قاسم مسعد عليوة: «الغزالة» قفزة لكشف الحياة في قاع المدينة
كتب خالد بيومي
قاسم مسعد عليوة كاتب ينتمي إلي جيل السبعينيات، يعزف في كتاباته علي الوتر الانساني بكل عذوبته وصفائه، ما منح كتاباته درجة عالية من الشاعرية، وهو يقيم في مسقط رأسه بورسعيد بعيدا عن أضواء العاصمة، يعمل في صمت رغم تجاهل النقاد لكتاباته فإنه لم ييأس وجاءت روايته الأولي "غزالة"، التي احتفي بها النقاد لترد إليه بعض الاعتبار بعد رحلة طويلة مع القصة القصيرة، "روزاليوسف" التقته وكان هذا الحوار:
< بعد رحلة طويلة مع القصة القصيرة تحولتَ إلي كتابة الرواية.. ما سر هذا التحول؟ - لا يصح أن تؤخذ كتابتي لرواية (الغزالة) علي أنها نقض لمواثيقي مع القصة القصيرة، أو أنها مسايرة مني للـ"موضة" السائدة التي جعلت من الزمن الحاضر زمناً للرواية، فقد أنتجتُ في بداياتي الأولي عدداً من الروايات والمسرحيات. أذكر من الروايات: (قتيلان في بستان) و(العنكبوت)، ومع حرب الاستنزاف كتبت رواية أعطيتها عنواناً مؤقتاً هو (العبور)، وراجعت هذه الرواية إثر حرب أكتوبر، وكانت تعرض للتيارات الفكرية والسياسية إذ تجتمع في أتون الحرب، لكن للأسف الشديد أحرقتْ هذه الروايات ضمن ما أحرق أهلي من إبداعاتي وكتبي من فرط خشيتهم علي فور اعتقال السادات لي في العام 1974م. بعد خروجي من السجن الذي اعتقلت فيه كتبت عدة فصول من روايتي ذات الصبغة السياسية (تحت التمرين)، لكن المطاردات البوليسية أفقدتني الكثير منها، فقد كنت أخبئها لدي أصدقائي، وحدث أن استعدتُ بعد مدة فصلاً منها فقمتُ بنشره في مجلة "أدب ونقد"، وأتمني لو تمكنتُ من استكمال هذه الرواية، وواثق أنا من أن القصة القصيرة لن تغضب مني ولن تتحول عني. < ما سبب اختيارك لاسم "الغزالة" لتطلقه علي الرواية؟ - كنتُ أهم بكتابة عمل واقعي يعالج أوضاع الحياة في قاع المدينة التي لمستُ مدي بشاعتها عبر الوظيفة الحكومية التي كنت أشغلها، وكم كانت هذه الأوضاع مرعبة لي، لكنني فوجئتُ بـ (الغزالة) ترنو إلي وتصرفني عن الخاص إلي العام، وتأخذني من الجزئي إلي الكلي، ولعل دافعي إلي هذا إحساس طاغ بدنو أجلي بعدما اكتشفتُ إصابتي بحزمة من الأمراض أظهرت لي نفسها دفعة واحدة، فلكأنني من خلال هذه الرواية أردتُ أنْ أقول كلمتي للعالم قبل أنْ أفارقه، والمفارقة أنني مازلتُ أعيش ومازلتُ أكتب، ولعل التلقي الطيب للـ (الغزالة) قد شفاني. أنا المصيد إذن لا الصائد، وقد ينطبق هذا علي أغلب إبداعاتي. < هل قيام الرواية علي الثنائيات المتضادة إشارة لنظرة صوفية للوجود؟ - نعم الرواية محتشدة بالثنائيات الضدية المتضمَّنة بالسؤال، وبغيرها أيضاً ومن أمثلتها: العدل والظلم، الحرية والاستبداد، الحكام والمحكومين، والحرب والسلم؛ وهذه الثنائيات ليست مستقلة عن بعضها البعض؛ وتأمل قضايا الوجود ليس حكراً علي الصوفيين وحدهم، فالعلماء، والأدباء، والقادرون علي إعمال آلة الفكر ورصد آيات الجمال الكوني، معنيون مثلهم مثل الصوفيين بقضايا الوجود. وأصارحك والقراء الأعزاء بأنني سألتُ نفسي أثناء كتابة الرواية سؤالاً مفاده "هل يمكن للمنجز الجمالي الصوفي أن يكون أداة للتقدم؟"، وغالب ظني أن الرواية حملتْ إرهاصات الإجابة علي هذا السؤال بدون تقنُّع أو ادعاء تلبس، لأنها رواية تدين الزيف وتنشد الحقيقة. < جاءت الرواية خالية من الحبكة المعتادة.. لماذا؟ - اعتاد العرب علي الرواية الناقوسية، أي التي تأخذ الحبكة فيها شكل الناقوس أو الجرس: بداية، ذروة، ونهاية؛ كما ألفوا الرواية الدائرية حيث تعود الرواية إلي حيث بدأت بالتشابه بين نقطتي البدء والانتهاء؛ لكنني مع (الغزالة) فعلتُ ما هو ليس معتاداً أو مألوفاً في الرواية العربية، إذ جمعتُ كل الحبكات وصففتها في خط أفقي ما من نقطة من نقاطه إلا هي مشدودة إلي النقطة التي سبقتها والنقطة التي تلتها، الأمر الذي يؤكد قيام الحبكة الكلية بوظائفها الجمالية والمعرفية. < رغم قيام الكتابة حاليا علي اللغة التلغرافية لازلت تستخدم لغة تراثية كلاسيكية.. ألا تخشي أن يبعدك هذا عن القارئ؟ - التكثيف هو عماد رواية (الغزالة) فالجمل الحوارية والسردية علي اقتضابها وخلوها من الشروح والتفسيرات والتعليقات، وبما احتوته من إحالات، فتحت الباب واسعاً أمام تأويلات القارئ واجتهاداته، وأتاحت له الفرصة للمشاركة في إعادة إنتاج الدلالة، وهذه إحدي فوائد التكثيف، أما عن التراثية فلم آخذ من لغتها سوي ما يتصل منها بالتصوف، وعلي الرغم من صوفية اللغة وتراثيتها إلا أنها استوعبت الحروب الحديثة وأسلحتها وأساليبها، مثلما استوعبت قضايا العلم وتطبيقاته الصناعية وتأثيرات هذه التطبيقات علي البيئية من ناحية وعلي البشر من ناحية أخري. < هل تؤرقك الغاية الجمالية للفن؟ - يقيني أنه ما لم تؤرق الغاية الجمالية الأديب المبدع، فإنه لا يستحق أن يُنعت لا بالأديب ولا بالمبدع، كنتُ أخضع أعمالي لقياسات عدة، وكنت أقسو علي نفسي حتي لا أنجرف وراء السهل وأنجذب إلي المجاني، والآن بعد أن أمضيتُ في هذه الرحلة ما يقرب من نصف القرن كتابة ومرانا، وأربعين عاماً كتابة ونشراً، مازال ذات الأرق يعاودني فأخضع أعمالي للمراجعة بعد كتابتها بمدة كيما أتخلص من انحيازي للنصوص وأنظر إليها نظرة الناقد المتفحص، وأزعم أنني من هذه الناحية أقسي النقاد علي نفسي. < ما موقع المرأة في كتاباتك؟ - إنَّ لي مجموعة قصصية اقتصرت علي المرأة وعوالمها: جوانية وبرانية، هذه المجموعة هي (خبرات أنثوية)، أفضل مجموعة قصصية صدرت في العام 1999م. حسب استفتاء أجرته وكالة الشرق الأوسط للأنباء، المرأة عندي هي الإنسانة، الفاعلة، الخائفة، الشجاعة، المناضلة، العطوف، الرءوم، المنتقمة، الشرسة، اللعوب، ..الخ؛ وأياً ما كانت فهي جميلة ومعطاء. < برأيك هل الأديب بحاجة إلي مؤسسة تحتضنه؟ - لا.. صحيح أن الأديب شاء أم أبي سيضطر إلي التعامل مع هذه المؤسسة أو تلك، وقد يكون أساس هذا التعامل الاتفاق أو المعارضة، التواطؤ أو المطاردة، لكن بإمكان الأديب أن ينهض بشئونه الإبداعية بنفسه؛ وهو من هذه الناحية مؤسسة وحده، أما فيما يتعلق بشئون الطباعة والنشر والتسويق الإعلامي فلا بد من احتكاكه بالمؤسسات علي تنوعها: سياسية، ثقافية، إعلامية، وتجارية، المعادلة الصعبة هي كيف يتعامل الأديب مع المؤسسة ويحافظ في نفس الوقت علي استقلاله، أزعم أنَّ قليلين تمكنوا من إيجاد حل صحيح لهذه المعادلة، وأزعم أنني واحد منهم، إن أسوأ الأدباء تصنيفاً هم أولئك الذين يتواطؤن مع المؤسسة ويستجيبون لإملاءاتها. < هل إقامتك في بورسعيد أثرت بالسلب أم بالإيجاب علي تجربتك الإبداعية؟ - من حيث الإبداع أحسب أن تأثير اعتصامي بمدينة بورسعيد كان إيجابياً للغاية، أما من حيث نيل المكاسب فالعكس هو الصحيح، واستلزم الأمر نضالاً فاق طاقات الجبابرة حتي حظيت أعمالي بقدر من الذيوع مقبول. < هل أنت راضٍ عن المتابعة النقدية لأعمالك؟ مع شعوري بالامتنان لمن تناولوا أعمالي بالنقد، أنا غير راضٍ عن إزورار أغلب النقاد عن متابعة أعمالي، وأتعجب لفريق منهم لا يني يبلغني أفراده إعجابهم بأعمالي والتأكيد لي بأنها ظلمت ظلماً بيناً، ومع هذا فإن أحداً من هؤلاء لم يقترب بأدواته منها ولم يدخل بها إلي مختبره.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق