟ وتناسوا أن شارعهم هو بابهم الأول ..الكبير!!!

... لحظات من الصمت والحزن ..تفكر فى العودة للداخل وقبل أن تستدير ..تسمع دوياً لهواء قوى تقطب جبينها وهى تنظر...

الأوراق المنتشرة تدور فى دوامات لا نهائية..الأكياس والقمامة الملقاة تتحرك فى أتجاهات موحدة لترتكز فى نقطة واحدة ....!!  ذرات التراب الناعمة تتجمع من جديد ذاهبة الى حيث هناك.....(؟)!!

يهدأ الهواء شيئاً..فشيئاً ....حتى يصير لطيفاً للغاية...تتطاير أطراف طرحتها البيضاء فوق جبينٍ  منير... تغمض عينيها لحظة وتدعكهما برفق ثم تضع نظارتها  ثانيةً ...

تلمح الشارع كما عهدته منذ زمن ... تماماً كما عرفته وصادقته... تغشاها سعادات قديمة...... تشعرها طعم الفرحة وألوان الأمــــل...
تنظر الى الأتساع والرحابــــة وقد داعب الهواء كل ملامحها فصارت عبارة عن بسمة كبير ...آخـــــاذة.....


ليست هناك تعليقات: