وتواريت قليلا
قصة قصيرة
بقلم محمد عبدالله الهادي
مهداة إلي مكاوي سعيد
كنت اقلب متصفح النت علي حاسوبي، مررت علي صفحات الثقافة والأدب للنسخ الالكترونية للصحف سريعا، توقفت أمام قصة لمكاوي، كانت عن طفل تتفتح مشاعره الحميمة نحو جارته الصغيرة، يكتب لها رسائل حب ساذجة يدسها خلف مقعد مصعد المنزل دون أن يجرؤ علي البوح لها، ويتابعها من خلف زجاج باب شقته المصنفر وهي تدخل شقتها المواجهة لشقته، وكانت أختها الكبري التي استشعرت هذه العلاقة تناصبه العداء وترصده في غدوه ورواحه للشقة..
جاءت زوجتي ووضعت بجانبي كوب شاي وقالت:
- مش قلتلك.. أنا سمعت صراخا في الشقة التحتانية بالليل وأنت مش هنا؟
قلت لها:
- لا.. خير إن شاء الله.
- أم نادر تزحلقت علي بلاط الحمام ووقعت علي ظهرها.
- ياساتر يارب.. وأولادها؟
- غادة كانت نايمة ونادر برة.. تصور من لحقها؟
- من؟
- أم ميدو وجوزها.
كنت قد نسيت الخلاف بين أم نادر وأم ميدو فذكرتني هي. كانت الأخيرة قد شاهدت الأولي تكنس الطرقة وتكوم التراب أمام بابها، ولما عاتبتها قالت لها: »أنت نفضتي السجاد إمبارح وسبتي التراب قدام بابي«.. وتطور العتاب لشجار وخصام.
رشفت من كوب الشاي وحاولت العودة لجو القصة، كان العداء بين الأخت الكبري والولد الحبيب قد تنامي، حبيبته الصغيرة لم تصعد بالمصعد هذه المرة.. بل صعدت أختها التي تكبرها بسنوات قلائل وتكرهه. فتكت بحشوة كرسي المصعد حتي وجدت رسالته، أخذتها ودخلت بها إلي مسكنها غاضبة..
تعاظم خوفه وانساب البول رغما عنه ملوثا بنطاله وجوربه وحذائه..
كانت زوجتي قد انشغلت قليلا بترتيب بعض كتبي المبعثرة حول حاسوبي، أقتربت مني وهي تداري ضحكتها بيدها:
- أبو ميدو شالها م الحمام وهي بقميص النوم.
- ياخبر!.. وأم ميدو؟
- أنت نسيت إنها حامل.. ومش تقدر تشيل حاجة.
وضحكت مرة أخري وأردفت:
- كانت مكسوفة وقالت إنه زي أخوها.
سألتها وقد تذكرته:
- وأبونادر؟
- كان عنده حصة درس.. ولما عرف جه بسرعة، وقال لها قدامنا وهو متضايق:
من قالك تمسحي الحمام؟
وأخرج تليفونه من جيبه يشوف رقم دكتور من اللي بيدي أولادهم درس ييجي يشوفها.
قلت بتأفف:
- ياساتر.. طول عمره شحيح ويعبد القرش.
أبو نادر يطلع لشقتي التي تعلو شقته ثلاث مرات اسبوعيا، يعطي ابني احمد - الذي هو في عمر الولد الحبيب بقصة مكاوي - درسا خاصا، وكان قد طلب - دون مراعاة للجيرة، رفع أجره ثلاثين جنيها مرة واحدة عن أجر العام الماضي، وعندما لاحظ ترددي في القبول وعدم اقتناعي بزيادة ليس لها مبرر، أبدي تسامحا غير حقيقي، يحمل في طياته مساومة مقيتة كتاجر يدلل علي سلعة هو الكاسب فيها في كل الأحوال:
»عموما أحمد زي ابني نادر.. اللي تقدر تدفعه ادفعه.. احنا جيران ورقبتي سدادة«.
اضطررت أن أرفع أجره.
حل أحمد في عقلي مكان الولد الحبيب، الولد كبر حقا، وقلت مصيبة أن يكون وقع في غرام بنت من جيران العمارة بنت.. أي بنت؟.. وتذكرت غادة بنت أبونادر؟!، مصيبة سوداء ان تكون هي!
المنزل سبعة طوابق في شقتين، ولاتوجد بنت غيرها تماثله في العمر، لايوجد مصعد ولا حاشية، ما الذي يمنعه من ترك رسائله علي أي بسطة للسلم عند قدومها؟
عدت بسرعة لشاشة الكمبيوتر ومسحتها
بعيني، وقفت عند السطر الذي توقفت عنده:
»لم يجرؤ الصبي علي الذهاب لأبيه طوعا، وتطوع أخوته الكبار بحمله إليه كاتمين ابتسامات التشفي. كانت الرسائل في حجر أبيه، وأخت حبيبته الواقفة قبالته تمزق كل رسالة بعد أن يتأملها أبوه«.
انقطعت العلاقة بين الحبيبين فحزنت، وتذكرت ابني أحمد فغيرت رأيي وقلت: أحسن
»مات الأب وتزوجت أخت حبيبته الكبري برجل ضئيل مسن أقام معهم في مسكنهم.. لم يدعه أحد لحضور حفل زفاف أخت حبيبته الكبري ولا حتي حفل زفاف حبيبته اللاحق، وان كان اخوته بلا استثناء قد حضروا كلا الفرحين. أخت حبيبته لم تكن تصعد معه بالمصعد أبدا.. ان وجدته ينتظره تباعدت أمتارا حتي أوشكت ان تلتصق بباب المنزل الخارجي، ثم تدير له ظهرها حتي يصعد.. وان كانت بانتظاره ولمحته خلفها، اسرعت بالدخول وهي تغلق الباب في وجهه بصوت مدو«.
رشفت آخر حسوة شاي، أنهت زوجتي بعض مشاغلها الصغيرة وعادت تأخذ الكوب.. تمهلت وقالت:
- أحمد..
قاطعتها وقد لون الخوف صوتي وأنا أنتبه لها:
- ماله؟.. حصل حاجة؟
وكدت أسألها: شفتيه مع بنت أبونادر؟
لاحظت لهفتي واستشعرت خوفي فقالت:
- مالك خايف كدا.. نادر جه معاه امبارح ووصل انترنت من عندنا.
بان الانزعاج علي وجهي، وسألت مستنكرا:
- نادر.. ونت من عندنا؟!
قالت:
- أيوه.. فيها ايه؟ الجيران لبعضهم.
قلت لها:
- لاياهانم.. فيها كتير.. وأنت مش عارفة حاجة.
غادرتني لتقطع علي الاسترسال وهي تقول بتأفف:
- يوووه.. ح تعمل من الحبة قبة!
»كانت الليلة شتوية والمطر الملوث بالوحل الملتصق بورق الشجر يتساقط برتابة.. وهو يحاذر ان يسقط في حفرة، أو يقترب من أحد أعمدة الإنارة المفتوحة بطولها وأسلاكها الكهربية تومض علي فترات، ودخل إلي بهو المنزل واستدعي المصعد.. وهو في منتصف المسافة.. تصاعد إلي أذنه خطوات مهرولة تجتاز الشارع، ثم تتوقف فجأة في بهو المنزل.. التفت بالتزامن مع نزول المصعد.. كانت أخت حبيبته الكبري تتراجع ببطء إلي ركنها الأثير.. لكنها لم تدر له ظهرها هذه المرة.. فقط أشاحت بوجهها عنه.. كانت ملابسها مبللة وجسدها يرتعد من البرد.. تجاهلها وصعدت، لكنه بمجرد دخوله مسكنه داهمه صوتها الحاد الصاعد من أسفل يصرخ بجنون«.
توترت أعصابي، لقد انقطع النت فجأة وضاعت الصورة من الشاشة، حاولت تخليص أحمد من الصبي الذي يتراوح فيه وفشلت، فزعقت لزوجتي:
- شفتي ياهانم.. اللي أنا عامل حسابه حصل.
جاءت علي مهل ونظرت لي وسألت بلوم:
- خير؟- أهو النت قطع.. أحمد يوصل نت لنادر والتحميل يزيد والنت يقطع.. وحضرتك تقولي جيران!
استهانت بكلامي ولم تعلق، فاغلقت الجهاز غاضبا ونهضت.
مرت أيام احتلت فيها القصة رأسي، وتراوحت هواجسي بين تلصصي علي ولدي أحمد تارة، وبين البحث عن قصة مكاوي لاكمل قراءتها وأعرف نهايتها تارة أخري، وكلما حاولت الرجوع لنفس الصحيفة والبحث عنها، أجد عددا جديدا، ولا أرشيف للأعداد السابقة.
مراقبتي لأحمد لم تسفر عن شيء يؤكد هواجسي.
طلبت مني زوجتي أن أرافقها لزيارة أم نادر وواجب الاطمئنان علي الجارة المصابة، قلت لها »روحي أنت.. أنا مش فاضي« وسقت لها أسبابا واهية.
علي صفحات مواقع البحث الشهيرة كتبت عبارة »قصة الأخت الكبري« مرة، واسم مكاوي سعيد مرة أخري، نتائج البحث جاءت في ثوان بقصص اخوات كثيرات ليس من بينهن أختنا الكبري.
فكرت في البحث عن رقم تليفونه اطلبها منه.
مضت أيام كثيرة نسيت فيها أمر القصة، لكنني في بعض الأحيان كنت أتذكرها، فأحاول تخيل نهاية لها، أضع نفسي مكان المؤلف، فأخرج بنهايات كثيرة لاتحوز رضاي.
فجأة، وبدون توقع، وأنا اتصفح المواقع الأدبية، وجدت القصة، طرت فرحا، رحت أمر علي سطورها بسرعة:
»سنوات مرت أكثر وأكثر وما عدنا نلتقي أنا وأخت حبيبتي لابالصعود ولا بالهبوط ولا حتي في الشرفتين المتجاورتين.
أخت حبيبتي الكبري والتي تكبرها بسنوات قليلة.. ماتت أمس..
أختي التي تكبرني بعام تركت أولادها وزوجها ولازمتهم.. تشارك بهمة وحماس اعداد الولائم للمعزين، وغسل الآواني والملابس وفاء لجارتها وصديقاتها.. وأنا بغرفتي وحيدا بعد كل هذه السنوات.. انسلت أختي من مسكنهم ليلا في اليوم التالي للعزاء.. واقتحمت علي غرفتي.. جلست أمامي متثاقلة وأزاحت بيدها الضخمة المجلة التي كنت أتصفحها، ثم ألقت أمامي بسلسلة ذهبية تنتهي بحلقة بلاتينية.. وأومأت إلي بأن اتلمسها.. تفحصت الحلقة، كانت بها صورة شخصية باهتة لزوج الراحلة خلف زجاج يكاد يكون معتما.. قلبت شفتي متسائلاً.. أمسكت أختي الحلقة وفتحتها بعنف، فسقطت صورة كانت منزوية خلف صورة الزوج الراحل.. كانت الصورة راقدة علي الأرض بين قدمي.. ولم أكن بحاجة لتأملها.. كانت صورة لفتي في السادسة عشرة من العمر.. وكانت صورتي.. أْعادت أختي إحكام الحلقة وقامت غير مبالية بقدمها التي تطأ صورتي وقالت وهي تمضي..
- هاروح أسلمهم بقية الصيغة.. ياريتهم ما خلوها في عهدتي«.
شملني حزن غامر والصبي الذي صار رجلا كبيرا يخرج رسائله القديمة التي كان قد أعاد لصقها بمهارة ويلقمها للنار.
أشفقت علي الولد الذي صار رجلا دون أن يتزوج، دون أن يدرك الحقيقة إلا بعد فوات الأوان.. وقلت:
كلنا هذا الولد.
وشملني حزن علي الأخت الكبري.. وقلت:
كلهن أخوات لها.
> > >
مرت أيام كثيرة نسيت فيها القصة، وانشغلت بقصص أخري من قصص الحياة.
لكنها اليوم انبثقت أمامي بتحد جديد، كانت كمن تبحث لنفسها عن نهاية أخري داخل رأسي، نهاية لايصنعها خيالي حسبما يهوي، بل تصنعها الحياة..
كنت عائدا من عملي بعد الظهر، وقبل ان أجتاز باب المنزل، لمحت أحمد واقفا مع بنت علي البسطة المجاورة لمدخل السلم، كانت البنت هي غادة بنت أبونادر، هكذا عرفت، بيده المترددة نحوها ورقة مطوية. وكان وجهاهما المتقابلان، الضاجان بحمرة الصبا، يقولان الكثير دون صوت أسمعه..
توقفت وتراجعت وقررت ، عدت للشارع بسرعة قبل أن يرياني..
تواريت قليلا بجوار جدار المنزل قبل أن أعود مطمئنا علي أنهما قد صعدا السلم باقدام ثابتة.
نقلا عن جريدة أخبار الأدب
هناك تعليق واحد:
أشكرك
إرسال تعليق