2011/10/19

(نشارة الحياة).. الأدب هامشاً / الأدب متناً للدكتور.محمد صابر عبيد


(نشارة الحياة).. الأدب هامشاً / الأدب متناً


د.محمد صابر عبيد

((اسمع، أنا صنعت نفسي وأدبي كله من “نشارة” الحياة)) ـ نجيب محفوظ قائلاً لرجاء النقاش ـ

        لعلّ العتبة التي وضعتُها تصديراً لمقاربتي هذه يمكن أن تثير شبكة واسعة وعميقة من الأسئلة المثيرة، منها ما يتعلّق بطبيعة العبارة المنسوجة بحكمة فلسفية متقنة، وأخرى تتعلّق حتماً بقائلها نجيب محفوظ ((درّة السرد الروائي العربي)).

 لكنّ المناسبة الإجرائية التي تدعوني إلى تقديم مرافعة منهجية لتبنّي رؤيتي لها هنا تتصل على نحو ما بهوية هذه المقاربة ومقولتها، إذ إنني أجتهد في توجيه مجال الرؤية نحو سرد الذات (الكتابة عن الذات)، وهي تأخذ عادةً مسارب شتّى، وتشتغل على أنساق شتّى، وتنحو أنحاءً مختلفة ومتباينة ومتنوعة بحسب جوهر الكتابة وفلسفتها وأسلوبية التعبير عند كاتبها .

     مفهوم الـــ ((نشارة)) يلتحق مباشرة  ضمن الرؤية التداولية الطبيعية بالهامش، إذ هو بقايا المتن الخشبي ورذاذه المتطاير هنا وهناك بوصفه زوائد يجري التخلّص منها كي تترك المتن الخشبي الذي يعمل عليه النجار في حالته المثالية القصوى، بمعنى أنها ليست سوى (سقط المتاع) الذي غالباً ما يكون مصيره خارج قوس الاهتمام والاكتراث تماماً، غير أن صيحة نجيب محفوظ المشحونة بخصب الرؤية وثرائها رفعت هامش النشارة إلى أعلى قمة المتن، حين تحوّل نجيب محفوظ وأدبه كلّه إلى نتاج لهذه النشارة الخارجة من متن الحياة.
    يحصل هنا انقلاب شديد الحساسية والمعنى والقيمة في فهم طبيعة تشكيل المتن وطبيعة تشكيل الهامش، إذ يهمل نجيب محفوظ الحياة كلّها ـــ التي تؤخذ في مستوى الإدراك الطبيعي دائماً على أنها (متن المتون) ـــ متوجهاً نحو الهامش (النشارة)، كي يعترف بأنها من صنعه وصنع أدبه كلّه، ولعلّ في هذا الكلام السيميائي والرمزي إشارة حيّة بالغة التركيز والخطورة على أن علاقة الأدب والفن بالحياة تنبع من غامض الهامش لا من واضح المركز، ومن يتوجّه إلى متن الحياة باندفاع حارّ وحماس شديد لينهل منها أدبه سينتهي إلى راوٍ تسجيلي لا يرى إلا ما يراه الآخرون، في حين يرى عاشق الهامش (النشارة) بعينه النافذة الساحرة ما لا يراه الآخرون، وهذا هو الفرق الذي يجعل من نجيب محفوظ متناً سردياً عربياً أصيلاً، ومن غيره عارض حكايات يعرفها الجميع ويتقن روايتها الجميع .

      في كتابها الموسوم بـــ ((مذكرات أديبة فاشلة)) تسعى زينب البحراني إلى عرض تجربتها المرّة في عالم الكتابة، وهو كتاب سيرذاتي وصّفته البحراني أجناسياً بــ ((مذكرات)) وخصصته بــ ((أديبة)) كي تضعه في فضاء الأدب الذي يحيل على الذات الكاتبة حصراً، ثم وصفته بــ ((فاشلة)) مبالغة في التخصيص وتوجيه القراءة نحو بؤرة محددة تذهب بإشارتها مباشرة نحو المقولة المركزية/الموضوع .

      الكتاب محاط ومحروس ومدجج بمنظومة كبيرة من التصديرات والتقديمات التي تنوّعت في أهميتها وجدواها وعلاميتها، حتى بدت وكأنها أكبر من حاجة الكتاب الفعلية للاحتماء والتمترس وصدّ الغارات المحتملة من الجهات كلّها، لكنها على العموم كشفت عن لجوء الكاتبة العربية عموماً إلى (عتبات) تستند إليها في حربها الطويلة القاسية من أجل إثبات الذات الكاتبة في وسط معادٍ يعمل على قمعها وكبتها وعدم الاعتراف بوجودها.

     قسّمت الكاتبة كتابها على ((30)) فقرة داخل أحد عشر فشلاً (فصلاً)، كل فقرة تشبه لوحة أو قصة قصيرة، ساعية في كل فقرة/لوحة/قصة إلى عرض جزء من تجربتها في الكتابة والحياة والحال والموقف والرؤية، وقد شكّلتها على صورة ((مذكرات)) كما أعلنت ذلك في عتبة عنوانها، وإذا كانت لوحات الكتاب الثلاثون كلّها تشتغل على تمثل التجربة، ووعي كتابتها، وعرضها بلسان الراوي الذاتي الحرّ، فإن جوهر المعاناة التي تمركزت في/حول البؤرة السيرذاتية في الكتابة ذهبت نحو سياق عام غير شخصي، إذ كل كاتبة عربية تريد إثبات ذاتها الكاتبة في مجتمع محافظ تعاني المعاناة نفسها وتشرب من الكأس نفسه، وكل كاتبة عربية (وحتى كاتب عربي أيضاً) ذاق الأمرّين ( أو أكثر) من تعامله مع دور النشر العربية التي لا تعرف سوى شيء واحد هو (الربح الظالم) على حساب جهد الكاتب وكرامته وأعصابه، على النحو الذي لم يسمح لرغبة القراءة كثيراً في تلمّس شخصية زينب البحراني وتجربتها الذاتية بكثير من الضوء السيرذاتي حيث وعدت به عتبة العنونة .

    بما أن ستراتيجية العتبات النصية تمثل في هذا الكتاب السيرذاتي مهيمناً واضحاً وطاغياً ومقصوداً، فقد وجّهت مقاربتي للاشتغال على هذا المفصل الكتابي ومعاينة تشكيل الكتاب على أساسه، واستجابة لمعطياته وضروراته، وسعيت أولاً إلى تفحّص عتبة العنوان ((مذكرات أديبة فاشلة)) بوصفه العتبة الأولى المركزية الصادمة التي تقود رغبة القراءة نحو الكشف عن هذه المذكرات، بمعرفة الأديبة صاحبتها، وتلمّس مواطن الفشل التي ستعترف بها لاحقاً، حيث سيستجيب المتن لفضاء العنونة ويفي بمتطلباتها على النحو الذي يكون فيه العنوان ضابطاً عتباتياً نموذجياً لتلقي العمل .

   تحت عنوان ((المؤلفة في سطور)) في نهاية الكتاب وفي فقرة (المؤلفات) نجد أن كل تجربة الكاتبة زينب البحراني الإبداعية تتلخص في إصدار مجموعة قصصية واحدة منشورة عام 2008 هي ((فتاة البسكويت))، على النحو الذي تبدو فيها عبارة ((أديبة فاشلة)) وكأنها تقصد الضد ((أديبة ناجحة))، لأن الوصول إلى مرحلة كتابة مذكرات بهذا العنوان المثير والجريء تأتي في نهاية تجربة كبيرة وواسعة وعميقة في مجال النشر والكتابة والإبداع والسجال الثقافي على أكثر من صعيد ــــ كماً ونوعاً ـــــ، وهو ما لا يتلاءم مع تجربة البحراني في نشر مجموعة قصصية واحدة، لا تتيح فرصة كافية لتمثّل تجربة الفشل أو النجاح من جهة، ولا تتيح لها الجرأة في تدوين مذكرات عن هذه التجربة من جهة أخرى .

    على الرغم من ذلك فإن الكتاب ينطوي على أهمية سوسيو ثقافية تتركّز في ضرورة إطلاق صيحات متكررة من هذا النوع للأنثى الكاتبة، لتتمكّن من فضح الكثير من الزيف على المستويات كافة في هذا السياق، ولتتمكّن من دحر مقولة الفرزدق التي ما زالت ماثلة وفاعلة حتى يومنا هذا، حين علّق على ما روي له عن امرأة قالت شعراً: ((إذا صاحت الدجاجة صياح الديك فاذبحوها))، نحو توكيد عصري يتمثّل في أن صوت الأنثى الإبداعي ليس نذير شؤم يجلب الويل والثبور والخراب كما اعتقد الفرزدق دفاعاً عن نموذجه، بل هو بشير خير ومحبة وجمال وسعادة ورقي وحضارة .

    زينب البحراني في كتابها ((مذكرات أديبة فاشلة)) كانت تسرد قصصاً قصيرة بقدر ما كانت تسجّل مذكرات سيرذاتية حيّة وذات طبيعة وقائعية تعمل لحسابها، وأظهرت قدرة جيدة على إدارة دفّة السرد في سياق مذكراتي بحاجة إلى قدر كبير من الحجاج، الذي قد لا تكون بحاجته كثيراً في حالة صوغ قصة قصيرة بآليات صناعة سردية لها ضوابطها وأعرافها التشكيلية في اللغة والصنعة وإقامة عناصر المعمار الفني وطبقاته .

    لا شك في أنّ المسافة (القاتلة) بين حدود الواقع وفضاء التخييل في الكتابة هي مسافة حادّة وشفافة ودقيقة ومحرجة في الوقت نفسه، وهو ما يحيل على طبيعة الكتابة الإبداعية في التخييل والكتابة السيرذاتية في ترجمة الواقع، بالرغم من أن كتابة السيرة بمختلف أشكالها لا تتوقف عند حدود نقل تجربة الواقع كما هي، بل ثمة إجراءات نوعية يقتضي حضورها في الكتابة السيرذاتية للوصول إلى الكيفية التي يمكن أن تجيب على أسئلة النوع الكتابي السردي، حيث تتشكّل لغة سيرذاتية خاصة وصنعة كتابية سيرذاتية خاصة، وأرى أن كتاب ((مذكرات أديبة فاشلة)) على هذا الأساس كان كتاباً سيرذاتياً (ناجحاً) على المستوى الفني، وقد حقق مطابقة بلاغية بصرية ودلالية مع الصفة (فاشلة) في عتبة العنونة .

ليست هناك تعليقات: