رسائل 'الشعب يريد': خطاب تجاوز الأحزاب والنخب الثقافية
د. زهور كرام
على الرغم من كوننا ما نزال نعيش أحداث الحالة التاريخية العربية التي بات يصطلح عليها بـ'الربيع الديمقراطي العربي'، والتي ما تزال تبحث عن صفتها التاريخية التي تجعل منها حالة حضارية تعيد للشعوب العربية الكرامة والأمان والاستقرار الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، فإننا نرى أن الوقت أصبح مؤهلا- إلى حد ما للتأمل في الحالة، وتحليلها من أجل المساهمة في إنتاج مجموعة من الأفكار التي قد تساعد على الإدراك والفهم المطلوبين في مثل هذا التحول التاريخي، من أجل مستقبل أكثر ضمانة لكرامة وحرية وحقوق الشعب العربي.
بالنظر إلى المهيمن على مستوى معجم الحالة، يمكن اعتبار التعبير 'الشعب يريد' مدخلا جوهريا لمقاربة ماهية الحالة سواء في بعدها الثوري، أو الاحتجاجي. لهذا، نقترح الاشتغال بهذا التعبير، من أجل رصد طبيعة الرسائل التي يحملها ملفوظ هذا التعبير:
'الشعب يريد'
من أول تظاهرة خرجت بشوارع سيدي بوسعيد بتونس، هيمنت جملة' الشعب يريد..' على الهتافات واللافتات، وعمت الجملة شوارع مدن وعواصم الربيع العربي. وهي جملة تعتبر من أهم المداخل الجوهرية لقراءة خطاب الربيع العربي، بدء من تونس واستمرارا بسوريا مرورا بمصر واليمن وعمان والأردن والبحرين والمغرب. جملة ترددت وما تزال تتردد على ألسنة الشعوب العربية، التي خرجت عن صمتها مع بداية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. وإذا استعنا بمبادئ تحليل الخطاب، فإننا سنجد هذه الجملة تتضمن مؤشرين اثنين، يمكن اعتبارهما اختزالا عميقا لملفوظ الوعي الجمعي للشعب العربي. وهو ملفوظ جديد لم نتعود على سماعه، أو حتى مجرد الإحالة عليه ضمن خطابات الأحزاب وباقي المؤسسات التمثيلية للشعب. لقد اعتبر 'الشعب' دوما الموضوع الذي تتكلم الأحزاب والمؤسسات والأطر والجمعيات عنه، وتنطق باسمه، وتعبر عن حاجاته واحتياجاته، عن طموحاته وأماله. شكل 'الشعب' منذ بداية استقلال البلدان العربية موضوعا يحكى عنه، ويتكلم عنه في النقاش السياسي، ويتم استحضاره في التداول السياسي، ويحضر بقوة الموضوع في أجندة الانتخابات. 'الشعب' دائما هو هذا الحاضر الغائب. الحاضر بقوة الحاجة إليه في اللعبة الانتخابية، والغائب باعتماد لغة غير لغته، ومعجم غير معجمه، ومطالب تنطلق منه، فإذا بها تنزاح عن المسار حين تأتي بلغة الوصاية الحزبية . جملة 'يريد الشعب' تعبر عن تحول جوهري في موقع 'الشعب' من الموضوع المتحدث عنه، إلى موقع المتكلم عن نفسه. وبهذا، فإن أول مظهر متغير في ثقافة الاحتجاج والثورة في منطق الربيع العربي، هو هذا التحول لموقع 'الشعب' من الموضوع إلى الذات الفاعلة في مجرى الحدث التاريخي. انتقال الموقع يؤدي إلى تحول ثان في طبيعة المنظور، أي تصور الشعب لوضعه وحياته. ويتمثل المنظور في المعنى الثاني للجملة' يريد'.
يعد فعل 'يريد' المرافق لتعبير 'الشعب' ثاني متغير في منطق الربيع العربي. إذ، تعودنا استعمال فعل 'نطالب' في الدفاع عن مطالب الشعب، الذي يتم تجزئه إلى فئات، تختص كل جهة سياسية أو إيديولوجية أو حزبية أو حقوقية أو نقابية للدفاع عن مصالحها تحت اسم ' المطالب' والتي اعتمدتها الأحزاب وباقي المؤسسات الحقوقية والنقابية، تلك التي تتحدث عن الشعب سواء باعتبار منظور االفئة( فئة العمال/ الإطار النقابي أو فئة المعتقلين/ الإطار الحقوقي، أو فئة السكان/ الإطار الحزبي...)، ولم يتم توظيف فعل 'يريد' في مختلف الاحتجاجات أو التظاهرات، التي كانت ترفع (تعبيريا/ لغويا) من شأن الجهة الممثلة لمطالب' الشعب' مثل إعلاء اسم الحزب، أو الحركة، أو الإطار النقابي أو الحقوقي، أو الجمعية أو المنظمة. ولذلك، يتم تبئير الإطار التمثيلي أكثر من تبئير الجهة موضوع المطالب (أي الشعب). لذلك، يبقى اسم الحزب أو المنظمة راسخا في الذهن والذاكرة أكثر من عينة المطالب التي قد تذوب مع استراتيجية الدفاع عن الحزب . في منطق الربيع الديمقراطي العربي، حصل انتقال على مستوى طبيعة الفعل. وبما أن كل متكلم له لغته الخاصة ، ومعجمه المميز لحاجياته، فإن الشعب استعمل فعل ' يريد' ليرفع سقف مطالبه ليس على مستوى تحقيقها، وإنما على مستوى الأجرأة الزمنية. فإذا كانت المطالب ترفع إلى جهة عليا في السلطة، وتتم مناقشتها والتوافق حول حدود قبولها تبعا لوضعية الحكومة من جهة ومصالح المؤسسة التمثيلية بدعم من مبدأ المصالح المشتركة، والتي قد تجعل المؤسسة الممثلة لمطالب الشعب، تتنازل عن بعض المطالب، أو ترجئ البعض الآخر إلى مراحل أخرى بسبب مصالح انتخابية أو سياسية، فإن تعبير 'يريد الشعب' قد أسقط كل هذه التوافقات، بل الأكثر من هذا، جاء خطاب الشعب بلغة ملزمة للجهات المسؤولة، وبصيغة فعلية آنية ترفض الإبطاء أو التأخر في تحقيق ما يريده الشعب من مطالب، وهو تعبير يتضمن طبيعة المطالب، التي وإن بدأت حاملة في البداية لقضايا حقوقية وسياسية مثل الكرامة والحرية وإسقاط النظام والفساد ، فإنها في جوهرها عبارة عن مطالب معيشية آنية، يريدها الشعب بسرعة ودون تأخير، وهذا ما انعكس على مفهوم ' الثورة' في نموذجي تونس ومصر، حيث أن الشعب يريد أن يرى الثورة وقد تجسدت في الشغل والسكن والغذاء والتعليم، وأصبحت واقعا ملموسا يرى بالعين، وما نراه قد انعكس على مفهوم الاحتجاج كما في النموذج المغربي، الذي تحول الاحتجاج فيه بعد الاستفتاء على الدستور الجديد، من المطالبة بالكرامة وإسقاط الفساد وتأمين العدالة الاجتماعية إلى احتجاجات المواطنين على ارتفاع فواتير الماء والكهرباء، وإيصال الماء إلى الأحياء المهمشة في المدن الكبيرة والصغيرة، وغير ذلك من المطالب الاجتماعية التي تتعدد بتعدد غيابها في حياة المواطنين. ذلك، لأن الحالة التاريخية العربية، وإن جاء ت ضد الأنظمة الحاكمة وفسادها، فإنها حالة تلزم مدبري الشأن العام في الوضع الجديد بضرورة تحقيق الحاجيات المعيشية، بطريقة مستعجلة، بعيدا عن تعقيد القوانين وخطط التنمية وبرامج الاستعجال الاجتماعي وإصلاح القضاء وتقنين ثقافة حقوق الإنسان. منطق الربيع العربي، يأتي بمواصفات المواطن العربي الذي تعب من الانتظار، والبقاء منذ الاستقلال في فضاء العتبة. لم يعد يتحمل التأخير. إنه مواطن يريد أن يأكل بكرامة، ويشرب ماء نقيا غير ملوث، وحين يشعر بألم يجد أبواب المستشفيات مفتوحه أمام آلامه بدون وجع الضيم، وقيد الظلم، ومنطق المحسوبية، ويريد لابنه عملا في بلده بعيدا عن الموت في أعماق البحر، والتيه في بلد الغربة . مواطن أدرك اللعبة جيدا منذ استقلال بلده، لهذا انتفض وخرج يطلب احتياجاته بدون وسيط حزبي أو حقوقي أو نقابي. وبهذا، يعلن ملفوظ الشعب عن إسقاطه للمؤسسات التمثيلية من وعيه الجمعي:
نحو إسقاط خطاب المؤسسات التمثيلية :
في مقالته التحليلية المهمة حول الربيع العربي'الشعب، الملك، المجتمع'، اعتبر الدكتور سعيد يقطين، وهو يتحدث عن التجربة المغربية أن الشعب قال كلمة التحدي، ثم جاء خطاب الاستجابة من الملك. و'جاءت الكلمتان معا في وقت بات فيه من الضروري النطق بالكلام الصحيح والقويم، وليس بالكلام المريض والمعوج'. وبذلك، يؤسس 'الشعب' لعلاقة مباشرة مع الملك، بعيدا عن وساطة القنوات التمثيلية. وهو ما نسميه هنا بإسقاط الشعب لمختلف الوسائط التمثيلية لصوته في الانتخابات التشريعية والبرلمانية وفي الدفاع الحقوقي والمطالب النقابية. إن انتقال الشعب من الموضوع إلى الذات المسؤولة عن صوتها، واختياره للغة تختزل منظوره التاريخي لحياته، يسقط مختلف المؤسسات من وعيه، ويغيبها حين يتجاوز لغتها وخطابها، بل الأكثر من هذا، يحولها إلى إشكالية تحتاج إلى النقد الذاتي قبل النقد الموضوعي. ويظهر معنى التغييب، في حالة اللاوعي بمنطق ما يحدث من طرف هذه المؤسسات، وفي الاصطدام فيما بينها، ثم في عدم صياغة خطاب يكون في مستوى الحالة التاريخية الجديدة التي يقودها منطق ملفوظ الشعب. ولهذا، فإن طبيعة النقاشات الدائرة في الإعلام بين المؤسسات التمثيلية في معنى تحقيق ملفوظ الشعب 'يريد الشعب'، تعبر عن فجائية خطاب الشعب الذي بانتقاله من موقعه التاريخي إلى موقع جديد قد أربك كل الحسابات التقليدية.
إن مفهوم الإسقاط، لا يعني هنا، تجاوز المؤسسات التمثيلية باعتبارها إطارات مادية، ينعدم وجودها مع الحالة التاريخية الجديدة للشعوب العربية، إنما الإسقاط هنا يأخذ معنى ضمنيا، أي إسقاطها باعتبارها خطابات وتدابير وبرامج وتصورات ورؤى واستراتيجيات وتحالفات لم تتمكن من تحقيق مبدأ الكرامة.
الوسائط التكنولوجية بديلا للوساطة التقليدية:
احتلت الوسائط التكنولوجية من شبكة النت ومختلف أشكال المواقع الاجتماعية من فيس بوك وتوتير وغيرها، الصدارة في إعلان إرادة الشعب. فقد بدأت الإرادة افتراضيا، عبر الدعوة إلى التجمع والتظاهر أولا، ثم انتقلت إلى واجهة تنسيقية بين مختلف الشرائح الاجتماعية، ليتطور التفاعل مع الوسائط إلى نقل المعلومة وهي ساخنة من منطقة الحدث، مدعمة بالصورة والصوت وحالة المزاج، مواكبة لمختلف محطات الثورة والاحتجاجات، ومع هذا التوظيف، تصبح المعلومة سلطة في يد ملفوظ الشعب، يعبر ويفضح ويعري ويكشف ويحتج عن طريقها، ويوصل خطابه بشكل مباشر- ليس فقط إلى المسؤولين المباشرين عن تدبير شأنهم العام، وإنما أيضا إلى العالم بأسره، ليضع المسؤولين في منطقة الفضح والعري، ومن ثم في منطقة الخطر، إذا لم تستجاب إرادته.
نسجل في هذا المستوى من منطق الربيع الديمقراطي العربي، متغيرا ثالثا، بموجبه تتراجع الوسائط التقليدية من أحزاب ومؤسسات ومنظمات وجمعيات كانت تعد القنوات الأساسية لتمثيل الشعب في مؤسسات الدولة، والتي باتت الآن قنوات تقليدية إلى وسائط حديثة تفتح أفاقا مفتوحة على كل الافتراضات والاحتمالات أمام المواطنين، لكي يعبروا ويعلقوا ويصرخوا ويفضحوا بلغاتهم وأصواتهم، بمفرداتهم ومعجمهم، بالصورة والصوت، وباللون والمزاج.
أسئلة من وحي الملفوظ الجمعي الشعبي:
أمام هذه المتغيرات التي يحدثها ملفوظ الشعب العربي، وهو يتحقق بمستويات مختلفة، تتطلب تأملات عبر عقد المسافة من الحدث، يمكن تلمس الرسائل الأولى التي يمررها هذا الملفوظ إلى المشتغلين في الحياة السياسية والنقابية والحقوقية والثقافية، ومن بينها الأسئلة التالية:
رسالة إلى الأحزاب: يسقط ملفوظ 'يريد الشعب' الخطاب الحزبي من الحالة التاريخية للوعي الجمعي، ويتجاوز الأحزاب باعتبارها وسائط لإيصال صوته، معبرا بذلك عن فشل برامجها وخططها وفشل وساطتها التي لم تتمكن من ضمان الحياة الكريمة للمواطن العربي منذ بداية مرحلة الاستقلال.
فهل الأحزاب على وعي بهذه الرسالة؟ وهل تمتلك من الوعي التاريخي ما يكفي لإعادة صياغة منظومتها الفكرية، وتغيير أدواتها وأساليبها ؟ كيف للأحزاب الانخراط في اللحظة التاريخية الراهنة، وهي مغيبة في الوعي الجمعي الشعبي؟ هل تملك القدرة والجرأة التاريخية على النقد الذاتي؟ ألا يشكل وضع الأحزاب أزمة حقيقية أمام الانتصار الحقيقي للحالة التاريخية العربية؟.
رسالة إلى المؤسسات النقابية: من خلال التظاهرات والاحتجاجات لاحظنا خروج مختلف فئات الشعب إلى الشارع العام، ليس للتنديد بالأوضاع المعيشية المزرية، وإنما بالتعجيل في تحقيق المطالب، وإذا أخذنا نموذج المغرب ، سنلاحظ العديد من العمال والعاملات الذين يوجدون في حالة اعتصام منذ شهور أمام المصانع والشركات، إلى جانب عينة من اللافتات التي حملها المواطنون في مدن مغربية كثيرة تحتج على المشغل، وتطالب بالتدخل السريع من أجل استرجاع حقوق العرق الذي يتم هدره مجانيا مع نظام الخصخصة. رسالة ثانية إلى الإطارات النقابية وهي تعيش هذا الربيع الذي تجاوز كل خطاباتها:
فهل النقابات تدرك جيدا هذه الرسالة، وهل تملك القدرة على الانتصار إلى العمال والصناع والحرفيين؟ وهل تملك مشروعا موازيا لما يحدث؟ ثم هل تعي تجاوزها في ملفوظ الشعب الذي أصبحت له وسائطه الخاصة للفضح والعري؟.
رسالة إلى المؤسسات الثقافية: أسقط الربيع الديمقراطي العربي مجموعة من القفازات والأوهام التي كانت تتكئ عليها الأكثرية من المؤسسات الثقافية، حين كانت تبرمج المواقف والرؤى ضمن توجهات سياسية. وما نشهده اليوم من حالة الكثير من المثقفين بين الصامت والمهادن في صمته، والمنزوي في ركن غير مكشوف انتظارا لما سيتخذه الوضع، وبين مؤيد للربيع ومناصر له، وبين من ركب الحدث بشكل انفعالي بحثا عن مكانة في المرحلة الجديدة، وبين محلل متأمل لما يحدث، تاركا المسافة عن الحدث من أجل المساهمة في الربيع انطلاقا من رؤية تحليلية موضوعية، يجعلنا نقترح الأسئلة التالية:
فهل تستوعب المؤسسات الثقافية إرادة الشعوب، في ثقافة حقيقية، لا تبيع نفسها إلى الحاكم وأتباعه؟ وهل أخذ بعض المثقفين الدرس مما حدث/يحدث بأن من يخذل الشعوب، فإنما يخذل التاريخ والإنسانية؟ هل استوعبت المؤسسات الثقافية ما تبنيه الوسائط التكنلوجية الحديثة من ثقافة جديدة، أصبح المواطن فيها فردا قائما بذاته وبصوته؟ وهل هناك استراتيجية جديدة للتعامل مع المرحلة الجديدة؟ ومع الثقافة الجديدة التي تغير المفاهيم والقيم وأساليب النقاش؟.
تلك بعض الرسائل/الأسئلة التي يمكن قراءتها من ملفوظ الوعي الجمعي العربي 'يريد الشعب'.
اكاديمية وكاتبة مغربية
المصدر: جريدة القدس العربي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق