بريق العامية المصرية يخطف أبصار المستشرقين
بقلم : فاتن محمد علي
الأدب الشعبي كما يعرفه الدكتور «حسين نصار» في كتابه الشعر العربي " هوالأدب الذي يصدرهالشعب فيعبر عن وجدانه ، ويمثل فكره ويعكس اتجاهاته ومستوياته الحضارية " وهذا ما يخلق عند العامة ترابطاً قوياً بين لفظ ومعني " الشعبية " وبين الأدب الشعبي "باعتبار"الشعبية"مخزوناً لا ينضب من العادات والألفاظ والأمثال كمصدر مهم ومنبع مؤسس ودائم " للأدب الشعبي" وهذا ما جعل الدكتور "عبد الحميد يونس" يحدد مقومات الأدب الشعبي في كتابه " دفاعاً عن الفلكلور" والتي من أهمها " العرافة ، والاستجابة لنزعة الوجدان الشعبي ، والخلومن الطابع الذاتي حيث يذوب الفرد في الجماعة وأخيراً اللغة المميزة له وهي اللغة العامية "لب الموضوع".
مناجاة الفولكلور للتراث الشعبي
ترتبط ماهية الفولكلور في الوجدان العربي والمصري خاصة بالحس القومي والوطني لدي الشعب والذي يصب في أنهار التراث الشعبي لتسقي منابع أصالتنا وعاداتنا الحياتية لذا فلا نجد صعوبة بالغة في التفريق بين اللفظين ، ويبدوأن مسألة دلالة لفظ" الفولكلور والتراث الشعبي"وخصوصيته قد شغلت بال المراجع الإفرنجية وجهود المستشرقين قديماً بدرجة تفوق الوصف حتي أنها مثلت إغراء فكرياً وبحثياً بالنسبة لهم فنري أن المستشرق " إيوري سوكولوف " يذكر في كتابه " الفولكلور الروسي " " أن الفولكلور والأدب الشعبي شيء واحد لأن" الشعر الشفاهي " محور كل منهما كما يعتقد.
المستشرقون والتراث الشعبي
الهم القومي المصري النابع من خصوصية الشعب ذاته كان منبعاً ومصدراً للكثير من المستشرقين منذ القدم لينهلوا منه ، ويذكر " الباحث " أحمد رشدي صالح " في كتابه " فنون الأدب الشعبي " سير الكثير من المستشرقين الذين شغفوا بلغة وعادات الشعب المصري منذ القدم أمثال " شامبليون الفرنسي " أول من استطاع أن يحل رموز اللغة الهيروغليفية ، وحين عثر بعض الفلاحين علي جرة صغيرة من الفخار بداخلها برديتان مكتوبتان بالعربية ، أصبحتا مصدراَ للمستشرق البارون " سلفستر دي ساسي الفرنسي لدراسة أوراق البردي المكتوبة باللغة العربية إلي جانب براعة بعضهم في تصوير العادات المصرية وأسلوب الحياة قديماً بل وسردها في كتب أدبية وتاريخية حتي وصلوا لخصوصية السير الشعبية ذات الطابع الفولكلوري المصري الخالص " كترجمة سيرة عنترة بن شداد " في أربعة أجزاء علي يد المستشرق " تيريك هاملتون " عام 1820
هم أشد عشقاً
في الوقت الذي يشتد فيه الصراع وتعلوالأصوات المتشددة بضرورة سيادة اللفظ الفصيح في كل فنون الأدب خاصة في المؤتمرات الأدبية حين تسعي للتنكر ونبذ اللفظ العامي شعراً وأدباً ، يخبرنا التاريخ أن اللهجة العامية المصرية بل والأقل من الدارجة كانت منجماً يستخرج من باطنه المستشرقون كل جميل ومعبر عن سمات وعادات كل شعب بطوائفه وحِرَفه المختلفة حتي ليمتد ولع المستشرقين بالتراث والأدب الشعبي المصري ليخترق جدار المحلية الدارجة، فتبهرهم لغتنا العامية بسلاستها وفطرتها ويسطع ذكاؤهم بإدراكهم مدي الامتزاج بين العادات والتراث الشعبي المصري وبين اللغة العامية، كأداة معبرة وجسرٍ موصل لكل أصيل وطبائعي نابت في أرض الشخصية المصرية البسيطة . فانصب اهتمامهم علي عامة المصريين البسطاء من ريف ومدن وصعيد سعياً وراء تحقيق المراد بجمع مادة بحثهم من أفواههم تاركين مجتمع الصفوة، حتي أن المستشرق " كارلولندبرج" يقول في مقدمة كتابه " الأمثال السائرة والأقوال الدائرة عند أولاد العرب " ( ولأجل أن يكون الأسلوب واحداً ، انتقيتُ منها الأمثال الدارجة العامية التي استفهمتُ معانيها واقتبستُ شرح عرصاواتها من أفواه الأمة ) وهناك من الكتب التي ألّفت بمذاق خاص وتعتبر مرجعاً مهماً لدي المستشرقين أنفسهم في الوصول لسر اللغة العامية المصرية ،ككتاب " أجرومية العربية العامية في مصر " للمستشرق " جيوم سبتابك" والذي يعد من أهم الكتب لقدرته علي صدق التصوير وذكاء التعمق ليفتح بذلك باباً مهماً لكل من أراد فهم رموز اللغة العامية المصرية بأصالتها، حتي يطل علينا كتاب مبهر للمستشرق " إدوارد وليم لين "بعنوان " المصريون المحدثون" الذي تأتي روعته من حرص مؤلفه علي الدخول في نسيج الشخصية المصرية بل والصعيدية أيضاً ومغازلة طبائعها بتصويره لشمائلهم وعاداتهم من أماكن وحرف ومهن وبيوت وأغذية وأدوات طعام واهتم أيضاً بطرح معتقداتنا الدينية المصرية الإسلامية والمسيحية بذكر قصص توضح بعض العادات والطقوس المتبعة في المناسبات العامة مصاحبة لرسوم بسيطة تضفي جواً من الصدق والدفء المصري الجميل مرتكزة علي "الأسماء العامية المتداولة للأشياء عموما، "كالطشت، الملاية وبائع العرقسوس"وغيرها لما أدركه المؤلف من اقتران اللهجة العامية الأصلية بمسمي كل لفظ مراعاة لصدق الطرح وتحقيقاٌ للروح المصرية المراد بثها عبر الكتاب حتي ليعترف مترجمه الأستاذ " عدلي طاهر نور " ويقول في مقدمة ترجمته للكتاب ( لم أر بعد المقريزي في كتابه " المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار" ولا بعد الجبرتي في كتابه " عجائب الآثار في التاريخ والأخبار " من عني بتسجيل العادات المصرية والشعبية بدقة وأمانة إلا المستشرق الكبير " إدوارد وليم لين" في هذا الكتاب الذي لم أكد أفرغ من قراءته حتي عقدت نيتي علي ترجمته لأنقل إلي لغتنا العربية سجلاً حافلاً لعاداتنا واعتقاداتنا وأساطيرنا في القرن التاسع عشر ).
ولعل قلة الجهود المصرية التي تمت في هذا الصدد هو ما جعل الدكتور " أحمد مرسي " يقول (وتكاد مصر أن تكون من البلاد القليلة التي لم يجد تراثها الشعبي ما هو جدير به من اهتمام ورعاية، فما زالت حركة الجمع والتسجيل تسير علي غير هدي، وفي استحياء شديد).
جاستون ماسبيرو
أقام المستشرق «جاستون ماسبيرو» في مصر سنين كثيرة حين كان يعمل مديراً لمصلحة الآثار المصرية وكان رئيساً للبعثة الفرنسية لاكتشاف الآثار ؛ فعشق مصر عشقاً غريباً فقد كان له اهتمام خاص بالأهرامات ، حتي أشاع عشقاً " بأن الأهرامات تتحدث" وجمع وترجم الكثير من أوراق البردي المصرية القديمة ونشرها في كتاب بعنوان " الحكايات الشعبية في مصر القديمة" وترجم لها ومن مؤلفاته " مؤلفات في التاريخ المصري القديم " و"دراسات في الميثيولوجيا المصرية " وغيرها ، حتي استطاع أن يؤسس المعهد الفرنسي للآثار الشرقية في القاهرة، ولقد ساعده منصبه علي الغوص في فهم الشخصية المصرية فمر بوجدانه علي كل الطوائف والحرف وعاصر حديثهم وأغانيهم وأفراحهم وأحزانهم حتي خرج لنا بكتابه الأكثر شيوعاً وبريقاً وهو" الأغاني الشعبية في صعيد مصر " فقد جمعها من صعيد مصر، حيث كانت له معرفة واسعة بعلم المصريات ، واستطاع أن يجمع في كتابه حوالي مائة أغنية من قري ومدن أسيوط والأقصر وغيرهما وقد جمع مادة كتابه مابين " عام 1910_1914" وكتب مقدمته بالفرنسية وقد قسمه لأقسام ثلاثة " أغاني الزواج والختان ، بكائيات الجناز ، أغاني العمل والحج " وتأتي روعة هذا الكتاب من شدة خصوصيته المصرية واقتناص اللهجة المصرية القديمة والتي كان حريصاً علي تفسير مرادف اللفظ الصعيدي العامي بآخر موضحاً معناه للقارئ ويظهر لنا مدي معاناته الشديدة في جمع مادة كتابه حين يقول في مقدمته (كان من المستحيل لي أن أقنع الفلاحين أوالغنائيين المحترفين بأن يملوا علي ، بمجرد أن يرددوا علي مسامعي الألفاظ التي كانوا قد نشروها للتولأنهم كانوا يعتقدون أنني أردت أن أسخر منهم أوأسعي للاستغناء عن مساعداتهم ) حتي يشيد بجهود سكرتيره " السيد نصري " الذي هومن أصل سوري والذي أقنع الفلاحين والعمال لتسجيل الأغاني . ومن الأغاني التي أوردها" جاستون ماسبيرو" في كتابه والتي تعبر عن خصوصية" صاحب الشادوف" وبنفس لهجته المصرية الصعيدية الغضة
جرحي من المي ... مكران علي
مكتوب يا ناس .. من القدم للراس
كتبه سيدي .... وأنا إيش بإيدي
ثم يعقبه بتفسير كلمة " المي" بالماء"
.........
وفي البكائيات نراه يذكر أغنية تُغني " علي من مات غريقاً"
بحر الدميرة جروف فوق جروف
ولا قلب حسنه يطلّع الملهوف
بحر الدميرة رمال فوق رمال
ولا قلب حسنة يطلّع الغرقان
...........
ويذكر أن لفظ الدميرة " لفظة هيروغليفية الأصل من "تا ، مري ومعناها " وقت الفيضان" وهكذا تستمر أغانيه داخل كتابه " الأغاني الشعبية في صعيد مصر" في مناجاة كل حس مصري أصيل بلهجة عامية واضحة ومفسرة ، حتي لتشعر، ما لم تعرف اسم صاحب الكتاب بمصريته وشعبيته الراسخة في وجدان الحرف والطوائف والتي جعلته يذوب عشقاً في جمال العامية المصرية بحثاً وترجمةً فهل يقّدرها أصحابها اليوم بقدر ما قدرها جاستون ماسبيرووغيره قديماً؟!
نقلا عن جريدة القاهرة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق