القصة الفائزة بالمركز الثالث في مسابقة صلاح هلال الأدبية لعام 2011
محمد رضا كافي
لم
نستطع البوح بما رأينا...لأننا لم نصدق ما حدث ..فكيف نتوقع أن يصدقنا أحد ؟..و
رغم أن كثيرًا من الناس قد رأوه ..إلا أنهم لم يعرفوه... وكانت تلك اللحظة من
اللحظات التي يوقن المرء أنها لن تحدث مرة أخرى في حياته ,أو لأجيال عديدة... أو ربما
لن تحدث أبدا ...
بدأ
الأمر قبل الليلة السابقة لليلة آخر العام ببضع ساعات ,وعلى الرغم من أن الليلة
التالية هي ليلة الميلاد "الكريسماس" التي يحتفل بها الجميع , إلا أنها
لم تكن كأي من مثيلاتها في الأعوام السابقة جميعها ...إنها ليلة "الألفية
الثالثة " ...ليلة لا تتكرر كل مئة عام ,بل لا تتكرر إلا كل ألف عام..
لذلك
كان العالم أجمع يتحضر لتلك الليلة ,وكل فرد يعتبر نفسه محظوظا لأنه سيشهد تلك
الليلة المميزة ,التي لم تشهدها أجيال مضت ,ولن تشهدها أجيال قادمة...
وفيما
كان الجميع يتحضر لتلك الليلة إذ تصاعد صوت النغمة المتواترة الخاصة بهاتفي
المحمول - وكنت منهمكا في القراءة بغرفتي – و فوجئت بصوت صديقي حسام يأتي متوترا و
جزعا وهو يقول :
- أين أنت يا
أحمد ؟ إنني أحاول الإتصال بك طوال الساعة الماضية ؟
- لابد أنها
الشبكة ...تعرف أن الضغط عليها كبير هذه الأيام بسبب الـ.....
- دعك من هذا
... فلتوافيني الآن عند شقة "خالد" .
فاستبد بي
القلق من لهجته فقلت متسائلا:
- ماذا حدث؟
هل أصابه مكروه ؟
- سيصيبه إن
لم تقابلني الآن ....سأنتظرك أمام بيته ..
ثم
أغلق الخط تاركا إياي في قلق رهيب على صديقنا الثالث "خالد" ...لم يكن
على ما يرام في الفترة الماضية .. و طوال الشهرين الماضيين كان يعاني من حالة من
الاكتئاب الشديد – وهو على حق في هذا – فقد بدأ الأمر بهجر الفتاة التي أحبها له و
زواجها بآخر , ثم بإيقاف قيده بالكلية لمدة عام كامل عن طريق الخطأ,ظنًا من إدارة
الكلية أنه كان مشاركا بإحدي المظاهرات , وتم إختتام الأحداث المؤسفة تلك بوفاة
والدته منذ إسبوعين , ولحاقها بوالده في السماء ,وبذلك أصبح وحيدا ليس له ما يعين
قلبه على متابعة حياته ...أصيب باكتئاب شديد ومنع نفسه عن الخروج من بيته ومن
مخالطة الناس, و قد جعلني هذا قلقا من أن يقدم على فعل طائش لا يتوقعه أحد...فعل
قد ينهي حياته.
وصلت
بأقصى ما استطعت , و أمام البناية التي يقطن بها "خالد" وجدت
"حسام" ينتظرني وعلى وجهه علامات القلق واضحة فبادرته بالسؤال:
- ماذا حدث ؟
و أين "خالد" ؟
- إنه
بالأعلى..
- إذن هلم
إليه ..
فاستوقفني
"حسام" ممسكا بذراعي وهو يقول :
- إنتظر..يجب
أن تعرف ما الذي قاله لي و جعلني آتي بك بهذه الطريقة..
فرأيت على
وجهه مزيجا غريبا من الدهشة و القلق فسألته :
- ماذا يحدث
بالله عليك ؟ ماذا أخبرك ؟
و بعد لحظات
من التردد خرجت من فمه كلمات عجيبة تنبيء عن أمر غريب...غريب حقا .
* * *
كان
"خالد" رغم شحوب وجهه لامع العينين مبتسما في سعادة وهو ينطق بكلماته
الغريبة إلى أن استوقفته في دهشة متسائلا:
- ماذا؟! ماذا تقول؟!
- ألم تفهم ما
قلته ؟
- لا أفهم ما
تعنيه..
فعاد بظهره
إلى الوراء وقد اختفت ابتسامته عن وجهه وهويسألني:
- و ما الذي
لم تفهمه في كلماتي ؟
فقلت و أنا
أعيد على مسامعه ما قاله محاولا استيعاب مضمونه :
-
أنت تقول أن أحد الملائكة قد زارك و أنت تعاني من الحزن الشديد...و أنبأك أن طائر
العنقاء على وشك أن يجدد حياته... و أنه بحلول أولى لحظات الألفية الجديدة سيحملك
معه إلى بلاد الشرق السعيد ...مملكة الخيال...
فقال ببساطة و بديهية :
- نعم ...و
ماذا في ذلك ؟
فصاح
"حسام":
- بربك يا
صديقي ..! العنقاء طائر أسطوري...من المستحيلات الثلاثة ..دعك من هذه الترهات و عد
إلى رشدك..و التفت إلى مستقبلك .
فقال
"خالد" في شيء من الغضب:
- ليست
ترهات...أنا أعي ما أقول..و أنا مثلكما لم أصدق ما أرى و لكنه أقسم لي...ذاك
الملاك كان حقيقيا .....لم أصل إلى مرحلة الجنون بعد .
فقال
"حسام" :
- أنت على
أعتابها بالفعل يا صديقي...ما تقوله مستحيل .
فابتسم
"خالد" وعاد إلى هدءوه وهو يقول:
- و ما هي
المستحيلات الثلاثة ؟
فقلت في
بديهية :
- الغول ,
العنقاء , و الخل الوفي..
فقال في سرعة
:
- و ما يهمكما
في أمري أيها الخليلان ؟ مالذي أتى بكما هنا الآن ؟
فنقل
"حسام"بصره بين "خالد" وبيني قبل أن يطرق رأسه ,بينما قلت في
استسلام :
- الوفاء...!!
الوفاء يا صديقي ..
فنهض
"خالد" و اقترب منا و وضع يديه على كتفينا و هو يقول مبتسما :
-
ألا تريا أني قد حطمت إحدى المستحيلات إذن ؟ لدي صديقين وفيين ...و ليس واحدا ....
تبادلت
النظرات مع "حسام" ولم نجد لكلمات "خالد" ردًا فاستطرد :
- الإنسان
يطلق على ما يصعب تحقيقه مستحيلا...و لكن الحقيقة هي أن المستحيل ...لا شيء .
و كان جليًا
أننا لن نستطيع أن نثنيه عن فكره , و لم نكن نعلم كيف سينقله هذا الطائر المسمى
بالعنقاء إلى مملكة الخيال , هو نفسه لم يكن يعرف , وكل ما قاله " سيرشدني
الملاك إلى الطريق ...عندما يحين الوقت ".
وما أن خرجنا
من شقة "خالد" حتى أخرج "حسام" هاتفه المحمول وضغط على عدة
أرقام في سرعة ,فسألته :
- بمن تتصل ؟
- بطبيب
"خالد" النفسي ...لابد أن نخبره بحالته...
و بعد محاولات
عديدة مع الشبكة المزدحمة , أتانا صوت الطبيب بصعوبة , و شرع "حسام"
يخبره بما حدث , فما كان من جواب الطبيب إلا أن نحاول أن نخرجه من بيته مساء اليوم
التالي إلى أجواء الإحتفال بالألفية الجديدة , فإن هذا من شأنه أن يحسن من حالته
كثيرًا , حتى نأتي به إليه بعد الغد لأنه خارج المدينة هو و أسرته في الوقت
الراهن...
إلتفت
"حسام" إلي بعد انتهاء المكالمة و متسائلا في حيرة :
- ماذا سنفعل
الآن ؟ هل سنتركه هكذا ؟
- وهل سنراقبه
؟ لقد رفض أن يبقى معه أحد ..
فتنهد
"حسام " في ضيق قائلا:
- لقد أذن لي
رب عملي بساعة بصعوبة بالغة...أنت تعلم ما فيه محلات الهدايا الآن ... وسأظل أعمل
حتى وقت متأخر من مساء اليوم...
فأومأت برأسي
متفهما وأنا أقول :
- لا عليك ...سنطمئن
عليه هاتفيا إلى أن نتقابل في الغد لننفذ ما قاله الطبيب...
ثم افترقنا
وأنا تروادني أفكار عن "العنقاء" ...طائر أسطوري...هذا كل ما أعرفه عنه
..وهذا كل ما يعرفه معظم الناس الآن ... تجولت كثيرا في شوارع العاصمة و أنا أفكر
في الأمر الذي دفع صديقي لهذا الإعتقاد ,و قد راودتني فكرة أن ما يقوله لا يعدو عن
كونه بعض من الهلوسات الناتجة عن إختلاءه بنفسه كثيرا , و قد صورت له نفسه
المتألمة و المستوحدة الملاك الذي رآه , و ما قاله عن العنقاء هو مخزون من
المعلومات بعقله الباطن ...و لكن مهلا... لقد قال الكثير عن طائر العنقاء ,"
على وشك أن يجدد حياته... بحلول أولى لحظات الألفية الجديدة سيحملني معه إلى بلاد
الشرق السعيد ...مملكة الخيال..." ما عهدته إلا لاهيًا لا يحب القراءة , لم
يكن يوما من هواة القراءة و الإطلاع, فمن أين أتى بكل هذا إن لم تكن مجرد هلوسات
...
لا أدري ما
الذي دفعني للبحث عن حقيقة الأمر , فبحلول المساء كنت أمام حاسبي الآلي أتصفح
الشبكة العنكبوتية عن أي معلومات عن الطائر المجهول , ونتاج سويعات من البحث كان
عجيبا , فلم تكن أسطورة طائر العنقاء تخص شعبا أو حضارة معينة كباقي الأساطير , بل
امتدت إلى معظم حضارات العالم القديم ... المصريون و العرب و الصينيون و
الفينيقيون و الرومانيون جميعهم عرفوا الطائر الخرافي و كتبوا عنه , و أشهر ما
وجدته عنه أن هناك
بعيداُ في بلاد الشرق السعيد البعيد – أو كما أطلقوا عليها "مملكة الخيال
" - تـفـتـح بـوابــة الســمــاء الضخـمــة وتسكب الشمـس نورهـا من خلالها،
وتوجد خلف البوابة شجـرة دائمة الخضرة.. مكان كله جمال لا تسكنه أمـراض ولا
شيخوخة، ولا موت، ولا أعمال رديئة، و لا خوف، و لاحـزن.
وفـى هـذا البستان يسكن طائر واحد فقط،
العنقاء ذو المنقار الطويل المستقيم، والرأس التي تزينها ريشتان ممتدتان إلى
الخلف، وعندمـا تستيقظ العنقاء تبدأ في ترديد أغنية بصوت رائع
وبعد ألف عام، أرادت العنقاء أن تولـد
ثانيـة، فتركت مـوطـنها وسـعـت صـوب هـذا العالم واتجهت إلى معبد إله الشمس (رع)
في مدينة هليوبوليس، وفي هيكل رَعْ، ينتصب طائر العنقاء رافعًا جناحيه إلى أعلي ,ثم
يصفِّق بهما تصفيقًا حادًّا ,وما هي إلاَّ لمحة حتى يلتهب الجناحان فيبدوان
وكأنهما مروحة من نار بعـد ذلك تمـوت فى النار، ومن رمادها يخرج مخلوق جديد.. دودة
لهـا لـون كـاللبـن تتحـول إلـى شـرنقـة، وتخـرج مـن هـذه الشـرنقـة عـنقاء جـديدة
تطـير عـائدة إلـى موطـنها الأصلي، وتنثر بقايا جسدها القديم على مذبح الشمس في
هليوبوليس بمـصــر، ويحيـي شـعـب مصـر هـذا الطـائر الـعـجـيب، قبل أن يعـود لبلده
في الشـرق...
وفي الحضارة الصينية القديمة كانت
مكانة العنقاء أعلى من مكانة التنين حيث تحتل صور العنقاء مكانة متقدمة في
الرسومات الجدراية والحريرية في أسرة "هان " الملكية، وفي بعض هذه
الرسومات ينقر العنقاء التنين بفمه. وخلال تطور المجتمع الإقطاعي الطويل تغيرت
مكانة العنقاء والتنين رويدا رويدا حيث أصبح التنين رمزا للأباطرة فيما نزل طائر
العنقاء الى المرتبة الثانية وأصبح رمزا الى محظيات الاباطرة. وفي أسرة "
تشينغ " الملكية بدأت صور طائر العنقاء المحبوب لدي أبناء الشعب الصيني تنتشر
وسطهم، حيث يستخدم عامة الناس كلمة "عنقاء" في تسمية بعض الأطعمة
والملابس والمباني والمناسبات السعيدة وغيرها من نواحي الحياة، بالإضافة الى تسمية
الفتيات باسم "العنقاء". وقد أصبح طائر العنقاء بجانب التنين رمزا الى
الأمة الصينية ويحبه الشعب الصيني حبا جما ....
ولا أجد داعيا لذكر باقي الأساطير التي
نسجت حول العنقاء...الطائر الذي تحول إلى أسطورة عالمية ... ولا أحتاج إلى أن أصف
ما شعرت به عند قرائتي إياها , وما قاله "خالد" أيضا ظل عالقا بذهني
المرهق , ورغم كل هذا ,إلا أنه ظل راسخا بذهني وقتها أن هذا كله لا يعدو كونه
أسطورة تتلى , و مستحيلا لا يتحقق...
و بينما كنت على تلك الحالة إذ غلبني
النوم بسبب إرهاقي الشديد , و رأيت و كأني أسير على جسر حديدي تتناثر عليه الأشواك
, ممدود في فراغ أصهب ,تحيط به سحب متوهجة و كأنه الشفق , ومن خلفي عالم مظلم
يحترق في بعض مواضعه , و من أمامي – عند نهاية الجسر – قصور متلألئة و كأنها
مصنوعة من اللؤلؤ , منتصبة بين مروج خضر كثيفة... و بمشقة على الجسر الوعر أحاول
الوصول إليها , و أشعر بالأشواك تخترق قدميِّ و تصيبهما بجروح دامية , و يزداد
الأمر صعوبة مع الألم , إلى أن سمعت صوت طائر يخترق السحب ... صوت ملائكي عذب ..
فالتفت لأرى طائرا عظيما ضخما يشبه في شكله الطاووس الضخم بعنق طويل كالأفعى ,
جسمه مكسو بالريش الذهبي المحمر , فيجعله وكأنه يلتهب , جناحاه عظيمان يخترقان
السحب إختراقا ...فأصابني الذهول من أمره غير أنني عرفت أنه طائر العنقاء الأسطوري
... إقترب من الجسر ببطء وهبط قليلا إلى مستوى الجسر فازدادت دهشتي عندما رأيت من
على ظهره ..."خالد" يقود العنقاء ... نظر إلي مبتسما وهو يقول :
- ألازلت لاتصدق الأمر يا صديقي ؟
فقلت في دهشة :
- هذا يهدم ما تعلمناه ... هذا يهدم ما
اعتقدناه ...هذا يهدم علما كاملا يسمى "المنطق" ...
فضحك "خالد" وقال في شيء من
السخرية وهو يشير إلى العالم المظلم:
- و أين المنطق فيما يحدث هناك يا
صديقي ؟ أين المنطق في أن يقتل الرجل أخاه لا يعلم فيما قتله ؟ أين المنطق في أن
يهدر الأب شرف ابنته ؟ أين المنطق في أن تبيع الأم رضيعها ؟ أين المنطق... في أن
يتجرد الإنسان من كونه إنسانا ..ليقضي على العالم بيديه ..و يزرع البؤس و الشقاء
في قلوب أقرب الناس إليه ...ليسومهم سوء العذاب ؟ من أجل ماذا ؟! ...
لم أجد ما أجيبه به , فقد كان كلامه
صحيحا , لقد ساء أمر الدنيا كثيرا حتى خشيت أن يبعث الله بعذاب من السماء يهلك به
الأرض و من عليها ... نظرت إلى العالم المظلم في ضيق ثم وليت وجهي شطر مملكة
الخيال بقصورها اللؤلؤية البيضاء و في نفسي حزن دفين و شك من أن أصل إليها مع كل
هذا الألم ...و كأن "خالدًا " قد قرأ ما يجول بخاطري فقال :
-
عظم الثواب من عظم الصبر يا صديقي ... و الأكثر حظا في الوصول سريعا إلى
هناك هم الأضعف بين الأخيار ..و الأقل ثوابا ...و لكنها الرحمة... ماكنت لأجتاز ما
تجتازه أنت ... تجلد يا أخي ...فإن موعدنا الجنة...
ترددت كلماته الأخيرة في كل مكان و هو
يطير بالعنقاء صوب مملكة الخيال ,فجزعت من هذا و جريت محاولا التعلق بذيل العنقاء
و أنا أقول :
- انتظر..لا يمكنك التخلي عني...لا
يمكنك هذا ..
و لكني فشلت في اللحاق به و سقطت على
الأشواك المؤلمة ,و طار بعيدا وصدى صوته يصل إلى أذني قائلا :
- لكل منا قَدَره يا صديقي ..لكل منا
قدَره...
****
مع كلماته الأخيرة استيقظت
من نومي , و شعرت بثقل رأسي و أنا أرفعها عن سطح مكتبي أمام حاسبي الآلي و الألم
يجتاح جسدي ,فنهضت إلى فراشي و تمددت عليه و أنا أرى أشعة الشمس تتسلل من خلال
ستائر نافذتي تنبئني بوقت الظهيرة , ولم تحاول أمي إيقاظي حتى ذلك الوقت ظنا منها
بتعمدي ذلك كي أستطيع السهر الليلة إحتفالا بالألفية الجديدة ....
ظللت شارد الذهن إلى مابعد
عصر ذلك اليوم ولا أكاد أتحدث مع أحد , و كأن عقلي أصبح مطاردا من قبل الطائر
الأسطوري ...يخفق بجناحيه بين جنبات كياني المرتبك المشوش , حتى تذكرت أنني يجب أن
أتصل هاتفيا بـ"خالد" لأطمئن عليه - وقد أخذ لون السماء في الإحمرار تدريجيا و أوشكت الشمس على المغيب - و لكنني لم
أتلق ردا , فأقلقني الأمر بعد عدة محاولات للإتصال به سواءًا على هاتف منزله أو
على هاتفه المحمول بلا جدوى , فظننت أنه قد أقدم على حماقة ما . و بمشقة استطعت
الإتصال بـ"حسام" و إخباره بالأمر و كان لتوه مستيقظا من نومه بسبب عمله
الليلة السابقة , و اتفقنا أن نتقابل أمام مسكن "خالد" ....
كان الظلام قد حل عندما اكتشفنا عدم
وجوده ببيته , ووقف كلانا في حيرة من أمره و سأل " حسام" في قلق :
- تراه أين ذهب هذا المجنون ؟
فقلت في نفس القلق :
- لا أعلم ..ليس له مكان يذهب إليه .
فقال "حسام" :
- كان عليه أن ينتظرنا كما اتفقنا ...
أنا في غاية القلق .. و أخشي أن يؤذي نفسه .
فصمت للحظات احترق عقلي فيها من
التفكير قبل أن أقول:
- لا ... لقد ذهب لمقابلة العنقاء .
فنظر إلي "حسام " في دهشة
وهو يقول :
- ماذا تقول ؟ هل أصابك ما أصابه أيضا
؟
فقلت مفسرا له مقصدي :
- ما أقول إلا ما يحدث ...لقد قال أن
العنقاء ستأخذه بحلول أولى لحظات الألفية الجديدة ...و بالتأكيد قد ذهب ليلتقيها
...
فقال "حسام" في حيرة :
- ومن أين لنا أن نعرف المكان ؟ حتى
أننا لا نعرف شيئا عن ماهية العنقاء أو شكلها ؟
فقلت مصححا اعتقاده :
- أنا أعرف عنها كل شيء ..
فنظر إلي في دهشة وهو يقول :
- أنت ؟!.. و ماذا تعرف ؟
فأخذت أخبره بما عرفته من معلومات عن
العنقاء و الأساطير التي نسجت حولها في مختلف الشعوب و الحضارات ,و أن موتها و
بعثها قد ارتبط بمصر الفرعونية ارتباطا وثيقا .....
و بعد لحظات حاول فيها "حسام
" استيعاب ما أخبرته به قال :
-
مذبح الشمس !...هيكل رع !... أين سنجد هذا المكان ؟
فقلت في حيرة :
- لا أعلم بعد ...كل ما أعلمه أن
"هليوبليس" تلك هي "مصر الجديدة " الآن ....
- و كيف سنصل إلى هناك الآن ؟ الناس
جميعهم يحتفلون بالشوارع و الطرق مزدحمة , و معظمهم سيحضرون حفلة " جان ميشيل
جار " عند سفح الهرم ...
- الجميع بخارج منازلهم الآن ...و لكن
المهم أن نعرف أين يمكن أن يكون مذبح الشمس هذا ..
فقال "حسام" في توتر :
- أنت المثقف ...أخبرني أين يمكن أن
توجد مدينة قد إندثرت تحت التراب منذ آلاف السنين ؟
فلمعت الكلمات فجأة في رأسي قبل أن
أقول :
- بالضبط !! ... تحت التراب ... إن
هيليوبلس القديمة مدفونة تحـ.... أحتاج لإستخدام الإنترنت .
قلتها و أنا أهرول باحثا عن مركز للإنترنت
قد يكون متاحا الآن بينما قال "حسام" وهو يلحق بي :
- ماذا ستفعل ؟
- أحاول معرفة مكان مذبح الشمس ...
فقال "حسام" في ضيق :
- ستنتهي حياتي معكما بغرفة مريحة
بمستشفى الأمراض العقلية ...
و فور دخولنا أحد مراكز الإنترنت كان
صاحبه يهم بالخروج فقال :
- ماذا تفعلان ؟ لم يتبق على منتصف
الليل أكثر من ساعتين و عليِّ أن أصل إلى حفـــ....
فقاطعته وأنا أتجه إلى أحد الأجهزة
قائلا :
- لن نستغرق أكثر من خمس دقائق ....
الأمر عاجل.
فتأفف الرجل وهو ينظر إلى ساعته قبل أن
يقول :
- إذن من الأفضل أن تسرع وتنتهي من
أمرك العاجل .
*****
"أون هي مدينة الشمس أو هليوبوليس
كما اسماها اليونانيون وتقع في ضاحية بشمال شرق القاهرة حيث تقف مسلة من الجرانيت
الاحمر خلف المنازل، وهي المعلم الوحيد الظاهر من مدينة عمرها سبعة آلاف سنة ...
"
كنت أردد تلك الكلمات و نحن نهرول إلى
الشارع بحثا عن وسيلة تنقلنا إلى المكان المنشود حيث قال "حسام " :
- أنا أعرف تلك المسلة ...لقد مررت بها
ذات يوم... تقع بـمنطقة "المطرية" ...
فقلت و أنا أنظر إلى ساعتي :
- لم يتبق لنا الكثير ... لابد أن نصل
إلى هناك بأسرع وقت..
- من المستحيل أن نصل في الوقت المحدد
...
فنظرت في عينيه و قلت في حزم :
- طالما نبحث عن المستحيل ...فسنواجه
المستحيل ..
عندها مرت سيارة أجرة ,فألقيت بنفسي
أمامها ففزع السائق وهو يضغط على المكابح بقوة ,و قبل أن يتفوه بكلمة واحدة ألجمته
بورقة مالية من فئة المائة جنيه , فأخذها على الرحب و السعة و انطلق بنا إلى
مكاننا المنشود ,مستخدما مهارته في القيادة لإختراق الزحام الرهيب الذي واجهنا ,رغم
أن الأمر لم يسلم من عقبات المرور .....
وأخيرا وصلنا إلى المسلة فهرولت خارجا
من السيارة و يتبعني "حسام" بينما خرج السائق ووقف بجانب السيارة و هو
يراقبنا متعجبا و نحن نركض باتجاه المسلة , و كان الجرانيت الأحمر يتوهج تحت أضواء
الألعاب النارية رغم الألواح الخشبية الخاصة بالترميم الملفة حوله ,فلمحت في وهج
أضواء الألعاب النارية شخص يقف عند قمة المسلة على أحد الألواح,فعرفت أنه
"خالد" فتوقفت مكاني أنا و "حسام" الذي قال في دهشة :
- ماذا ينوي أن يفعل بحق الله ؟
وقبل ان اجيبه إذا بوهج شديد يخترق
السحب مصحوبا بصوت طائر ما سمعت مثله من قبل , فإذا بطائر ذهبي ضخم يتوهج إحمرارا
يهبط باتجاه المسلة , فاتسعت عيناي دهشة لما أراه حقيقة أمامي و كان حتى الأمس
ضربا من ضروب الخيال و المستحيل , بينما فغر "حسام" فاه قبل أن يقول :
- يا إلهي !! ماهذا الشيء بحق الله ؟
فقلت هامسا و كأنني أحدث نفسي :
- العنقــاء !!
وهبط الطائر العظيم أسفل
المسلة بينما نظر "خالد" فوجدنا فابتسم لنا قبل أن ينظر للعنقاء و كأنه
يعرف ما سيحدث , وماهي إلا لحظات حتى انتصب الطائر و صفق بجناحيه بقوة فاشتعلت نار
عظيمة به حتى أننا تراجعنا من شدة حرارتها , وبنفس غرابة اشتعالها , خمدت النار
بعد ثوانٍ قليلة , وفجأة انقطعت الألعاب النارية و انطفأت الأضواء , ولم يتبق غير
الرفات الذهبي المتلألئ , فنظرت إلى ساعتي الفسفورية فأدركت انه لم يتبق غير ثوان
قليلة على بداية الألفية الجديدة , وشعرت بأصابع "حسام" وهي تربت على
كتفي و هو يشير باليد الأخرى في ذهول دون أن ينبث ببنت شفة إلى موضع رفات الطائر ,
فوجدت ذرات الرفات الذبية المتلألئة أخذت تموج و تدور حول نفسها كالدوامة , و في
قلبها كأن جسد طائر يأخذ في التشكل قطعة قطعة , حتى إذا إكتمل على صورة الطائر
السابق , أخذ في الإنتفاض مع عودة الأضواء و الألعاب النارية و قد اختلط صوته
بصيحات الجماهير الآتية من بعيد , ثم فرد جناحيه العظيمين و بدأ يخفق بهما و يطير
حول المسلة صعودا و ذرات الرفات الذهبي تتناثر منه حول المسلة فجعلت من مشهد
المسلة مشهدا خياليا و الوهج الذهبي محيط بها , حتى إذا اقترب الطائر من قمة
المسلة توقف بالقرب من "خالد " الذي قفز على ظهره , فعدوت ناحيته و أنا
اصيح :
- انتظرني يا "خالد" ...خذني
معك .
فابتسم "خالد" وهو يقول :
- لكل منا قدره يا صديقي ... لكل منا
قدره ..
ثم لوح لنا بيده و انطلق بالعنقاء يشق
السماء مارا بالجماهير الغفيرة المتجمعة من بعيد ,فصاح الجميع ملوحين ظنا منهم أنه
عرضا آخر , عندها تذكرت عبرة قرأتها و رددتها في نفسي :
- و يحيي شعب مصر هذا الطائر العجيب
قبل أن يعود لبلده في الشرق ...
عندها قال "حسام" وهو ينفض
رأسه من الذهول :
- قل لي أن ماحدث لم يكن حقيقيا ..
فوضعت يدي على كتفه وأنا أقول :
- لا...كان حلما....حلما لا يتكرر إلا
كل ألف عام..
فابتسم "حسام" وهو يقول :
- إذن قد يسعد الحظ رفاتنا في المرة
القادمة ...
عندها نطق الشخص الذي نسينا وجوده معنا
طوال تلك الفترة قائلا :
- الأقدار هي من تقود الإنسان ...و ليس
الإنسان من يقود قدره ..و لكن قد يستطيع تغيره إذا أراد ..
فالتفتنا إلى السائق وكان متكئا على
سيارته وعلى وجهه ارتسمت ابتسامة عجيبة فقال "حسام" في دهشة :
- ما هذا ؟ ماذا تقول ؟
فنظر الرجل إلينا بعينين لامعتين وهو
يقول :
- ما يجب عليكم أن تنتظروا السعادة على
أجنحة طائر ...و لإن فعلتم ... فلسوف تأكلكم ديدان المقابر قبل أن تحصلوا عليها
... السعادة كامنة بيد الإنسان ...طالما يعرف الخير و الشر, و الحق و الباطل , و
الظلم و العدل ... وعليه أن يختار ...و عليه أن يدافع عن سعادته بدمه ..حتى
يستحقها ..
فقال "حسام" في حيرة :
- من أنت بحق الجحيم ؟
فقلت وقد ارتسمت على شفتي شبح ابتسامة
:
- أنت الملاك الذي أتى
"خالدا" ... و أنت الذي جئت بنا لنشهد نجاته من الواقع الأليم ..
فابتسم الرجل وقال و هو يتلاشى مع
سيارته :
- ما أنا إلا رسول ...و ما على الرسول
إلا البلاغ ..
ثم اختفى الرجل و سيارته و لم يبق لهما
أثر , فنظر "حسام " إلي قائلا :
- بحق الله !! على أي كوكب نحن ؟
فقلت بصوت حزين و أنا أنظر إلى السماء:
- لازلنا في الدنيا يا صديقي ...لازلنا
في الدنيا ..
وظل فكري معلقا بالعنقاء ...رمز الحرية
و السعادة الأبدية ... لم نستطع
البوح بما رأينا...لأننا لم نصدق ما حدث ..فكيف نتوقع أن يصدقنا أحد ؟..و رغم أن
كثيرًا من الناس قد رأوه ..إلا أنهم لم يعرفوه... وكانت تلك اللحظة من اللحظات
التي يوقن المرء أنها لن تحدث مرة أخرى في حياته ,أو لأجيال عديدة... أو ربما لن
تحدث أبدا ...
هناك تعليق واحد:
شكرا للأديب الكبير أستاذ أحمد طوسون على نشر القصة .. تحياتي لحضرتك و لمدونتك الراقية
إرسال تعليق