"أثر نظرية النّظم في الدّراسات الأسلوبيّة"لحسام اللحام
د.سناء شعلان
عن دار فضاءات للنشر والتوزيع في عمان في العام 2008 صدر كتاب" أثر نظرية النّظم في الدّراسات الأسلوبيّة"،لمؤلفه د.حسام اللحام،في واقع 221 صفحة.وهو يعرض في تمهيده مفهوم النظم عند عبد القاهر الجرجاني الذي يقوم عنده على الربط بين الإمكانات النحوية التي تتيحها اللغة،وقدرة المبدع على استغلال هذه الإمكانات. وقد فرّق الجرجاني في تعريفه للنظم بين الحروف ونظم الكلم. وفي ضوء ذلك فقد قام الجرجاني في كتابيه" دلائل الإعجاز"و"أسرار البلاغة" على دراسة الكلام بوصفه عملاً إبداعياً مؤلفاً من العلاقات بين المفردات.
في حين نظر إلى اللفظ والمعنى على أنّهما ثنائية يجب التبصّر في الناتج الدلالي الذي ينشأ من اتحادهما،وقادته هذه النظرة إلى أن يقسّم الكلام إلى نوعين:نوع تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده،ونوع لا تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده،ولكن يدلّك اللفظ على معناه الذي يقتضيه موضوعه في اللغة،ثم تجد لذلك معنى دلالة ثنائية تصل بها إلى الغرض.
وعُني الجرجاني كذلك في تعريفه للنظم بتوضيح الصّلة بين اللفظ المنطوق والمعنى النفسي،واعتمد في إبراز هذه الصلة على توجيه النّظر إلى عملية تأليف الكلام الذي ينشأ من طريق الفكر.
أمّا فيما يخصّ مصطلح الصورة عنده،فهو يأتي للدّلالة على الأنواع المجازية،وعلى وجه من التجريد العقلي تّستخلص من الأشكال اللغوية الماثلة في النّص،ويتوصّل إليها بالتفكير في العلاقات التي تشكّل هذا النّص.وينظر إلى التعبيرات المجازية على أنّها أهمّ ما يميّز الكلام العادي عن الأدبي،وهو يجعل الصّورة التي تتألّف من هذه التعبيرات أساس الشّعر بل الشّعر نفسه.
ويرى المؤلّف أنّ الجرجاني قد عرض لمصطلح الأسلوب في تناوله لموضوع الاحتذاء في الشّعر،وهو في هذا الشأن يرى أنّ الأسلوب هو قالب مشترك يتكيّف على حسبه الكلام،ويتمّ عن قصد واختيار من المتكلّم،وهو بذلك لا يتحقّق في أنفس الألفاظ المجرّدة وتواليها في النطق.وبهذا الأسلوب الذي هو لبّ العمل الإبداعي وبصمة المبدع يختصّ الكلام،وينسب إليه.
ويعرض المؤلّف إلى كثير من الوقفات والنظرات والآراء عند الدارسين المحدثين الذين توقفوا عند نظرية النّظم عند الجرجاني،ورأوا وجود إشارة إلى مصطلح الأسلوب فيها، أمثال أحمد الشايب،وأحمد الزيّات،وشفيع السيد،وعبد المنعم خفاجي،وشوقي الزهرة.
وفي إزاء هذه الآراء يقف المؤلّف عند النظرية المعاصرة في دراسة الأدب التي تقوم على تفسير الأعمال الأدبية ذاتها،ومن ثم تحليلها.وفي مقابل ذلك تأتي البلاغة العربية لتتمثّل مفهوم النّظرية المعاصرة في دراسة الأدب،لاسيما أنّ الثلث الأخير من القرن العشرين قد شهد نهضة حقيقية في الاهتمام بالبلاغة العربية بسبب الأهمية المتزايدة للسانيات التداولية،ونظريات التواصل،والسيميائيات،والشعرية اللسانية في مجال وصف الخصائص الإقناعية للنصوص وتقويمها،ويبدو أنّ روّاد النهضة أمثال رولان بارت،وجيرار جينيت،وتودوروف استطاعوا أن يجعلوا من البلاعة مبحثاً علمياً عصرياً يتمثّل هدفها الأوّل في تحليل النصوص لا إنتاجها.
وقد حلّت الدراسة الأسلوبية في الثقافة الغربية محل البلاغة القديمة،وأطلق على الدراسات الأسلوبية البلاغة الجديدة؛لاعتمادها في بناء النتائج على دراسة الوقائع الأسلوبية في النص.
والأسلوبية ترتكز على البنية اللغوية انطلاقاً من تفرقة "دي سوسير" بين اللغة والكلام؛فاللغة عنده نظام متعارف عليه من الرموز التي يتفاهم بها النّاس،أمّا الكلام فهو صورة اللغة المحققة في استعمال فرد معين في حالة معينة.
والأسلوبية ترتكز على الدّقة والموضوعية،ولذلك فهي تقتضي من المحلل الأسلوبي أن يكون ذا معرفة كبيرة في اللغة في مستوياتها المختلفة،لكي يتمكّن من الكشف عن أسلوب الأديب،ومن ثم يتجلّى الواقع الأسلوبي واقعاً لغوياً يحمل طابع مبدعه الذاتي،ويعبّر عن عالمه الداخلي ورؤيته للعالم.
ويقوم التحليل الأسلوبي على ثوابت معينة،منها: اعتبار لغة النص نقطة الانطلاق في التحليل،والتقاط ماتوفّره بنية العمل الأدبي من سمات فنية يستطيع المحلّل أن يفسّر بها الخصائص الأسلوبية.
وقد دعا الكثير من الباحثين والدارسين إلى تبنّي منهج عبد القادر الجرجاني في تحليل الأعمال الأدبية، أمثال: محمد مندور،وعبد المنعم تليمة،ومحمد العشماوي،وأحمد دهمان،ومحمد عبد المطلب.
والحديث عن الأسلوبية يقودنا إلى الحديث عن الصورة،وهي ركيزة أساسية في بنية العمل الأدبي.وفي هذا الشأن ينظر النقد الحديث إليها باعتبارها وسيلة الناقد التي يستكشف بها القصيدة،وموقف الشاعر من الواقع،وهي إحدى معاييره الهامة في الحكم على أصالة التجربة،وقدرة الشاعر على تشكيلها في نسق يُحقّق المتعة والخبرة لمن يتلقّاه.
ويأتي النقد الحديث ليقدم رؤية للصورة تختلف عن رؤية النقد القديم لها،على الرغم من أنّ النقدين بهذا يلتقيان في إثارة المشاكل والقضايا التي يطرحها هذا المصطلح،فالنقد الحديث يركّز مفهوم الصورة على ما يستبقيه الذهن من التجارب الحسية ليست نسخاً للأشياء المحسّة،ولكنّه آثار لها يمكن أن يمتزج بعضها ببعض،وغالباً ما يقوم الشّعر بهذا المزج.
ويثبت المؤلّف بهذا الكتاب جانباً تطبيقياً لدراسته،ويعرض فيه لدراستين أفادتا من نظرية النّظم في مجال التّطبيق،وهما كتاب" دلالات التراكيب" لمحمد أبو موسى،وكتاب " البلاغة العربية قراءة أخرى" لمحمد عبد المطلب.
ويخلص المؤلّف في كتابه إلى أهمية نظرية النّظم في التراث البلاغي،وحضورها الفاعل في الدّرس الأسلوبي الحديث مؤكداً على إلحاح ضرورة الإفادة منها في التأسيس لعلم الأسلوب العربي. وفي هذا المضمون يرى المؤلّف أنّ هناك حاجة حيوية إلى الدراسات الأسلوبية لفهم الظاهرة الأدبية بكلّ مستوياتها،عازياً ذلك إلى أنّ بلاغة الأسلوب هي المعوّل عليها في شدّ انتباهنا كما يقول هنريش بليث،ليس فقط لأنّها توجد في مركز الحوار،بل لأنّها نقطة التقاء ثلاثة مباحث أخرى،وهي: البلاغة،والأسلوبية،والشعرية.
وفي هذا المضمار يؤكّد جورج مونان في كتابه " مفاتيح الألسنية" أنّ كلّ أسلوبية تفضي إلى بلاغة،وأنّ كلّ نظرية لا تفسّر لماذا تصبح كلّ أسلوبية بلاغة لن تبلغ منابع سرّ الأسلوب الحقيقية.ويعتقد المؤلف أنّ حداثة علم الأسلوب تساعد على تشكيل أسلوبية عربية،فهو آخر ما تفرع من علوم اللغة الذي تأسّس على أنقاض البلاغة العربية القديمة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق